السبت ٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨

الانسلاخ

بقلم: د.عطيات أبوالعينين

أطلت برأسها من مكمنها الأثير.. تلفتت يمنة ويسرة.. ملأت صدرها بعبق الحياة الذي حرمت منه شهورا طويلة وهي حبيسة في باطن الأرض.. تمطت بجسدها الانسيابي.. قفزت بمهارة فوق سطح الأرض كأنها لاعبة سيرك محترفة وراحت تزحف برشاقة..

تمنت لو طارت مقلدة الفراشات والطيور التي تحلق حولها.. تمنت لو غردت مثلما كانت تغرد البلابل على الأغصان.. تمنت لو مشت علي قدمين أو أربع مثلما تمشي الدواب علي الأرض.. تمنت لو صرخت بأعلى صوتها لتعبر عما يجيش بداخلها من سعادة.. ما أجمل الحرية.. ما أبهج الحياة.. ولكن هيهات.. هيهات..

فجأة أحست بشيء يسري داخلها لم تستطع التعبير عنه.. بالرغم من أن الحياة قد منحتها هذا الفيض من الحرية فإنها مازالت سجينة في هذا العالم الرحب المترامي الأطراف، وأن مكانها الأثير في باطن الأرض كان أرحب بكثير.. راحت تجري هنا وهناك.. تقفز وتتمطى وتتلوى وتتثنى دون فائدة.. تنفست بصعوبة.. شيء يجسم علي صدرها.. أهدابها تتحرك بصعوبة.. حاولت أن تتملص من ذلك الشعور الذي اجتاحها فجأة دون مبرر فلم تجد وسيلة للتخلص منه.. هل هي النهاية …؟ أم هي بداية جديدة…؟

تمنت لو بكت.. لو صرخت.. لو نادت بأعلى صوتها.. أنقذوني مما أنا فيه أخرجوني من هذا السجن.. ارحموني من هذا العذاب.. لكنها الحياة.. أبت إلا أن تظل خرساء. لا تستطيع أن تبوح بما في داخلها..

فجأة.. تمزق شيء بداخلها.. لا لم يكن بداخلها.. بل حولها.. انه ذلك الغشاء السميك الذي يلف جسدها.. أطلت برأسها لتداعبها نسمات الحياة، عادت إليها أنفاسها، بدأ قلبها ينبض من جديد، عاد الأمل يراودها.

سرعان ما تخلصت من هذا الإطار الذي يحتويها ويعوق حركتها، أخذ ينحسر عنها شيئا.. فشيئا.. تلفتت يمنة ويسرة.. قفزت في مهارة.. عادت ترقص رقصة الحياة مخلفة العدم وراءها ثاويا في جلدها القديم، ومنحتها الحياة شعورا جديدا مع هذا الثوب الجديد.. أخذت تتلوى وتقفز في الهواء وتلف حول نفسها في استدارة كاملة وكأنها راقصة باليه متمرسة.

انتبهت فجأة علي صوت يصرخ في أذني.. ويد تدفعني بعيدا.

احذري.. العقرب.. العقرب..

جمدت في مكاني.. بينما راحت الأقدام تدوس ذلك العقرب الذي كان يقصدني. ودمعت عيناي.. تلفت حولي متأملة هذا المكان الذي تركت بلدي ووطني من أجله.. جبال شاهقة تمتد إلى عنان السماء تحيط بي من كل جانب رمال صفراء صفرة الموت.. سماء ملبدة بالغيوم.. إلا إذا تسللت أشعة الشمس خفية في أحد الأيام.

شعرت بالاختناق.. تذكرت يوم تركت وطني مساء دون أن يأتي أحد لتوديعي وكأنني ورقة شجر جافة ذابلة لفظتها شجرتها وقت الخريف.. يومها شعرت أنني أنسلخ عن جلدي، تمنيت لو استطعت الخروج، وحسدت هذا الكائن الذي يستطيع أن يغير ثوبه كلما ضاق عليه.. ولكن هيهات.. هيهات.

رحت أحلم باليوم الذي أجد فيه نفسي عندما أعود.. ولكن ظل هناك شيء ما يجثم علي صدري..

بقلم: د.عطيات أبوالعينين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى