الخميس ٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم محمد متبولي

العصفور

وقفت والسكينة تملأها وهى تتابع طفلها يداعب عصفوره الصغير بينما تعد هى له الطعام، انها المرة الاولى منذ أشهر التى تشعر فيها بالهدوء، فطالما شهدت فى حيها تلك المعارك الطاحنة التى راح زوجها ضحية احدها، فى عتم الليل ووضح النهار تضاء السماء بقنابل الطائرات، يحاصر الجنود الحى، يفتشون المنازل، يبدأ تبادل اطلاق النار بين ابناء الحى والجنود، كأنها مواجهات بين جيشين أحدهما من القرون الوسطى والآخر من القرن الثلاثين، بنادق وطبنجات ضعيفة الاطلاق قليلة الطلقات، فى مواجهة احدث انواع الرشاشات والدبابات والصواريخ، طلقة طائشة تستقر فى فى قلب العامل البسيط غير المقاتل لتصرعه فى الحال، قذيفة غادرة تسوى المنزل بالارض، فى يوم واحد تفقد عائها ومسكنها، وفى سرعة تضم طفلها الى صدرها وتركض وهى تحمله ويحمل معه القفص الصغير الذى اصر على حمله وبه زوج العصافير.

تتنقل بين المخيمات، تحيا هى والصغير فى بؤس وفقر مدقع على معونات اهل الخير وبعض المعارف الذين لم يكونوا احسن منها حالا، وفى نهاية المطاف نجحت فى الحصول على وظيفة ببضع نقود قليلة لكنها كانت كافية للحياة فى منزل صغير بعيدا عن مناطق القتال، ليصطحب الطفل عصفوره المتبقى بعد ان فقد وليفه بسبب ظروف المعيشة فى المخيم، وتصطحب هى ذكريات الألم ولحظات الرعب ومناظر الدماء، الا انها لا تنكر راحتها النسبية لهذا الهدوء الذى لم تعتده، كانت تسأل نفسها مالها والقتال، وما لهؤلاء الناس يتقاتلون، يدكون المنازل، ويقبضون ارواح الابرياء، ويحرمونها هى وزوجها من حلمهما البسيط ( العيش على فقرهم فى هدوء وتربية الصغير).

تشق ضوضاء المحركات الهدوء، تعلوالاصوات، تنظر من النافذة انهم الجنود من جديد، تحتضن الصغير، يتشيث بالقفص، تركض بهما علها تستطيع مغادرة الحى قبل بدء القتال، يبدأ الاطلاق بينما هى تركض، لتنجح ايادى الغدر فى النيل من هدفها الاخير، تفتك برأس الصغير، تفقد الام صوابها،تمسك بحجر حاضنة جثة الصغير وممسكة بالقفص الشئ الوحيد الذى تبقى منه وتندفع صوب الجنود، يصيبها الرصاص من كل جانب، يخترق الرصاص جسدها ليصبح كالمصفاه كثيفة الثقوب، تسقط حاضنة الطفل امام حذاء احد الجنود والدم يغطى وجهيهما.

يرطتم القفص بالارض، يفتح الباب، يشق العصفور طريقه للحرية، يغرد فى السماء، يعلوصوته على صوت النيران، ينظر اليه الجندى من بعيد وقد توقف القتال، يصوب نحوه، يسقطه فيسقط فوق جثتى رفيقيه، لتتحرر ارواحهم اخيرا من عناء الجسد والحياة المرعبة، لتلتقى الاسرة مرة اخرى فى عالم آخر، تكون السعادة فيه هى الحقيقة لا الحلم، وتتحول فيه انهار الدم الى انهار الحب، ويحيا فيه الجميع فى هدوء، بينما يقف الجندى مزهوا بقدرته الفائقة على اصطياد هدف متحرك حتى لوكان عصفور صغيرا وقدميه تركل الجثث ليتأكد من مفارقتها الحياة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى