الثلاثاء ٩ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

سوسنة الغياب

للقضاء على تعب الانتظار وامتصاص مرارته، استرخى فوق المقعد الخشبي، أضاء المساء القمري الدافئ بطيفها، وترك نسيمات الهواء تبعث بملامحه وتزرع في د واخله أحاسيس تغزل الألحان.

استوى عشقه، فارتمى كمن هده التعب فوق العشب الناعم، عيناه تتصيد النجوم المتلألئة، وأذ ناه غارقتان في حمى وقع خطواتها.
إنها حمله العتيق، وبيته المشيد في بريق النجوم، ولأن اللقاء يحلو بها، أخذ يشدو تراتيل عشق وتمنى ألا تتأخر وتأتي كتلك الحمامة لبيادلها الهديل وليطير بها بعيداً، وليفتش في مجاهيل الفضاء عن أنشودة ترددها كل الكواكب.

على الرغم من مرور نصف ساعة على الموعد، إلا أنه ظل يبحر في شرايين اللقاء وطيور الأمل تغرد في داخله ألحانها الجميلة، بغتة استفاق الظمأ في أروقة روحه، فاستدعاها بخياله، فجاءت " تتمختر " بقامتها وطلعتها البهية، بمحياها المشربة بحمره الصحة، بوجهها الذي تعرش فيه الطفولة، ثم اندفعت إليه تسلم , تسبقها رائحة عطرها المميز، سوسنة وجهها يغمر الحديقة بالشذا أو بالندى، ما أجمل شفتيها، قليل مثلهما، مصبوغتان بالعسل وتحرضانه بالنزوح إليهما، ما أروع شعرها، ضاع في مداه وهو يكتشف طوله ولونه، غرد الدم في جسده حين ضمها إلى صدره، أخذ يتحسس أذنيها في حنان، فمالت على كتفه وهمست في أذنه عبارات يحلق لها كل خيال، كم تمنى أن يداعبها , يزرع من بهائها مرجاً، يمخر عباب جسدها فوق العشب الدافــئ، لكن حارس الحديقة انتزعه من دفئه إلى صقيع تلفه الظلمات وهو يطلب منه الجلوس على أحد المقاعد.

أينع الانتظار على نوافذه كدالية فتنهد من أعماقه وتمتم بينه وبين نفسه:

"هل أخذها موج النسيان؟"

قطع شارعاً، مر بمئات الوجوه، بدأ يلتطم بيد هذا وكتف تلك دون أن يكلف نفسه عناء لفظة ( عفواً) وصار يضرب الطريق بقدميه مثل من
تبحر سفينته إلى ساحل مجهول.

دخل محطة الحافلات وعلى وجهه ما يشبه الكآبة، ولم ينتظر في وقفته طويلاً حتى جاءت عشرات العيون التي ازدحمت داخل علبة من السردين، وببهجة طفولية راقب الركاب وهم ينزلون واحداً واحداً، ووسط الزحام وجد نفسه يتوه بين الكتل البشرية، أرسل بصره عبر الرؤوس والأحجام، فاصطدمت نظراته بوجوه وظهور غريبة جعلته يحس بالاستسلام:

" لم تأت، ربما في الحافلة القادمة"

اتسعت المحطة بالحافلات، الثانية، الثالثة، الرابعة، ونزلت منها عشرات العيون:

" لعلها في الطريق الآن "

"الخامسة، السادسة، السابعة:

" لعلها جاءت وغابت في الزحام دون أن أراها"

حملته أفكاره إلى مساحات من قسوة الانتظار والضـجر، فغادر المحطة بقلب شارد على خطوط التيه، وعيناه لا تفارقان الأرصـفة المزدحمة بالناس.
أصوات المارة تخترقه، فينسج صراخا صامتا في خاصـرة الهواء، ويدعو البهاء إلى حفلة من الانهيار، الشوارع تكنسه فيعود إلى شـواطئ الكلام، ليشهد كم من العذاب يمر من حدقاته وحدائقه، ليشهد كم من وليمة هو لأصفرار الريح فوق المكان، لكنه مع كل خطـوة يهيئ الروح للحظة اللقاء، يمشط شوارع مقفرة وأرصفة سراب، ووجهها يتشكل أمامه أزهار ياسمين، غير أن لحظة اللقاء تتضح كعروس، سقط جسده في نهر المخلوقات، فترك قلبه ينوب عنه ويفتش من جديد بين الوجوه، نفض المارة من دروبه، والوجه السوسني ضاع.

ما زال الوقت مبكراً والطرقات حبلى بها، فكيف يغيب عنها أو يغيبها؟ ها هي آلاف الشوارع تطلع له، توسدها خطواته المتعبة، وتطلع له آلاف الوجوه، يتشربها وجهاً وجهاً حتى الغياب، وما بين المحطة والبيت يجلده الزمن وترميه المسافات.

فجأة انتشل نفسه من وسط تلال الذهول والذبول وودَّ لو يصل إلى البيت بسرعة، وحين دخل البيت كانت الحسرة قد عرشت في حناياه لأنه لم يجد وصلاً ولا وصالاً إلا بالخيال، دار في الغرفة كالبيكار في برزخ من نار وأشعل سيجارة "ليتها جاءت" تمتم ذلك ويده اليسرى تطبق على العلبة وتكاد تفتتها.

شاهد مذبحة المكان فتمدد على سريره وهو مضرج بالتعب، كان وسط أفكاره وانفعالاته، حتى انه نسي أن يخلع حذاءه، وقبل أن يقترب من سواحل الكآبة والملل ويرحل مع شروده إلى جزر سوداء، جاء رنين الهاتف ليخرجه من صمته التأملي، وكان ما يزال يوغل في تضاريس وجهها.

رفع السماعة ووجهه ثابت القسمات كأنه خلف غمامة شاحبة، فسمع صوتاً جمدّه في مكانه للحظات، ثم أسـقط السماعة من يده، فجأة أطلق صرخة مدوية، اتبعها بصوت عال:

ـ لا.. لا.. لا...

وتحولت لاءاته إلى طيور غريبة الشكل وسوداء، ثم خرجت دفعة واحدة من النافذة، حلقت في سماء المدينة، وراحت تضرب أجنحتها بوجوهها، وتطلق زقزقات غريبة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى