السبت ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم زكية خيرهم

النبي المغترب

حلقت الطائرة عاليا نحو المهاجر البعيدة، تتمطى في فضاء الحرية والشوق، للهناء والسلام والحلم بالإستقرار والمال. إلى النرويج بلد الوندال والصقالبة الأبرار. بلد الثلوج التي تتحول في فصل الربيع إلى عملة الكرونة التي تتفتح كالزهور وتدر دولارات وباوندات على جنبات الطرق الوعرة والسهلة... كرونات تغطي جبال (برجن) الشاهقة العلو، كما تغطي أشجار غرب النرويج، وتطفو على مياه نهر أكرس.

يكفي أن المسافرين حين سمعوا تجربتي، يوم جئت أول يوم إلى أوسلو. أخبرني أحدهم من أصحاب الشعر الأسود أن القافلات مجانا للأجانب الجدد في البلد لمدة خمس سنوات. صدقته ولم لا؟ فالنرويج من أغنى دول العالم. كنت أركب القافلة بكل سعادة. آخذ مكاني، غالبا في المقعد الأمامي قريبا من السائق كي يتسنى لي رؤية السيارات الجميلة والفخمة، عكس تلك التي تركتها في بلدي، كما أن جلوسي في المقعد الأمامي قريبا من السائق الذي أتأمل لون شعره إن كان أسودا، سأنهال عليه بأسئلتي اللامتناهية، خصوصا أنني عاطل عن العمل وليس لي إلا تلك " الأجرة" التي أتلقاها من الضمان الإجتماعي. وبطبيعة الحال، لون شعر السائق هو الذي يحدد إن كان ذلك السائق ثرثارا مثلي أو أبكما مثل أغلب السائقين ذوي الشعر الأشقر.

الله...! ما أجملها تلك الأيام... أيامي الأولى في النرويج. سنة بأكملها ركبت الحافلة ظانا أنها مجانية. إلى أن كان ذلك اليوم المنحوس، حين طلع خمسة من رجال التفتيش وسألوني عن تذكرة الحافلة. فقلت لهم بكل ثقة:

الحافلة مجانا للأجانب الجدد لمدة خمس سنوات... كيف تسألوني عن التذكرة؟

انفجرأحدهم ضاحكا ثم أردف قائلا:

هل تسخر مني أم من نفسك؟ عليك تسديد غرامة مالية الآن!
أية غرامة؟ لن أدفع شيئا، سنة بأكملها وأنا أركب الحافلة مجانا، ولا مرة واحدة دفعت ثمن تذكرة.!! أهذه مزحة منك أم أردت أن تجني نقودا مني ظلما؟

التفت ذلك المفتش إلى زميله باستغراب، وكأنه يقول له: ربما كان هناك سوء فهم، أو.... وقلب شفتيه، فهمت من هذه الحركة، أنه ربما كان يقصد أن بي اختلال أو عدم توازن. قال المفتش الثاني:

هذه المرة سماح. لكن ركوب الحافلة ليست مجانا. ومن أخبرك ذلك فهومخادع.

عندما أخبرت عشيرتي بالأمر، زاد شوقهم للسفر إلى هذا البلد الإسكندنافي. كان الركاب في الطائرة يعيشون أحلاما في النهار طيلة الرحلة. هناك من كان يحلم بجمع ما يستطيع حمله من النقود في كيس كبير، ويرجع إلى الوطن ثم يفتح مزرعة للدجاح. مسافر آخر يحلم بملء صندوق حديدي من الكرونات، ليرجع إلى الوطن ويتزوج ابنة زعيم العشيرة الحسناء. آخر يحلم بالمكوث في النرويج إلى الأبد يتعلم لغة البلد و يمحو من ذاكرته لغته الأم. آخر يحلم بالزواج من نرويجية شقراء، ويتخيل كيف سيكون لون أولاده منها. بعض المسافرين تذرف عيونهم دموعا حرة، وبكاء مخلوطا بالحزن والأنين المشحون بالهم لوطن، ينزف يوميا كلمة الحق على قارعة الطريق، متناثرة أشلاء بعد مراسيم الذبح أو السلخ في وطن مقتول. مهاجرون حملوا على عجل، ودون روية حقائب هجرتهم في صمت، متسللين كلصوص صغارمن قبضة الوطن "اللص" الكبير. ليستقرون بعيدين عن الأهل والأحباب حيث قساوة المنفى وألم الحنين، والشوق الأبدي الذي ينخر الجسد حتى يجعله بدون روح.

دعاني الربان إلى حجرة القيادة، فرحت لدعوته، حيث كان أول مرة أقف بجانب ربان طائرة وهو يقودها. كنت مـأخوذا بمنظر السماء البعيدة، مبهورا لفضاء ذلك الكون الهائل، الذي يزرع في النفس وجلا ورهبة. أتطلع للضباب على شكل قطع كبيرة من الصوف الأبيض، وتحتنا مياه زرقاء. أخذتني نشوة قدسية في تأمل خالق الكون. فمي مفتوح كسمكة في الماء، وعيناي جاحظتان، أنظر إلى السماء حينا وإلى البحرأحيانا أخرى. أما الضباب فكنت أتخيل نفسي أمشي فوقه وأسبح في بخاره المستحيل، في ذلك الكون البعيد، أتمايل بين حريق الماضي ودخان المستقبل، وأتيه في أخاديد الفضاء وابتهالي مسكون بصمت زحمة الأسرار. فجأة يقطع ربان الطائرة تأملي سائلا:
أنت تعيش في النرويج وعندك الجنسية النرويجية، أخبرني عن الحياة هناك؟

استرسلت أحدثه عن جمال نساء البلد، وعن عيونهن الزرقاء كلون اليم. عن الجبال المشجّرة، والزهور المخملية، عن الخيال والأحلام، وعن نظافة البلد وقوانينه، عن هدوء سكانه، عن سلوكهم وعدم تشاجرهم في الشوارع كما نفعل نحن أصحاب الشعر الأسود...

نظرت إلى الربان، وجدته وقد استرخى كليا على كرسيه وعقد يديه خلف رأسه، وقد جحظت عيناه تحدقان قي سقف الطائرة. توقفت عن الثرثرة وصرخت بصوت مرتفع:
ماذا تفعل...؟ نحن عاليا في الفضاء.... أتريد أن تخسف بنا الطائرة في البجر.....؟
ضحك وقال:
لا تخف، الطائرة تبحر وحدها ولا تحتاجني في هذه اللحظة... أكمل حديثك ودعني أتخيل نفسي في النرويج.
ثم أضاف قائلا:
بالمناسبة، هل يمكنني أن أعمل ربانا للطائرة في النرويج؟
أجبته:
طبعا، يمكنك ذلك، لكن لابد من تعلم اللغة أولا لفهم طبيعة هذا المجتمع.

عجيب أمر شعب بلدي. أسبوع قضيته في الوطن. وفي كل مرة كنت أخرج مع أصدقائي، يستوقفني أحدهم، خصوصا عندما يعرف أنني قادم من النرويج ليسألني عن كيفية الوصول إلى هناك وعن فرص العمل.

النجار يسألني إن كان ممكنا فتح دكان للنجارة في النرويج. والخياط يسألني إن كان سهلا فتح مصنح لخياطة السراويل النسائية التقليدية والعبايات!... والمعلم يسألني عن إمكانية تعليم لغته الأم في النرويج. والجزار يسألني إن كانت توجد عندنا مسالخ للذبح الشرعي، لأنه يفكر في هكذا مشروع هناك. والطبيب الذي ذهبت عنده، فحصني في خمس دقائق... وجلس يسألني عن النرويج وأحوال النرويج ما يقارب الساعة، وقبل أن أغادر عيادته سألني إن كانت هناك فرص للعمل كطبيب في النرويج.

ضحكت بامتعاض، وقلت في نفسي... لم يبق إلا رئيس دولتنا أن يستوقفني في الطريق، ويسألني إن كانت هناك فرصة للعمل كرئيس لدولة النرويج!!

تخيلوا أن النجار والخياط والطبيب وربان الطائرة والفقراء والأغنياء والطيبين والمجرمين والفاشلين والناجحين في الحياة، كلهم يريدون ممارسة مهنهم أو بطالتهم في النرويج. لن يبق أحد في وطني. من سيسكن بعدها وطني ومن سيحكمه؟ كلهم يريدون مغادرة البلد. سيصبح مهجورا... سينقرض وطني. وكيف سأسافر أنا إلى وطني المهجور من شعبي ورئيسي؟ لن أشعر بالحنين بعد إليهم. لأنهم كلهم من رئيسهم إلى لصهم، سوف يصبحون هنا في البلد. وكيف سأكتب قصصي القصيرة عن الحنين للوطن؟ لأن وطني قد هاجر كله ليحل في والنرويج. هذه مشكلة عويصة، لابد من إيجاد حل لها.

تركت الربان قلقا، وجلست في مكاني أنظر من النافدة، فإذا بي ألاحظ أننا أوشكنا الدخول إلى سماء النرويج. فكان لابد من إيجاد حل لهذه المشكلة، لابد من تفكير أو وحي ينزل عليّ من أحد ملائكة السماء، كما كانت تنزل على الأنبياء حتى يستطيعوا تغيير ما لا يستطيع تغييره انسان عادي.

كان يتحسس أفكاره الشاردة، يتوسل إليها أن تتجلى بصمت غاضب، مستاء داخل أعماقه، ليعثر على معجزة تنقذ الوضع. يلملم عصبيته في رحابة تلك السماء، يسعى في فراغ رأسه، يحدق في ظلام معشش في مخيخه، يحدق بنظرا ت مبتورة إلى المسافرين، الذين كانت أعينهم ستنزلق من محاجرها، لتخرج من نوافذ الطائرة قبل أن تحط في المطار.

عليّ أن أستغل الفرصة مادمت عاليا في السماء، قريبا من ملائكتها، لابد من أحد الملائكة أن ينزل عليّ بالوحي، ولم لا؟ فأنا قريب منهم ولا يحتاجون لسفرة طويلة للنزول إليّ في الأرض.

يعضّّ على شفتيه حينا ويحك صلعة رأسه حينا آخر. أينك يا ملائكة السماء؟ أرحميني بسرعة لأرحم من في الطائرة. ستنزل الطائرة قريبا، وسينتشرون في مراكز اللجوء، وسيرمون بمفتاح اللغة النرويجية في نهر آكرس. ستطلع روائح توابل طعامهم من بصل وثوم في ثيابهم وغرفهم. سيفرشون تقاليدهم وثقافاتهم في خطواتهم، سيندمجون في تعصبهم، ويشكلون مجتمعا خاصا بهم، وستنهال عليهم انتقادات كثيرة، وستتولد لديهم النقمة والنفور والضجرمن البلد، ويتوجهون إلى خالد سليمي يشكون العنصرية، ويشكلون الجمعيات لحماية ثقافتهم. سيستغلون الحرية لممارسة عباداتهم وعبوديتهم. ويتمسكون نكاية بانتمائهم. يا إلهي... يا ملائكة السماء مازلت أنتظر حلا....

سيكرهون الشعب والوطن الجديد، ورغم ذلك سيمكثون في الأرض ويمشون مرحا... وحين يرجعون للوطن الأم... سوف يشتمون ويلعنون، ويحمدون الله على رجوعهم... لكن سرعان ما يجدون أنفسهم وقد أصبحوا غرباء عنه وقد أصبح في أعينهم، ظلاما وجهلا وتخلفا وفوضى.

أصابته حمى وبدأ العرق يخرج من صلعة رأسه، إنها مصيبة شعب بأكمله، ينظر من النافدة، يبحث بعينيه الجاحظتين عن الملاك، يرى الحلول تتساقط من السماء، يقفز صارخا:

_ سقطت... وأخيرا سقطت... ثم يغمى عليه.

تقفز المرأة السمينة التي كانت تغط في سبات مصاحب بالشخير... ماذا سقط...؟

نزلت الطائرة بمطار غاردمون، انتشر المسافرون في أرض النرويج، أما هو، فنقلته سيارة الأسعاف إلى المستشفى، مكث في غيبوبة طويلة، وحين رجع إلى الحياة وجد نفسه يدوّن ما رآه في غيبوبته. في كتاب بعنوان، " قبل وبعد ". حيث رأى النرويج انقسمت إلى ثلاث قبائل رئيسية: جرونلاند، تويين وهلمليا. وتكاثر أصحاب الشعر الأسود بسرعة هائلة كالفطر، كما تعددت الألوان والأعراق والأديان والمذاهب. وقدم كل من تبقى من شعب بلده مع رئيسهم، وسافر ذوو الشعر الاشقر إلى تلك الأرض النائية والمهجورة. أقاموا فيها، تاركين بلد الوندال ليشيدوا دولة جديدة تحمل قيمهم وحرص الملك على شعبه وحب الشعب لملكه. أرض أصبحت بعد الجفاف روضة، وانتشر خبرها في كل بقاع العالم، كما سمع عنها أصحاب الشعر الأسود ورئيسهم في بلاد الوندال، التي عمّ فيها القمع والظلم والفساد والرشوة والفقر، فصاروا يغادرون الوطن متأففين متجهين إلى وطنهم القديم الذين هجروه سابقا، طالبين حق العودة من اصحاب الشعر الأشقر.

فجأة يضرب بالقلم على الأرض، يمسكه مرة ثانية يعضه بأسنانه حتى لم يبق إلا نصفه، ترتجف أنامله، تستيقظ أفكاره، يرفع رأسه إلى سقف شقته، يتطلع إلى عنكبوت كان في إحدى زوايا السقف، يتحدث إليه كما يتحدث لإنسان.
هل يعيد التاريخ نفسه؟ أم أن التخلف هو الذي يعيد نفسه؟ هل نهرب من أرضنا أم نهرب من حكامنا؟ هل العيب في سياساتنا وقياداتنا أو العيب فينا؟

يصرخ في العنكبوت الذي كان ملتصقا بالسقف هادئا...

لم لا تتكلم؟ إنني أحدثك عن وطن،" نحمله في حقيبتنا" فينمو هما وإعصارا وسما... عن وطن ينعي جيلا بأكمله، كما الماضي والحاضر. ويبقى المظهر مختلفا، كغابة تلتفّ على نفسها.

يقهقه ساخرا وهو ينظر إلى العنكبوت ويقول:

هل تعرف ماذا حصل بعد ذلك؟

يتحرك العنكبوت من مكانه، ويستمر هو في الحديث ويضحك. لقد أعاد أصحاب الشعر الأشقرالوطن لأصحاب الشعرالأسود، واتجهوا نحو المطار للرجوع إلى وطنهم الوندال، فلاقوا جمهورا غفيرا من أصحاب الشعر الأسود، يحاصرون المطار ويمنعونهم من مغادرة البلاد!!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى