الثلاثاء ٢٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم محمد سيد حسن

رسالة من زهرة المدائن

إلى عاصمة الرشيد

عزيزتي بغداد.. الكتابة إلى من أحب شكل من أشكال العشق، ولا سيما بيني وبينك وشائج قربى وصلة رحم وقواسم مشتركة في الأوضاع والأوجاع والأحزان، فلا يمنعني من الكتابة إليك الحدود الجغرافية، ولا السياج الأمنية، ولا التحقق في الهوية.. من هنا أبدأ ومع البداية ألف تحية:

أيتها المدينة المسافرة في الحزن والغبار.. في القتل والدمار.. في الصبح والأسحار.. هل تسمحين لي أن أخبرك عن حالي وأحوالي.. عن أهلي وخلاني.. عن عقوق بعض أخواني..؟.

هل تسمحين لي أن أضع يدي على جبينك المتعب، وأتلمس قطرات العرق، وامسح الشحب الكثيف الذي يغطي وجهك الجميل؟.

يا أختاه.. إننا لم نلتقي من قبل، حيث هكذا فرضت الجغرافية نفسها، إلا أنني مشغولة بلملمة جراحي، وتعلمين أن جراحي أعتق وأعمق من جراحك، ولي تجربة مع الدموع والأحزان.. مع الشجون والآلام أقدم من تجربتك.. وثقي أنا هناك قواسم مشتركة بيني وبينك.. وهي رفضنا لمنطق الاحتلال، والقبول بالإذلال.. هو رفضنا للبربرية.. للصهيو أمريكية.

فالصهاينة يا عزيزتي، هم دائما صهاينة أحفاد القردة والخنازير، والولايات المتحدة لم ولن تكون في يوم من الأيام ولايات متحدة ملائكية هم رعاة البقر والحمير.. وإن اختلفت التسميات.

فالذين أحرقوني ودمروني وزرعوا الفتنة بين أبنائي وقسموا المقسم وجزئوا المجزأ.. وأسالوا الدمع من عيوني كان أسمهم (الصهاينة).. والذين دمروك وصبوا نار غضبهم وأطفئوا النور الساطع من مآذنك وحسينياتك والذين رملوا نسائك والذين يتموا أطفالك وهجروا أبنائك واغتالوا كبار علمائك، وسرقوا خيراتك، والذين أفقدوك الأمن والأمان، وأيقظوا الفتنة النائمة بمنطق الطائفية وإحياء داحس والغبراء اسمهم الأمريكان .

هل تسمحين أن أفتح صندوق ذكرياتي، وأروي لك تجربتي مع الرعب والدمار، مع القتل والحصار.. مع المذلة والاحتقار.

ليست كل المدن يا صديقتي، تعرف كيف تموت، ولا كل المدن تعرف كيف تقرأ ثقافة الموت.

المدن يا عزيزتي، كالبشر.. تتخلق بأخلاقهم، وتتطبع بطبائعهم، وتمرض بأمراضهم، وتفرح كأفراحهم.. وتكره بكرهم.. ثمة مدن تحلم بتغير العالم بكبسة زر، وثمة مدن ترى العالم من خلال وقفة عز كدمشق الفيحاء.. ثمة مدن لا تريد أكثر من كسب الرضى والالتفاف على موائد اللئام، لتحظى بفتات الطعام.. ثمة مدن لها شموخ أشجار السنديان.. التي لا تخشى الطوفان.. ثمة مدن باعت هويتها وغيرت جنسيتها.. وأصبحت تتقن فن القفز فوق الأشلاء.

وأخيرا، ثمة مدن يسكنها الخوف، ويستبطنها الهوان، وتصبح كان بعد كان.

عزيزتي عاصمة الرشيد المقاومة:

لقد شاهدت في وسائل الإعلام الأرضية والفضائية المسموحة والممنوعة، صور تشبه صورتي من الدمار الذي لحق بك.

فتذكرت الأيام الخوالي وتذكرت أيام السعادة والهناء والرخاء والإخاء العربي، وتذكرت بعدها كيف حل بي أثناء الحصار الصهيوني.. انهوا زمن الفرح وقتلوا الحلم العربي.. لقد صبوا الحبر الأسود على الفستان الأبيض.. ألغوا الألوان.. روعوا السكان.. حولوا أرض الرسالات إلى كنتونات، وصبوا لهيب نار حقدهم على قراها، ومدنها، ومنازلها، وساحاتها، ومدارسها، ومستشفياتها، وعصافيرها، وأشجارها، وأطفالها وشيوخها ونسائها، حولوها إلى كتلة من الدم والرماد،.. حتى أصبحت شبيهة بـ (ستالينغراد)، عندما غزاها النازيون وحولوا ترابها مختلفا عن تراب الدنيا، حتى النباتات والخضراوات والبقوليات كان فيها شيء من نكهة الدم ولحم الأطفال.. وأنسجة الكبار المحترقة.

لا أريد أيتها القريبة، أن أثير أشجانك، ولا أن أنكأ جراحك التي لا تزال تسيل كشلال دافق.

كل ما أريد أن أقوله لك يا عزيزتي.. ما قيمة العربي إذا لم يقاتل؟؟

ما معنى العروبة إذا لم تمتشق الحسام؟؟

ما فحوى التاريخ العربي إذا لم يسطر المعارك والمواقع والأيام؟؟

ما أهمية الذاكرة العربية إذا لم تحفظ أريج ذي قار، والقادسية واليرموك، وذات الصواري، وحطين، والسادس عشر من تشرين، وعين جالوت، وميسلون، وسامراء، والفلوجة، وأم قصر، وحطين، وجنوب لبنان؟؟.

من هنا من أرض الرباط من قبة الأقصى وصخرتها ومحرابها إلى جميع قبابك ومناراتك، من عروسة المقاومة والصمود (غزة) نقدم لك تحية الشهداء المقاومين.. من أبو جندل وإيمان حجو والرنتيسي والشيخ القعيد الشهيد أحمد ياسين وكل الشهداء.

فهل نعمت المنطقة العربية يا عزيزتي بالأمن والسلام والراحة منذ عهد الاسكندر المقدوني حتى هذا الزمان؟؟.

أم أنها ظلت على مدار الأيام ساحة للصراع والنزاع والقتال والنزال؟؟؟

فدعي كلام المرجفين.. لكي تصبحي كبيرة، ونحن خلقنا لنكون كبار.
أقول لك إن الإنسان أهم من المدن.. فالإنسان هو الذي يعمر الأرض ويشيد البنيان.. المهم ألا تسقط إرادة الإنسان.. المهم هو إنسانك وساكنك أنت.. لا المدن والبيوت التي يسكنوها من حجارة وطين.

إن الإنسان العراقي، كالإنسان الفلسطيني، كانسان هيروشيما، كانسان فيتنام، كانسان جنوب لبنان، كانسان الجولان.

المهم أن يبقى هذا الإنسان واقفا على قدميه.. مغروسا في أعماق الأرض كالرمح.

صحيح أن الصهاينة أكلوا لحمي، وكسروا عظمي.

وصحيح أنهم هدموا بيتي، واغتالوا قعيدي وأوثقوا قيدي وحاصروا بيتي ومدينتي.

وصحيح أنهم استطاعوا أن يضعوا القانون الدولي في الإقامة الجبرية.. ويمنعوا الناس من إقامة شعائرهم الدينية.

صحيح أنهم دمروا المساجد.. وحرقوا سجادها وقرآنها.. وقطعوا أعناق المآذن بالأبتشي الأمريكية وما تحمله من أسلحة تدميرية وذكية.

صحيح أنهم انتقموا من كل حجر، ومن كل باب، ومن كل شجر، ومن كل غيمة عابرة تحمل المطر.

صحيح أنهم أغرقوني في ظلام دامس، وقطعوا الكهرباء عن المستشفيات المكتظة بالمصابين، وعن الأطفال الذين في خيامهم خائفين، جائعين.

لكنها لم تنتزع منا ثقافة الحياة.

فمن الرماد المحترق خرجت جنين، وخرجت غزة وخرج جنوب لبنان، كطائر العنقاء.. وستخرجين أنت أيتها الأخت الباسلة من جديد.. لأنك تسطرين ملاحم حقيقية في البطولة والتضحية والفداء، وسوف تنشرين أريج عطرك على كل المدن العربية برائحة النصر وستتحدى هذه الرائحة كل العطور الفرنسية والاوربية.

إلى عاصمة الرشيد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى