الأحد ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم عبد الرحيم سويسي

أزمة اقتصادية أم أخلاقية سياسية؟

• إنقشع الضباب وذاب الثلج وسقط القناع وانجلت الحقيقة، وانكشفت سوأة النظام الرأسمالي المتوحش وعديم الإنسانية.

• سقطت مقولة اقتصاديات السوق الحر ومقدرته على تصحيح نفسه دون حاجة لتدخل الدولة، وإذا بالدولة مضطرة لتحمل أعباء هذا السوق وأخطاء هذه السياسة الجامحة، والدولة ذاتها هي الملزمة اليوم بدفع فواتير الإنقاذ الباهظة وتصحيح الأوضاع الشاذة والمدمرة التي نتجت عن ترك السوق بلا كوابح.

• لقد تأكد اليوم للجميع –ولكن بعد خراب البصرة – أن الدولة وليس السوق هي الضمانة لرفاهية المواطن.

• أفلس الليبراليون الجدد واستسلموا أو هربوا تاركين البشرية تضمد جراحها وتنقذ نفسها ومستقبلها من المصير الأسود الذي قادوها إليه...وتركوا البشرية تدفع ثمن طيشهم وتهورهم وجشعهم وانعدام إنسانيتهم وثمن كل جرائمهم.

• في خريف عام 2008 مات ميلتون فريدمان مرة ثانية بعد موته الأول عام 2006، وخرس فرانسيس فوكو ياما وتوارى عن الأنظار والأسماع، وتقلب ريغان في قبره، وحمد مريدو مارغريت تاتشر الله على خرفها، وأُنزل المحافظون الجدد عن المسرح لانتهاء دورهم أو قل لفشل دورهم.

ما هذه الديمقراطية

العالم بأسره يتساءل اليوم ما هذه الكذبة الكبيرة التي خدعتنا وعشناها كل هذه السنين، والتي تلاعبت وقامرت بمستقبلنا وبمصير العالم والتي تسمى ليبرالية جديدة ورأسمالية ديمقراطية وما إلى ذلك. ديمقراطية السوق الحر التي سمحت بتحويل كوكبنا إلى نادي عالمي للقمار يدخله البنوك والمرابون والمضاربون ويلعبون فيه القمار بأموال ليست لهم.

ديمقراطية اقل قدرة على اكتشاف دهاء وخبث ولؤم مجموعات (المرابين والمضاربين والسماسرة واللصوص) الذين لا هم لهم الا الربح، ديمقراطية تحمي هؤلاء الطفيليين الجشعين الذين يسرقون تعب وإنتاج الآخرين وتسمح لهم بتدمير حياة الانسان.
ديمقراطية تُشلح الناس بيوتهم وتتركهم في العراء، وتسلب الناس مدخراتهم، وتتاجر بأقواتهم، وتهدر كراماتهم وتستبيح حرماتهم، وتتنصت على مكالماتهم، وتتجسس على خصوصياتهم، وتقدم لهم المعلومات الكاذبة والمضللة.

ديمقراطية لم ينجُ منها لا البشر ولا الشجر ولا الحجر، ولا الغذاء ولا الماء، ولا السماء ولا الفضاء ولا الأرض ولا البيئة. ديمقراطية تتفنن في ابتكار الحبال التي تلف على أعناق مواطنيها، فهذا حبل اسمه الرهن العقاري، وذاك حبل يسمى بطاقات الائتمان وثالث يدعونه قرض يوم الراتب... وتطول قائمة المسميات والحبال التي تُحمل المواطن ما لا يقدر، وتُسهل حصوله على المال وتغرقه في الإسراف والإنفاق الزائد،من أجل إدخاله في دوامة الديون مدى حياتة.

رأسمالية تطارد الجميع في كل مكان... حتى الشرائح الضعيفة مثل الطلبة والجنود المسرحين والناس البسطاء.... لا أحد يسلم من مخططاتها الرهيبة التي تقوم على تحقيق الأرباح ولآجل ذلك تتبنى وتنشر ثقافة الاستهلاك المفرط، وتسعى للإيقاع بالناس والهيمنة عليهم وتوريطهم وإغراقهم مدى الحياة في عبودية الدين، هذه العبودية التي يصح أن نطلق عليها اسم رقيق الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين.

ما هذه الرأسمالية التي تتحفنا كل بضع سنين بأزمة اقتصادية خانقة أو تضخم أو كساد أو إفلاس أو انهيار في شتى أرجاء المعمورة،وأحيانا تطل أو تهجم علينا بكارثة عالمية تفوق في تأثيراتها أعتى الأعاصير والزلازل وأفتك الحروب.

في عام 1929 تسببت لنا هذه الرأسمالية بالركود الكبير الذي كان مقدمة وسببا لنشوب الحرب العالمية الثانية، ومن بعد أدخلت العالم في سياسة الأحلاف العسكرية والمحاور وسباق التسلح والحروب الباردة وغير الباردة. واثارت النعرات بين الأديان والأمم،ونشرت الفتن وبثت الدسائس وحاكت المؤامرات ودبرت الانقلابات، وأعادت تقسيم العالم وتدخلت في شؤون دوله، واستبدلت الاستعمار القديم بأخر جديد، وأفرزت الكثير الكثير من الظواهر الغريبة والشاذة. وها هي اليوم تحدث في العالم زلزالا ماليا لا نعرف كيف ينتهي ولا متى ينتهي ولا أين ينتهي ولا إلى أي مدى ستصل تأثيراته.

ما هذه الديمقراطية التي لم تستطع أن تمنع رئيس أكبر دولة في العالم من أن يكذب على شعبه والعالم و" الكونغرس" في بلده، ويؤلف ويختلق وينشر الأكاذيب والحجج والذرائع من أجل شن حرب طاحنة على دولة ذات سيادة، وتدميرها وقتل مليون طفل وامرأة ومدني من شعبها، ونهب ثرواتها وتاريخها وأثارها القديمة وتشويه مستقبلها.

ما هذه الديمقراطية التي تواصل التأمر على شعب صغير مسالم كالشعب الفلسطيني، وتواصل خداعه وطمس حقوقه. فبعد أن سهلت سلب أرضه وكينونته، وبعد أن أقنعته بالتنازل عن80% من حقه، ها هي ما زالت تماطل في إعطائه الأمان في ما تبقى له من أرض، وتفرض عليه الحصار والتجويع والشرذمة والتقسيم والتشتت،في محاولة منها للإلقاء بهذا الشعب إلى نفس المصير الذي ألقت به الهنود الحمر.

ما هذه الديمقراطية التي تقوم انتخاباتها على تشويه الوعي وتضليل الناس، وتمنحهم فقط حق اختيار واحد من مندوبين أثنين، كلاهما يمثل أصحاب المليارات والشركات الاحتكارية وأباطرة المال والنفط والسلاح. انتخابات تقوم على مبدأ ان من يصرف وينفق ملايين أكثر في حملته الانتخابية فانه سيفوز، ومن لا يملك هذه الملايين فليبقى في بيته وليستسلم لبطش المضاربين والسماسرة والمرابين واللصوص.

ديمقراطية لها في سياساتها ومسلكها ألف مكيال ومكيال، ولا تخجل من الكذب والنفاق والاحتيال. انتهازية ظالمة لا ترحم،وإنما تغدر وتبطش وتبتز وتسرق وتبيد. ديمقراطية متغطرسة متبجحة وشعارها المعلن "الغاية تبرر الوسيلة".

ديمقراطية تدعم الأنظمة الفاسدة والاستبدادية على طول العالم وعرضه، ما دامت هذه الأنظمة تحافظ على مصالح الشركات الدولية الاحتكارية، حيث يتبخر أو يؤجل أو يتم تناسي كل كلام عن العدل والشفافية وحقوق الإنسان والحريات والتداول السلمي للسلطة وما إلى ذلك من تعابير جميلة أفقدتها هذه الديمقراطية الرأسمالية معانيها الجميلة وحولتها إلى تعابير جوفاء.

ديمقراطية بلغ بها النفاق والفساد أن تدعم السلطة والمعارضة في آن واحد في أي دولة تقع ضمن دائرة مصالحها، رغم ما بين هذه السلطة ومعارضيها من تباين أو احتراب، حيث تذوب لدى هذه الديمقراطية تلك الفوارق أو تؤجل الى أن تنتهي تلك المصالح. والى ذلك الحين تستمر هذه الديمقراطية باستغلال هذه الخلافات واستنزاف أطرافها وابتزازهم بعيدا جدا عن الأخلاق والشرف، وتجتهد وتتفنن في تطبيق سياستها التقليدية والمفضلة لها ألا وهي سياسة "فرق تسد"،ودعم وتقوية الطرف الذي يضعف كي يقوى من جديد ليستمر الصراع وليستمر النزيف.

ديمقراطية تقوم على البحث عن الجواسيس والاتباع، والإيقاع بهم وربطهم بها بإسقاطهم في مستنقعات الفساد والرذيلة والذل والخسة، وتوريطهم بأعمال غير أخلاقية وغير إنسانية وغير قانونية، وهكذا يتم إفراغهم من أي محتوى أخلاقي أو وطني أو إنساني، ويسهل ابتزازهم بشكل دائم بعد تحويلهم الى وحوش بشرية.

ديمقراطية سرعان ما تنقلب على جواسيسها وأتباعها فور انتهاء أدوارهم أو عندما تجد من يقوم بهذه الأدوار بشكل أقدر منهم... عندها تعود هذه الديمقراطية وتتذكر أو تكتشف من جديد أن هؤلاء الجواسيس والأتباع كانوا فاسدين ومعادين لحقوق الإنسان وغير ديمقراطيين!.

ما هذه الديمقراطية التي تفرز وتحمي ظواهر شاذة وغريبة عن الفطرة، ومشوهة للطبيعة البشرية والسلوك القويم مثل شركات الدعارة العالمية وظاهرة مثليي الجنس وكارتلات المخدرات وتجارة البشر والرقيق الأبيض والجوع وعمالة الأطفال وأطفال الشوارع وبيوت الصفيح وسكان المقابر والأسر التي لا مأوى لها وما الى ذلك.

ديمقراطية تُفقد الإنسان إنسانيته، وتركز على شكله الخارجي ولونه ودينه وجنسه على حساب الثقافة والفكر والوعي والعطاء والذكاء. ديمقراطية تسعى لتحويل البشر الى ما يشبه الدمى، فاقدي الخصوصية، مجمدي العقل، بليدي التفكير،عديمي الفكر ومخدري الإحساس. ديمقراطية تغرق الإنسان في بحور من الهموم والمشاكل والسعي المحموم وراء رغيف الخبز، حتى لايبقى عنده متسعا للتفكير ناهيك عن التغيير.

ديمقراطية تشوه الوعي والذوق والمشاعر، وتفرض على الإنسان أجواء من المفاهيم اللزجة مثل اخرموضة ومسابقات ملكات الجمال وعمليات التجميل وثقافة " الفيديو كليب" وإثارة الشهوات وتجاوز كل شيء في سبيل الحصول على المتعة.

هل من بديل..؟

أمام هذه الصور غير المشرقة وغير المشرفة للرأسمالية ولديمقراطيتها، يصعب الاستمرار في الترويج لها، ويصعب على أصحاب العقول النيرة الثقة بها أو التصديق لها أو اعتبارها الأنموذج الأفضل للبشرية، أو الاتفاق مع من يقول ويزعم أن هذه الديمقراطية الرأسمالية هي ذروة تطور الفكر الإنساني ونهاية التاريخ.

على المقلب الآخر من يستطيع مثلا ان يمنع المفكرين الإسلاميين من النهوض والافتخار بصوت عال قائلين أن شفافية الإسلام تتفوق على شفافية " ديمقراطية المضاربين" وان عدالة الإسلام أسمى من عدالة الرأسمالية المتوحشة

هل الحل إسلامي؟؟

وإذا كان الإسلام يقبل بالديمقراطية السياسية- حكم الأكثرية - كما في قول الرسول لأبي بكر وعمر ( لو اتفقتما على رأي ما خالفتكما )، فإن الديمقراطية الاقتصادية أو الرأسمالية القار ونية مرفوضة،لان الإنسان في الإسلام مستخلف بالمال ضمن ضوابط وقوانين، وملكية هذا المال تعود لله، وقد تعهد بأن يمحق الربا وهذا ما نراه بأم العين ماثلا أمامنا اليوم، حيث تتبخر مليارات البنوك التي جاءت من الفوائد.

وكما يحارب الإسلام الربا فانه أيضا يحرم المضاربة وأكل حقوق الآخرين ويحض على التكافل والقرض الحسن، وهذا ما يجعل قسم من العالم يقبل على دراسة الاقتصاد الإسلامي بحثا عن علاج للأمراض التي خلفَتها ونشرتها الرأسمالية في مرحلة الامبريالية والعولمة.

اقتصاد سوق اشتراكي

ومن يستطيع أن يُقلل من نجاحات وتميز التجربة الصينية التي تحقق على مدار سنين متتالية معدلات نمو قياسية، تجربة تقوم على أساس( اقتصاد سوق اشتراكي)، حيث يتم المزج ما بين النظام السياسي الشيوعي ونظام اقتصادي شبيه بذلك النظام الذي ساد في بداية تدشين الرأسمالية الاقتصادية في ثلاثينات القرن ال 19 والذي كان قد بشر به غيزو في فرنسا.

عشرة بالمائة فقط

ومن يستطيع اليوم أن يمنع أنصار الفكر الشمولي من العودة لقولهم القديم بان لا فرق بين شعاري ديكتاتورية البروليتاريا والديمقراطية البرجوازية من حيث المفهوم، لان كلاهما يعني السلطة،أحدهما يعني سلطة العمال، والآخر سلطة أباطرة المال، وأن الفرق العملي بينهما يتمثل في أن سلطة العمال أوسع وأشمل وأكثر إنسانية.

ومن يمنع الشيوعيين وأنصار التجربة السوفيتية وهم يرون كيف يضطر سكان الأرض الى تخصيص أكثر من 3.5 تريليون دولارا (12 صفر على اليمين ) لوقف التدهور فقط،ولإطفاء الحريق ولمنع سقوط الرأسمالية. من يستطيع أن يمنعهم من القول انه لو قُيِِض للاتحاد السوفيتي ومنظومته عشر هذا المال (فقط 10%) لما شهد العالم انهياره ولتم إنقاذه من السقوط والمحافظة على الانجازات التي كان قد حققها.

الاشتراكية الديمقراطية

من يستطيع اليوم أن يتهم تشافيز المنتخب ديمقراطيا، والذي يحظى بدعم قوي من شعبه بعدم الشرعية او التهور أو الجنون، بينما كثيرون في العالم يرون في النموذج الفنزويلي ( الاشتراكية الديمقراطية) علاجا لإمراض الرأسمالية الديمقراطية وندا ممكنا لها وبديلاً محتملا عنها، وبعد ان اثبت هذا النموذج نفسه في وطنه ها هو قد بدأ ينتشر بين شعوب ودول أمريكا اللاتينية،وبدأ أيضا يشد انتباه كل شعوب العالم الثالث.

الوصفة الخبيثة

ومع انكشاف عيوب النظام الرأسمالي المتوحش بهذا الشكل الفاضح، واثر سقوط الليبرالية الجديدة التي نظر لها فريدمان وروج لها ريغان وتاتشر والمحافظون الجدد،بجدر بنا في العالم الثالث ان نتوقف وونتراجع عن تطبيق الوصفة الخبيثة التي سوقوها لنا والمتمثلة بسرقة ونهب الاقتصاديات الوطنية للشعوب والدول الفقيرة تحت مسمى الخصخصة، وهي وصفة تضعف هيبة واقتصاد الدولة وتقوي أصحاب عقيدة سوق بلا كوابح وبلا ضمير وبلا أخلاق.

لقد شهد العالم كيف تم تحت مسمى الشراء - بأثمان بخسة طبعا - لطش وسرقة كبريات الشركات العامة والقطاعات الناجحة من قبل كبار رجال المال والمضاربين واللصوص الدوليين الذين أوصلوا الاقتصاد العالمي الى ما هو عليه من كارثة وركود وكساد وربما انهيار.

لقد سعى هؤلاء اللصوص وشركاتهم العملاقة والمتآلفة الى تحويل الحكومات الوطنية لدول العالم الى وكلاء ومندوبين لهم تسهل عليهم السرقة وتمرر لهم الصفقات المشبوهة. وبهذا أضعفوا وقوضوا استقلال هذه الدول، واسموا ذلك زورا وبهتانا " عولمة".

ما العمل..؟

ضمن أساليب الاستعمار الجديد وبحماية وغطاء من الرأسمالية الديمقراطية سعت الدول الصناعية الى استمرار استعمارها للدول الفقيرة عبر مؤسسات واتفاقيات دولية تخدم مصالحها وتضمن سطوتها على استقلال الدول الفقيرة ورفاهية شعوبها.في مقدمة هذه المؤسسات التي أذاقت شعوب العالم الثالث أشد الويلات وأمَر العذابات يـأتي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي واتفاقية الجات التي تكرس هيمنة " الكبار".

اليوم ونحن نشهد بدايات أو محاولة وضع دستور جديد للنظام المالي العالمي وإعادة هيكلته، وإعادة تشكيل المؤسسات الدولية المتقنفذة، ما أحوجنا نحن الشعوب العربية والإسلامية لان نتحالف معا،ولان نمعن النظر ونحسن التخطيط والتنسيق، لنضمن لأنفسنا التواجد الفاعل والحضور المؤثر كي ندافع عن مصالحنا ونصون اقتصادنا ونحمي استقلالنا الوطني، ونحافظ على وجودنا ومستقبل أولادنا،ولكي نمنع تصدير هذه ألازمة العميقة لنا وإرغامنا على دفع فاتورة ظلم وجور وتوحش وجشع وأخطاء الآخرين الذين نصبوا أنفسهم دون وجه حق حاكمين بشكل مطلق لهذا العالم.

ولنا في هذا المجال أن نبحث عبر العالم عن حلفاء يمكن ان تتلاقى مصالحنا واياهم بدء من الصين وروسيا والهند شرقا إلى البرازيل وفنزويلا غربا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى