الأحد ٢٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم الطاهر مرابعي

هيمنة المؤسسة

المؤسسة مصطلح بروتوكولي شديد الحساسية لدى كثير من الناس، فهو غالبا رهين جهات رسمية لها أطرها القانونية وأدواتها العملية التي تخوّل لها تنفيذ مهام بعينها في إطار من المشروعية التي لا تحتاج إلى نقاش، كما أنها غالبا تصورات لصيقة بالسياسة ومفهوم الدولة.. وشاع بين الناس إطلاق مصطلحات "مؤسسات الدولة"، "المؤسسة العسكرية".. وغيرهما وهي على كلّ مؤسسات فِعلية تستحقّ بجدارة ما علِق بها من ألقاب القوّة، غير أن ثمة مفهوما أصدق وأوكد لهذه الكلمة وهو حقيقة المدلول الخفي للمعنى المُوارَى؛ ذلك أن المؤسسة في إطارها العام وبعيدا عن أي تسييس هي تلك "النظم والأعراف، ومجموع العادات والتقاليد التي تفرض وجودها وهيمنتها على الفرد والجماعة بكم من طريقة وأنه يقتضي الأمر بإزائها التحايل والتهرب للتملص من التزاماتها المشروعة أو غير المشروعة في نظرنا"، فبهذا المفهوم تتحدّد معالم المؤسسة بوصفها قوة خارجية تنبع من الداخل وتمارس نفوذها على الجميع إلى درجة التي يمكن من ورائها تحديد التهم وضبط خيانة الخارجين عنها وإعلان إفلاسهم وبالتالي استحقاقهم العقاب وبالمثل يمكن العكس، أي إثابة المحترمين لحدودها والملتزمين بضوابطها، وإلى هذا الحدّ لَمّا يزل كلامنا بعيدا عن إجراءات الاستدعاء والتنفيذ التي تمارسها المحاكم ودور الشرطة وغيرها.

يصطبغ مفهوم المؤسسة في حقيقته بمعنى "المحافظة" على القيم المتداولة التي تمارسها الجماعة وبمعنى أوضح "بعث فرص الانسجام في ظل هيمنة أطراف الاختلاف وتنادي المصالح الفردية"، لذلك يمكن الحديث عن قانون لهذه المؤسسة يفرز كل تصور بما في ذلك تصور العقاب وحتى تصور الممارسة التي تمت المعاقبة عليها.

ويظل مفهوم المؤسسة مرِنا إلى الحدّ الذي يمكن ملاحظته به سرابيا، بعيدا عن أي إمكانية للضبط، فهو محكوم بقانون المصلحة البشرية الآنية ونظرتها المستقبلية الاحتمالية، وداخل هذا النظام يمكننا أن نتحدث عن نُظم، بل وأكثر أن نتحدث عن تشكيل لمؤسسات صغيرة تمارس سيطرتها على مجموعة أفرادها الصغيرة في ظل القانون العام للمؤسسة الكبرى "الأم" وهي المؤسسة التي تتشكل بقوة خطيرة من منابعها الروحية الدينية إضافة إلى مجالها الحيوي الدنيوي، وهاهنا يمكن للأفراد والجماعات القليلة - بشيء من الحرية- تشكيل مؤسساتهم الخاصة التي تفرز بدورها أنموذج العقاب والثواب على التابعين لها.

فمن جملة هذه الممارسات يمكن إيراد تصورات معينة في هذا المفهوم وليكن "النظم الدينية المذهبية شبه المُمنهجة" التي يلتزم بها أفراد بعينهم، فبالنسبة للعقيدة الدينية يمكن لأفراد مسلمين مثلا أن يتفقوا على أمور في العبادة والتوحيد وغير ذلك مع تفاوت ممارساتهم وحتى فهمهم للنص الجوهر إضافة إلى قدراتهم على تنفيذ هذه القناعات، وتحت مسؤولية هؤلاء الأفراد عينات من الأبناء - كنموذج مبسط - نتوقع أنهم سينهلون منذ طفولتهم من ينابيع هذا الدين بهذه المفاهيم الخاصة من الوالدين والتي تختلف جزئيا عن مفاهيم أخرى لقريبين جدا لهم، كاختلاف تصور هيئة حجاب المرأة أو اختلاف تصور الأخذ بمظاهر العصر الوافدة من الثقافات الغربية في الملبس والمأكل، وإذا كانت مثل هذه الاختلافات في بعض الأحيان اجتهادات فإنها في أحيان أخرى نماذج لمؤسسات تمارس سلطة على المنضوين تحت لوائها وتحشرهم على أساس ما أتيحت من أدوات - بما أننا في حديث عن الأسرة- تحت ضغوط نفسية واجتماعية من داخل المؤسسة وخارجها تفرض عليهم الالتزام بهذا النمط من الحياة، في حين تعتبر المخالفة بداية نقطة عقاب تكون بالهجر أو الضرب أو القدح الاجتماعي "الغيبة" أو غير ذلك، وتمارس هذه المؤسسة المحدثة هيمنتها بالمثل على الهيئات التي شرّعتها، بل وتكون المعاقبة أشدّ لو حصلت مخالفة لضوابطها، ولا يشترط طبعا في هذه المخالفة قرارات المحاكم بل إن المؤسسة تحمي ذاتها بنفسها ولو تتبعنا الأمر لأدركنا بأن طرق عقابها أشد وطأ من العقاب القانوني، فما الهجر والشتم والإعراض عن الحديث والاتهام وسقوط قيمة الأفراد بين أقرانهم إلا صور من العقاب "الطبيعي" "البدائي" "الاجتماعي".

تحمي المؤسسة نفسها بصورة تلقائية وما على المنضوين تحت لوائها إلا الاستسلام لأمرها، والخروج عنها لا يعني إلا بداية ثورة من السخط والنقم، وحتى الخروج من المؤسسة "المميزة" إلى أخرى - ولو كانت قريبة- يبدو أمرا غير ممكن، وفي حال حصوله لا بدّ أن يعني الدخول في نظام مؤسسة أخرى "معترف بها" وإلا لعدّ ظلما صارخا، وأكبر نموذج يمكن الاستشهاد به هنا هو فكرة "تعدّد الزوجات" التي تعني بالنسبة للمسلمين سُنّة من السنن المهجورة، ولسوف يستحيل الأمر إلى بدعة وجريمة قانونية وأخلاقية لو حصل الأمر من رجل غير منخرط في المؤسسات الدينية، بل وسيكون الرجل ذاته فردا مجرما شرعا وقانونا لو فعل ذلك؛ فهو أوّل المبادرين بدخول المؤسسة التي لم ينتم إليها على شيء من القناعة، ومنخرطٌ متطفل على قيم لا يعترف بها إلا أن اعترف بها اعتراف مفتون أو مجنون، وحينها يبدأ - هو- فعليا بتكريس جنونه من خلال التلاعب بقيم لا يؤمن بها مما يجعل من عقله وادًا من الأفكار التي تصبّ في بحرين؛ بحر مصالحه التي يبحث لها عن تبرير وبالتالي استغلال كل المؤسسات والقوانين لذلك وانشغاله بذاته وإهماله لمتطلبات الالتزام الجديد، وبحر الاستهتار بالقيم المختلفة والتلاعب بها.

وجدير أن يكون تعدد الزوجات قضية تمثل "حلا" لا أزمة مضافة إلى الأسرة؛ فهي من المتطلبات التي تفترض قناعة لا إجبارا في الممارسة لذلك كان للمؤسسة الدور الأوّل في تثبيت ذلك أو كسره، فهي التي بَنَت أسرتها على أساس الوقوف عند حدود الشرع والعمل بها والتي ظلت تنبذ كل سلوك دخيل عن أعرافها وهي بذلك أقرب المؤسسات إلى هذا التوفيق، فالمنتمون إليها من طبقات تحترم مصادر تشريعها وفي أسوء الحالات تستحي أن تعارضه في حين المؤسسات التي بنت أرصدتها على قناعات مادية ولم تُول الحدود أهمية هي الأقرب لعمليات الهدم والردّ المفزع، فلا أفرادها منهمكون تحت خطاب التحريم والتحليل ولا هم مستعدون لقبول تغيير على هذا النمط.

ويبقى أن الهروب من مؤسسة إلى أخرى أكثر أمنا وإن كان لا يخلو من مغامرة فالذين يجمعهم إيمان بشيء لن يفرقهم ضرر تبعه ولو كان غير مسنن في تقاليدهم إلا أن الهارب إلى المؤسسة الأخرى غالبا رجل سطوة لا رجل قناعة يملي عليه قلبه ما لا يمليه عليه عقله، وعلى أساس ذلك يتشكل سلوكه كخليط من العبث والانتقاء المصلحي من عدد من الجهات والمؤسسات التي يَتوقع أن توفر له الحماية وفي هذه الحالة بالذات ينشغل لا شعوريا بتكريس الظلم المقنع والاعتداء المبرر كبداية تليها مرحلة الانغلاق على الذات والاحتماء من أي خطاب خارجي يكون غالبا هادما لسلوكاته.

حين قرأ المسلمون الآية الكريمة "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" انهالوا جميعا على ولاة أمورهم وعدّوا تبعات كل المحن أخطاء تسيير يتحمل أوزارها القائمون على السلطة وحدهم وتصوروا التغيير مجرد "اتخاذ قرارات" ونسوا أن المؤسسة الاجتماعية هي من يفرز الحكّام أنفسهم كما أنها من يفرز نظم المجتمع، حتى تلك النظم التي ينبذونها، ذلك أن طبيعة وعيهم ومنتهى قناعاتهم تَخلُص إلى تصفية طبقة من المواقف التي تغطي نشاط المجتمع سلبا أو إيجابا، ولو أن أمة وَعَت بكامل القناعة مسؤولياتها وحرصت اعتقادا وعملا على تجنب مسالك بعينها لصعب وعُدّ شذوذا كل تصرف لا ينتمي إليها غير أن الأمور إن اختلفت تحولت المؤسسة ومن ورائها المجتمع إلى مكرّس وحام لهذه المظالم.

وليس غريبا أن يكون الشرّ شرا أينما حلّ وعند كل الناس، لكنه غريب جدا أن يتحول الشرّ إلى خير ما كان مصلحةً لصاحبه وهو هنا بالذات التكريس الفعلي له، وفي مثل هؤلاء القوم قال الله تعالى "يقولون مالا يفعلون"، وليس من تفسير نفسي ولا منطقي لهذه الآية إلا أن تكون المصلحة بالنسبة إليهم فيما يفعلون مع علمهم بعِظم تخطيهم للحدود، وهاهنا يصلح فيهم وصف أن يكونوا ممن قالوا "سمعنا وعصينا" وجميع هذه السلوكات لا تزال حتى الآن مفصولة عن المؤسسات السياسية والرسمية في حين أنها تنتمي إلى "العقلية" التي تؤسس للمجتمع.

المجتمع إذا هو الجهة التي تفرز الضوابط والنظم كما أنه من يتحمل مسؤولية هذه الإفرازات خصوصا في جانبها السلبي الذي يجعله يعيش متهافتا على أنقاض بعضه ويتركه عرضة للمرض الداخلي الذي يستنزفه، وهنا بالضبط تحضر الآية من جديد "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" أي حتى يغيروا من قناعاتهم السيئة التي صنعت واقعهم السلبي، وبحصول التغيير في قناعاتهم سيحصل التغيير في نتائج أعمالهم التي يعدّ الواقع المشترك جزء منها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى