الأحد ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
رسالة مريبة من " محفل الشرق الأعظم"
بقلم فهمي هويدي

ليست مسألة تجفيف الينابيع ولكنها دعوة لاقتلاع جذور الأمة!

هذه رسالة حافلة بالإشارات المهمة جاءتني عبر البريد من عمان العا صمة الأردنية، ولا أعرف لها مصدرا محددا وإن كنت أرجح أنها صادرة عن أحد المحافل الماسونية الناشطة في بعض الأقطار العربية، ولا دليل عندي على ذلك سوى أنها خاطبتني بصيغة الفارس الشهم(!) ووقعها شخص ينتسب إلى جهة تحمل اسم محفل الشرق الأعظم وفي حدود علمي فتلك مفردات شائعة في الخطاب الماسوني، اللهم إلا إذا كانت هناك جماعات أخرى لا نعرفها قد ظهرت في عالمنا العربي تستخدم اللغة ذاتها.

لست الوحيد الذي تلقى تلك الرسالة فقد علمت من بعض الأصدقاء أنهم تلقوا رسائل مماثلة على بيوتهم أما كيف عرف ممثل " محفل الشرق الأعظم" في عمان عناوين بيوتنا في القاهرة فإن رسالته تضمنت الإجابة حيث أشار إلى علاقتنا بمنتدى الفكر العربي في العاصمة الأردنية، الأمر الذي لا يدع مجالا للشك في أن قائمة بأسماء المشاركين في أعمال المنتدى وقد كنت أحدهم حتى عهد قريب وعناوين منازلهم وهواتفهم قد وصلت إلى أيدي المعنيين في المحفل خصوصا أنه ليس في الأمر سر ومن ثم فإنهم استخدموها لكي تصل رسالتهم إلى جميع أعضاء المنتدى في بيوتهم وربما في أغراض أخرى الله أعلم بها.

اقرأ معي الرسالة أولا ثم لنا كلام بعد ذلك ...

تجفبف منابع الإعتدال والتطرف

الفارس الشهم : تحية محبة وسلام وإخاء.

إننا نحن أمام عصر من التنوير بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة وبداية حقبة النظام العالمي الجديد، لنتطلع إلى إخواننا اللبنانيين الأحرار بعين من الأمل والثقة بأنهم ومن خلال منتدى الفكر العربي يدركون تمام الإدراك أهمية وضع حد للتيار الإسلامي الأصولي منه والمعتدل، ذلك التيار الذي لم تنفع جميع الأساليب التي استخدمناها في إيقاف مده وسيطرته على اغلب الجماهير في دول الشرق الأوسط .

ولا شك أننا جميعا وفي خلال هذا القرن خطونا خطوات جبارة في تحقيق الكثير من الاهداف التي سبق وضعها من خلال إخوانكم الكبار فها هي إسرائيل قد قامت وأغلب دول الشرق الأوسط وقعت كثيرا من الإتفاقيات الأمنية والإقتصادية معها وها هي مسيرة السلام قد تخطت جميع الحواجز والعراقيل التي وضعت لها. إننا متفقون جميعا على أهمية تجفيف منابع المد الإسلامي حتى يمكن حسره في حقبة زمنية معينة ثم ينتهي إلى الأبد ونكون قد حققنا هدفنا الأكبر!

إزاء التوصيات التي تخرجون بها من خلال ندواتكم، يجب أن نتناول موضوع تجفيف منابع المد الإسلامي وأهمها إلغاء المواد الإسلامية من الفصول المدرسية في جميع بلدان الشرق الأوسط، كذلك يجب أن ننظر إلى المواد التاريخية نظرة مختلفة عن السابق فالإفتخار بالماضي أو البكاء عليه لا يمكن أن يقدم الأمم ويحسن من مستواها الإقتصادي خصوصا إذا كان هذا التاريخ مليئا بالرجعية والظلم والخرافات.

إن تقدم شعوب الشرق الأوسط لا يمكن أن يتم إلا إذا استفادت شعوبه من بعضها، فمن يملك المال والأيدي العاملة لا يملك التكنولوجيا والتقنيات العلمية المتقدمة.

كما نرجو أن تكون من ضمن توصياتكم إنشاء سوق شرق أوسطية على غرار السوق الأوروبية المشتركة ويكون مقر تلك السوق في أفضل دولة متقدمة وديمقراطية. نحن بطبيعة الحال لسنا ضد الإسلام كحضارة وثقافة ولكننا جميعا ضد التيارات الإسلامية الأصولية الإرهابية.

في الختام نرجو لمنتداكم النجاح والتوفيق

التوقيع : ميشال أنطون

محفل الشرق الأوسط

قبل أن نعلق على الرسالة نسجل الملاحظات التالية:

من الواضح أنها صيغة واحدة وجهت إلى كل المشاركين في منتدى الفكر العربي بصرف النظر عن اتجاهاتهم الفكرية وأغلب الظن أن من أرسلوها لم يكونوا على إدراك كاف بمواقف المتلقين وإلا لما وجهوا رسالة تلح على الإجهاز على المد الإسلامي إلى واحد مثلي يعتبر نفسه واقفا بالكامل على الأرضية الإسلامية ومدافعا بكل ما يملك من طاقة وجهد عن المشروع الإسلامي وإن لم يلتحق بأي فريق إسلامي على الساحة الإسلامية.

ــ الرسالة واضحة الإنحياز إلى إسرائيل فهي تعرب عن الإغتباط لما حققه إخوانكم الكبار في إسرائيل وتدعو إلى الإستفادة من التقدم العلمي الذي تدعي أن إسرائيل تملكه بحيث يتكامل مع من يملك المال ( دول النفط) والأيدي العاملة ( مصر وشمال إفريقيا)، أكثر من ذلك فهي تدعو لإقامة السوق الشرق الأوسطية بحيث يكون مقرها ومركزها هو إسرائيل التي تروج الدعايات بأنها أفضل دولة متقدمة وديمقراطية في المنطقة.

ــ إنها تتبنى خطابا استئصاليا حيث تدعو إلى التصدي للتيارات الإسلامية المتطرفة منها والمعتدلة وتستخدم مصطلح " تجفيف المنابع" الذي أبدعه بعض المثقفين في إحدى دول المغرب العربي وصار لافتة معتمدة تستر محاولات استئصال الحالة الإسلامية.

ــ الدعوة تتجاوز استئصال الحالة الإسلامية إلى محاولة استئصال الإسلام ذاته ومحو الذاكرة الإسلامية، آية ذلك أنها تطالب بإلغاء المواد الإسلامية من مناهج التعليم وإعادة النظر في التاريخ الذي حفرته الرسالة واعتبرته مليئا بالظلم والرجعية والخرافات وأدانت فكرة الإفتخار بالماضي أوالبكاء عليه ( لا تنس أن فلسطين جزء من ذلك الماضي المطلوب تجاوزه)

ــ تسجل الرسالة تخوفها من المد الإسلامي وتقرر في الوقت ذاته أن التيار الإسلا مي أصبح يسيطر على أغلب الجماهير في دول الشرق الاوسط .

بعد ذلك كله حرص كاتبو الرسالة على التمويه على القارئ وإيهامه بأنهم ليسوا ضد الإسلام ولكنهم فقط ضد " الأصولية الإرهابية". ( لاحظ أن الإرهاب صار لصيقا بالأصولية).

الدعوة في طور التنفيذ :

تقطر الرسالة سما وتختلط فيها السذاجة بالدهاء والكراهية ، تكمن السذاجة في ذلك التخليط المفتعل بين التنوير وأنتهاء الحرب الباردة والنظام العالمي الجديد، ثم في مجمل التحليل الذي تقوم عليه الرسالة حيث ينطلق من الإدعاء بأن الإسلام هو الخطر الاكبر وعلينا أن نتجند لصد تقدمه والخلاص منه إلى الأبد .

خطر لي للحظة أن تكون الرسالة كلها ملفقة ومنحولة لكن عند إعادة قراءتها مرة ثانية أدركت أن ما تضمنته من إشارات وإيحاءات يعبر عن خطاب قائم في واقعنا ينطلق من ذات الرؤية ويكاد يستجيب بصورة أو بأخرى لذات المطالب.

فنحن إذا دققنا جميعا في المشهد العربي الراهن فسنلاحظ أن ظاهرة التطرف والإرهاب دون تحديد واضح لمفهوم كل منهما واعتبرت أن مواجهة ذلك الخطر هي قضية العرب الأولى الأمر الذي ادى إلى تراجع قضاياأخرى مثل فلسطين والديمقراطية والتنمية وغير ذلك بل أزعم أن ثمة أنظمة تفرغت لهذه المسألة بحيث صار شاغلها وهمها هو تعبئة الرأي العام العربي والدولي ضد الظاهرة الإسلامية وملاحقة الناشطين الإسلاميين، ونحم لا نختلف في أن هناك مشكلة تطرف وإرهاب في العالم العربي لكننا قد نختلف في حجم هذه المشكلة وفي تحديد الظروف المسؤولة عن ظهورها وفي تحديد الجهات الضالعة في هذه المشكلة وعلى من يريد أن يتحقق من طبيعة تلك الجهات الاخيرة أن يطلع على تقارير المنظمة العربية لحقوق الإنسان أو منظمة العفو الدولة لكي يقف على إجابة السؤال: من الذي يمارس الإرهاب حقا في العالم العربي ؟

في هذا السياق تطرح فكرة تجفيف الينابيع التي تلقفتها بعض الأجهزة الرسمية حتى اعتبرتها إحدى شعارات حملة مواجهة الظاهرة الإسلامية وتنبني هذه الفكرة على افتراض أن التدين هو التربة الخصبة التي يخرج منها التطرف ( هكذا دون أي تفرقة بين تدين رشيد أو تدين مشوه وعقيم).

من ثم فهم يرون أن التصدي الحاسم للتطرف يقتضي تقليص التدين ذاته بإضعافه أو استئصال جذوره عملا بالمثل القائل: الباب الذي يأتيك منه الريح أغلقه كي تستريح ).

صحيح أن كاتبي الرسالة وضعوا المسألة بصورة أكثر فجاجة حين ذكروا أن دعوتهم تنصب على تجفيف ينابيع المد الإسلامي ( كله) وليس التطرف الإسلامي لكننا نعتبر أن تلك الفجاجة هي التعبير الأكثر صراحة عن حقيقة الإتجاه وربما لأن الرسالة يفترض أنها خاصة فإن كاتبيها رفعوا التكليف ولم يشغلوا أنفسهم بعملية تغليف الهدف أو الإلتفاف حوله.

ثمة شواهد عديدة تدل على أن فكرة تجفيف الينابيع حاصلة بالفعل فثمة دول ألغت من كتب الدراسة كل النصوص الشرعية التي تدعو إلى الجهاد مثلا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كذلك النصوص القرآنية المتعلقة باليهود وبقي من مادة الخطاب الإسلامي ما يتعلق بالشأن العبادي وحده وغير ذلك من الأمور الروحية التي تحصر التدين في حدود علاقة الإنسان بربه فقط أما كل ما يتعلق بالمعاملات وبدور الدين في المجتمع فإنه تقلص إلى الحد الأدنى أو اختفي نهائيا من تعليم الجيل الجديد.

لم يقف الأمرعند ذلك الحد وإنما اتخذت إجراءات عملية لمحاصرة عملية التدين ذاتها، فالناشطون المتدينون لوحقوا، ومنهم من حوربوا في أرزاقهم والموظفون اضطهدوا والتجار سحبت رخصهم المهنية والمحجبات منعن من دخول الجامعات والمدارس وغير ذلك من المؤسسات الرسمية، ولم تكن تلك الإجراءات موجهة ضد التطرف والإرهاب، لكنها في حقيقة الأمر كانت وما زالت موجهة ضد التدين ذاته بحيث غدت تلك الإجراءات تطبيقا حرفيا لفكرة تجفيف الينابيع بمفهومها الحقيقي وليس بمدلولها الظاهري الذي قد يعطي انطباعا مغلوطا.

وكما اتبعت سياسات واتخذت اجراءات تحاصر التدين وتهون من دوره ومن شأنه فقد أصبحنا نطالع خطابا إعلا ميا يتنكب الطريق ذاته مكرسا عملية التجفيف حسب أصولها، فقرأنا لمن يغمز في القرءان ويربط بينه وبين الأسطورة والخرافة بل ذهب بعضهم إلى الإدعاء بأن في القرءان أخطاء لغوية لم تكتشف طيلة 14 قرنا، وقرأنا لمن جرح السنة ولمز مقام النبوة وشكك في طبيعة الدولة الإسلامية ، وذهب آخرون إلى الغمز في الصحابة وإلى الحط من شأن التجربة الإسلامية والحضارة الإسلامية وهكذا ...نعم لم يتحقق بالكامل ما تمنته الرسالة حين دعت إلى إلغاء المواد الإسلامية بالكامل من مناهج التعليم لكن ما جرى بالفعل يبدو وكأنه خطى متقدمة على ذلك الطريق وأحسب أن التناول الراهن يحقق المطلوب بصورة أكثر ذكاء باعتبار أن تفريغ الثقافة الدينية من مضمونها بالصورة التي أشرنا إليها يستوي مع الإلغاء فضلا عن أنه لا يصدم الرأي العام كما قد تصدمه عملية الإلغاء .

الإقتلاع هو الهدف

حسنا فعلت الرسالة حين بدأت بالدعوة إلى تصفية التيا ر الإسلامي وانتهت بالدعوة إلى التكامل مع إسرائيل التي كالت لها المديح فهذا التتابع غير المقصود بطبيعة الحال يعكس إدراكا عميقا بأن المد الإسلامي الذي يراد استئصاله يقف في الصف الأول هو والقوى الوطنية في العالم العربي وهي تعارض وتقاوم الحلول الجاهزة التي تهدر حقوق الشعب الفلسطيني وتغتصب وطنه وحلمه ، من ثم فإن التركيز على استئصال الحالة الإسلامية إلى الأبد كما تمنت الرسالة كفيل بفتح الطريق وإزالة أهم العقبات التي تحول دون الإستسلام للحلول الجائرة .

المسألة أبعد من مجرد التصدي للمد الإسلامي أو حتى القضاء عليه ولكن الهدف الأ بعد هو تقويض ثوابت الأمة وإلغاء وعيها الحضاري وذاكرتها التاريخية ذلك أن الإسلام ليس عقيدة فقط ولكنه ثقافة وحضارة وهوية أيضا واستئصال الحالة الإسلامية وإلغاء المواد الإسلامية من مناهج التعليم ودمغ تاريخ الأمة بالظلم والرجعية والخرافة، هذه الخطى لا تحقق إلا هدفا واحدا هو: الإقتلاع.

وحين يتحقق ذلك ــ إذا قدر له أن يتحقق ــ فإنه يغدو المناخ الأكثر ملاءمة لاجتياح الأمة ولتنفيذ مختلف المخططات الإسرائيلية بدءا بتكريس احتلالها الأرض العربية في فلسطين وانتهاء بفرض هيمنتها على المنطقة ومرورا باختراق العالم العربي والإسلامي الذي يمثل بالنسبة إليها فرصة ذهبية لا تعوض: ففيه الثروة وهو السوق وفيه الأيدي العاملة الوفيرة والرخيصة .

بقيت كلمة أخيرة هي أن نهج تجفيف الينابيع الذي دعت إليه الرسالة وتمضي على دربه بعض الأقطار العربية لا يحل مشكلة التطرف أو الإرهاب كما يتوهم المروجون له، وإنما أحسبه مصدرا آخر من مصادر التطرف وعنصرا مساعدا لإذكائه وتوسيع نطاقه ذلك أن حرمان الشباب من الثقافة الإسلامية في زمن تتعطش فيه أجيالهم إلى تلك الثقافة ليس له سوى نتيجة واحدة هي: دفعهم إلى البحث عن المعرفة الإسلامية عبر مصادر أخرى الأمر الذي قد يوقعهم في المحظور الذي يراد تجنبه من البداية.

فحين حرمت الحركة الإسلامية في مصر من المشاركة السياسية وجرى حل جماعة الإخوان المسلمين التي كانت تعمل في ظل الشرعية منذ عام 1928 وحتى عام 1954 عانت الساحة الإسلامية من الفراغ الذي أدى إلى نشوء حركات سرية بديلة كانت وما زالت أحد مصادر التطرف والإرهاب الذي تعاني منه البلاد، ذلك أن الشباب الإسلامي المتطلع إلى المشاركة في الحياة العامة، حين لم يجد قناة مشروعة تستوعب طاقته انجذب تلقائيا إلى القنوات غير المشروعة.

وفي سوريا طرحت فكرة استئصال الحالة الإسلامية وتجفيف الينابيع بعد مأساة مدينة "حماة" التي وقعت عام 1982 حيث اقترح بعض الرسميين إغلاق المعاهد الدينية وكلية الشريعة ولكن نفرا من العقلاء قالوا إن الخطوة ستؤدي إلى زيادة التطرف والعنف ولن تعالجه وحسب علمي فإن المسألة نوقشت على أعلى المستويات وأن الرئيس حافظ الأسد انحاز إلى الرأي الثاني وأيده بعد اقتناعه بوجاهة حجته. ولكن من قال أن أحدا يتعلم من دروس التاريخ؟!


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى