الاثنين ٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم حسن خاطر

رحيل الناشر المصري محمد مدبولي

شيع ظهر يوم السبت 6 ديسمبر 2008 من مستشفى القوات المسلحة في ضاحية المعادي (جنوب القاهرة) - وهو المستشفى الذي توفى فيه الرئيس أنور السادات وسيدة الغناء العربي أم كلثوم - جثمان الناشر المصري محمد مدبولي الذي توفي ليل يوم الجمعة عن 70 عاما بعد صراع مع المرض استمر عدة أشهر .

ولد محمد مدبولي في محافظة الجيزة عام 1938 م ولم ينل حظه من التعليم .. ولكنه استطاع بصحبة والده وشقيقه أحمد - الذي شاركه سنوات تألقه في عالم نشر الكتب - بناء حياة أقرب إلى الأسطورة ، فالناشر الشهير الذي نشر ووزع ملايين الكتب لم يتلق تعليماً نظامياً في طفولته بسبب الفقر، لكنه تعلم الأبجدية العربية عن طريق كتاب أولي لتعليم الأطفال كان ينشر ويوزع عن طريق مكتبته ، ثم تعلم مفردات من لغات أجنبية عدة بفضل التواصل مع رواد مكتبته من الأجانب.

بدأ مدبولي حياته العملية في السادسة من عمره كبائع صحف متجول ، في ستينات القرن

الماضي ثم افتتح كشكا – محلا صغيرا - لبيع الصحف في ميدان طلعت حرب، وسط القاهرة ، ليكون قريبا من النخبة الجديدة التي كان رموزها يجتمعون في المقاهي القريبة من هذا المكان وشكلوا معا النواة الأولى لجيل الستينيات الأدبي وهو الجيل الذي أظهر شغفا بكتب الماركسية والفلسفة الوجودية ومسرح العبث والتي كانت كتبهم هي الأكثر مبيعا في تلك الفترة ما دفع مدبولي إلى تكليف احد زبائنه، وهو الدكتور عبدالمنعم الحنفي لتأليف كتاب عن "مسرح العبث" الذي يعد بمثابة أول كتاب في مسيرته كناشر. كما كان مدلولي الناشر الأول لأعمال يوسف القعيد وجمال الغيطاني وصلاح عيسى ومحمد عفيفي مطر وغيرهم من رموز هذا الجيل وبهذا أصبح من أشهر الناشرين المصريين كما زادت شهرته منذ أن افتتح مكتبته الشهيرة (مكتبة مدبولي) التي أصبحت أشهر مكتبة بوسط العاصمة المصرية على مدى 50 عاما ، وعني مدبولي بإرضاء الأذواق المختلفة للقراء إذ كان ينشر أعمالا لأبرز الأدباء والمفكرين العرب إلى جانب الكتب ذات الطابع الشعبي.

وفي السنوات الأخيرة اهتم مدبولي بنشر موسوعات في الفلسفة والتصوف والتاريخ دون أن ينحاز لشخص أو تيار ومن أبرز ما قام بنشره موسوعة تاريخية من ستة آلاف صفحة عنوانها (تاريخ مصر من بدايات القرن الأول الميلادي حتى نهاية القرن العشرين من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة لساويرس ابن المقفع).

وكان حريصا على توفير الكتب المحظور طبعاتها وتداولها في مصر ومنها كتب لمحمد حسنين هيكل ورواية (أولاد حارتنا) للروائي المصري نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الآداب حيث ظلت تطبع في بيروت منذ الستينيات لكنها كانت تتاح لمن يطلبها من مكتبة مدبولي.

وتعرض مدبولي عام 1991 لتهديد من متشددين إسلاميين بسبب توزيعه رواية عنوانها (حصاد مسافة في عقل رجل) تأليف الكاتب علاء حامد ، وفي العام نفسه صدر حكم قضائي بسجنه بسبب توزيعه لهذه الرواية حيث وجهت للرواية تهمة ازدراء الأديان ، وتضامن المثقفون مع مدبولي لدرجة أن الرئيس المصري تدخل شخصيا وأوقف تنفيذ الحكم.

وظل كثير من الكتب التي يصدرها مدبولي موضع شك من طرف السلطات ومنها بعض مؤلفات نوال السعداوي وآخرها كتاب "الشيوخ المودرن وصناعة التطرف الديني" حيث قال مدبولي أن شرطة المصنفات الفنية داهمت مكتبته وقبضت على أحد العاملين بها وتحفظت على 280 نسخة من الكتاب بتعليمات من مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة.

وفي الدورة الأخيرة لمعرض بيروت للكتاب الذي عقد مؤخرا ، تساءل الناشرون والقراء عن سر عدم حضور الناشر المصري الشهير محمد مدبولي إلى العاصمة اللبنانية التي طالما أمدته بـ «الكتب الممنوعة» التي صنعت شهرته ، لكن الجواب لم يأت إلا مساء يوم السبت الماضي عندما أعلن الأطباء في مستشفى القوات المسلحة بالمعادي عن رحيل «وزير الثقافة الشعبي» عن عمر ناهز سبعين عاما، قضى أكثر من نصفها في نشر الكتب وتوزيعها.

ولقد قام محمد مدبولي - الذي كان يعتبر نفسه "ناصرياً" محضا- بنشر الكتاب الذي وجه اشد الانتقادات للتجربة الناصرية وهو كتاب "تحطيم الآلهة" للمؤرخ الراحل عبدالعظيم رمضان ، ورغم أن مدبولي اعتبر لاحقا أن نشره هذا الكتاب بمثابة "غلطة عمره" إلا أنه لم يمتنع عن توزيع معظم الكتب التي نالت من الناصرية حفاظاً على حق القارئ في المعرفة كما كان يقول وأيضا للحفاظ على أرباح طائلة حققها من وراء الكتب التي قام مؤلفوها بمهاجمة جمال عبدالناصر بعد نكسة وهزيمة 1967. ومن رصيف مكتبته الشهير أطلق مدبولي أشعار أحمد فؤاد نجم الغاضبة التي كانت وقود الحركة الطلابية التي عجلت بحرب أكتوبر عام 1973 م ، كما وزع معظم الكتب التي نالت من استقرار نظام السادات بعد توقيع اتفاق توقيع معاهدة كامب ديفيد ولهذا لم يكن مدبولي بعيدا خلال تلك السنوات الساخنة عن أعين أجهزة الأمن التي استغلت رفوف مكتبته كمنصة دائمة لإطلاق الاتهامات بمنع كتب أو ترويج لكتب بعينها . ونشر مدبولي ووزع كتب نصر حامد أبوزيد، فاعتبره المتشددون ناشراً علمانياً لكنه في الوقت نفسه أثار دهشة كبيرة حين قرر إتلاف كتابين للكاتبة نوال السعداوي وهما رواية "سقوط الإمام"، ومسرحية "الإله يقدم استقالته من اجتماع القمة" وعلل مدبولي إقدامه على ذلك رغم تكبده لخسائر تجاوزت 70 ألف جنيه مصري بأنه رجل لا يحب المساس بالمشاعر الدينية ولأنه "يخاف من غضب الله" وكان هذا بمثابة تحولاً مهماً في مسيرته كناشر كان قد بني سمعته كلها على تجارة الكتب الممنوعة والعداء للرقابة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى