الأحد ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

أسفل الليالي

فرغ الليل الذي في الخارج من صب عتمته، وتركها على راحتها تنتشر لتملأ الدنيا وتسوّدها من الآفاق إلى الآفاق. وفي نفس العتمة وصل طفل صغير تحمله الأكف على حمالة سيارة إسعاف كان صفيرها فائرا ومهيبا، وراحت الظلمة تلقف صفيرها وتنثره في صخب إلى بعيد. ثم تبع الطفل أبواه برفقة بعض أقارب وبعض جيران، وكان يسبقهم صراخه الحاد الذي له مخالب وأنياب، فيشق الأذان ويمزق الأعصاب. أما في داخل المستشفى فقد كانت الإنارة التي يجود بها الموتور الداخلي شاحبة فيها صفار، لا يقل عن شحوب وصفار وجه الطفل المريض الذي يتألم جسده بقسوة وهو يتثنى ويتعذب، ويكاد يتفسخ من قسوة العذاب.. فما كان من المسعفين إلا أن نقلوه على الفور ومددوه فوق سرير ابيض في غرفة الإنعاش، وبالكاد لصغره احتل جسده نصف طول السرير. وكانت الدنيا على اتساعها ساكتة ولو رميت إبرة فأكيد ستسمع رنتها.. ولم يعكر صفو سكوتها سوى هدير واني مخنوق كان يبثه موتور داخلي قديم، كانوا قد شغّلوه قبل قليل، بسبب قطع إسرائيل الكهرباء والوقود عن كل قطاع غزة منذ أسابيع كثيرة متصلة، وانين الطفل الذي صار يستمد حياته من معدات وخراطيم رفيعة، وصلّها الأطباء بجسده ودخلّوا بعضها إلى داخله.

وخارج غرفة الإنعاش جلس والداه والمرافقون، وكان في جلوسهم توجس وإعياء شديد.. وراح بعضهم يقوم بين الحين والحين ليختلس نظرة من خلال الطاقة الزجاجية التي تتوسط الباب الخشبي الموصد.. فتنخلع قلوبهم فيعودون ثانية إلى جلستهم وقد غشي عيونهم حزن عظيم وأطفأ بريقها قلق مكتوم.. وبعض آخر أصابه توتر، فوقفوا عند نافذة واسعة في الممر ومدوا رقابهم من خلالها، فخرجت رؤوسهم إلى حواف الليل عند اقرب أطراف العتمة، وبصمّت أداروا رؤوسهم إلى اليسار ثم أعادوها حزينة إلى اليمين، ثم صارت عيونهم تزحف لتنفذ في عمق الظلام الكثيف الساكت في الخارج.. ظلام صنعه الليل وانقطاع الكهرباء.. وظلوا يطيلون الوقوف ويعمقون التحديق كأنهم بعيونهم يتحدون الليل والحصار سوية.. وبدا في تحديقهم نداء ملهوف كأنهم وسط خليج أصم أو محيط معطوب.

تحولت غرفة الإنعاش على الفور إلى ورشة عمل، فيها ما فيها من أطباء وممرضين، وبأقصى سرعة ممكنة تحلّقوا كلّهم حول جسد الطفل الممدود الذي ينتفض بشدة، والذي لم يتوقف عن الصراخ ولو لجزء واحد من الثانية، وكان يلف الأطباء ذعر وارتباك مشئوم، وكسا وجوههم حنق له هالة من البؤس الذي قبض على ملامحهم وكاد يشوهها. ومن خلف كمامة بيضاء على فم كبير الأطباء انسل صوت متصدع فيه تموج مرعوب، وعينان فيهما مقت عصيب راحتا تطلان من فوق الكمامة صوب الممرضة الواقفة قربهم، وكان بجلاء يبين عليها النعاس وقد تخشبت مفاصلها من التعب..

  فشل كلوي.. شغلي جهاز غسيل الكلية..

أحست الممرضة المرهقة بكلماته تنطح أذنيها، وتهشم رأسها.. فهي على وقفتها تلك منذ العصر، عندما ماتت على نفس السرير فتاة شابة كانت مصابة بالقلب، ماتت المسكينة في حسرتها، بسبب عدم عمل الأجهزة التي تعطلت منذ أيام كثيرة مضت، وقد منعت إسرائيل منذ شهور دخول قطع الغيار لإصلاحها، بعد أن أغلقت جميع المعابر مع قطاع غزة.. وظلت الممرضة المهدودة واقفة وسط ذهولها لا تحرك ساكنا، وبقيت صامتة لا تنبس، وهي لا زالت إلى الآن تحارب كي تظل صاحية، بل كانت تستميت في حربها لتبقي عينيها مفتوحتين، فراحت بعناء تمنع جفونها من التلامس، وتقاوم حتى مجرد اقترابها من بعضها، كي تبقي بصرها مسلطا على ذلك الجهاز الذي يقيس مقدار ما في جسد الطفل من حياة، وعلى جهاز آخر يحصي ما بقي في القلب من نبض ويعدّ ما فيه من دقات، وكانت بلا توقف تقيس درجة الحرارة، وتعدّ كمادات الماء البارد بقماش بال فيه خروق، لأن القطن غير موجود بالمرة، وكذلك لا يوجد شاش. والممرضة من ذهولها تلعثمت في حنجرتها الحروف، وتداخلت الكلمات وهي تتكسر وتتشابك على لسانها خلف الكمامة قبل أن تتدفق من فمها جافة لتطأ أذن الطبيب..

  جهاز غسل الكلية خربان.. ولا يوجد قطع غيار.

تبلبل الأطباء واختنقت ملامحهم التي ضاقت بها وجوههم، وكبرت عليها حيرة طفحت مع سيول العرق الذي نفذ إلى ياقاتهم، وساد صمت قطعه صراخ الطفل الذي بدأ جسده الأصفر بالازرقاق، جسده الذي صار مرة ينتفض ومرة يتقلص وباستمرار كان يتعذب، ويرجف، ويكاد يموت. وبات واضحا أن ألّمه فاق مرحلة الألم التي يعرفها جميع الناس، إنها مرحلة ما بعد الألم الذي يكسر الحياة في الإنسان، ويفوق قدرة البشر على الفهم وينفلت من حدود الخيال، والشعور. والممرضة صار جسدها هو الآخر يرجف ويرتعش، وشعرت بالوجع كأنما انتقل بالتأثير إلى جسدها من جسد الطفل الصغير.. والأطباء اقشعرت أبدانهم وصاروا هم أيضا يتألمون، وأحسوا بأن كل ما في الدنيا من آلام تجمعت أمامهم في كليتي الطفل المحموم، ومن هناك راحت الأوجاع بما فيها من عذابات تنتشر إلى بقية أعضاء جسده، وكان نصيب كل عضو منها يفوق قدرة أي من الآدميين على التحمل والصبر.

بالكاد بلع كبير الأطباء ريقه، ولم يكن قد غادر دهشته حين طلب من الممرضة إعطاء الطفل جرعة مخدر، ليخفف آلام الطفل ريثما يتدبرون الأمر أو على الأقل يفكرون به في روية.. لكن صوت الممرضة جاء هذه المرة حادا كأنما فيه دبابيس توخز وتثقب..

  المخدر نفد.. لا يوجد في المستشفى ولو جرعة مخدر واحدة.

خرج الطبيب ليتصل من مكتبه على أي مستشفى خاص أو حتى حكومي.. في محاولة لتدبر الأمر، أو تدبير أي شيء. وبالكاد وجد لقدميه موضعا خارج الباب حتى طارت إلى وجهه العيون، وتلاقت كلها على وجهه المقبوض تلتهم قسماته، لتقرأ وتخمن من ملامحه كيفية وضع الطفل ومدى خطورة حالته، وكي تستمد من وجه الطبيب وملامحه ما تستطيع أن تستمد من أمل وتقتنص منه ولو قبس من رجاء.. وعلى الفور سأل والد الطفل في صوت خافت متقطع وشاحب لا حياة فيه..

  هل سيعيش يا دكتور؟

لكن الطبيب باعد ما بين ساقيه ولم يتوقف، وأسرع من خطواته الجادة كأنه في معسكر للجيش، وكانت طرقات حذائه في الممر لها رهبة وهي تلتهم همسهم وهمهمتهم، وتشرخ قلوبهم في هذا الجو الكئيب الذي له مهابة الموت وقبحه..

ومن بعيد لوى الطبيب رقبته، ومن فوق كتفه في فتور منكود تسللت كلماته..

  سنعمل ما علينا.. والباقي على الله.

وبسط القاعدون والواقفون يديهم، وراحوا يقولون في وقت واحد كأنهم كورال حزين: يا رب سترك.. بخشوع قالوها، وأطلقوها برجاء ظاهر وجزع دفين.. ورددوها مرات ومرات، وفي كل مرة كانت تسري حزينة من صدورهم إلى صدورهم، وكالحمض المركز تنساب لاذعة من أكبادهم إلى أكبادهم.. وزحفت مرارتها إلى أن استشرت في أجسادهم التي تخللها همّود.

وراحت الدموع التي تسيل من عينيّ أم الطفل تحدث جميع من حولها عن الرصاصة التي أصابت كلية طفلها، وعن الرصاصة الأخرى التي استقرت في ظهر الطفل قبل ستة شهور، وأوشك طرفها أن يصيب العمود الفقري، ولم يستطع الأطباء يومئذ رغم ما بذلوه من جهد أن يخرجونها، خشية أن يحلّ بالولد الشلل الرباعي أو يموت، فبقيت في مكانها إلى الآن.. وزاد انفعالها ولهاثها وهي تحدثهم بأدق التفاصيل، ومع بداية كل تفصيلة نهر من الدموع كان يفيض، ثم يتبعه انهار مع نهاية كل تفصيلة وبداية التي تليها، ويتهدج صوتها وتلهث وهي تحاول اجترار الكلمات وتستخلصها من حنجرتها التي تصدعت أو كادت، ثم تغيب في نهنهتها وهي تمسح دموعها بالمنديل، وتردد الصلاة على النبي كي تتذكر ما تريد قوله..
وما زال هدير الدبابة الإسرائيلية يقرع أذنيها، وتخال جنزيرها الغليظ يدوس عظام صلاح الدين الأيوبي ليهشمها، ويهرسها ليحيلها إلى غبار له لسع الماء المغلي في العيون.. وتوقفت الأم فجأة عن الحديث، لسمعاها صرخة غير مألوفة شبت في أذنيها، فيها روح ابنها وآلامه، وفيها من العذاب ما يكفي لأن يجعلها تتعذب على كل إنسان يتعذب على وجه الأرض، عبرت الصرخة الباب الذي تركه الطبيب وراءه مواربا.. فأحست بها تحرق قلب قلبها، وفي صدرها راحت تحترق وتصعد السنة اللهب إلى السماء.. وبعضها كأنما يتطاير إلى خيام الأنبياء ليهزها ويزعق: في غزة أطفال تموت، وشعب بأكمله يموت.. فماذا انتم فاعلون؟ لقد يئست، وسئمت الحكام!.. كل أنواع الحكام.

جاء كبير الأطباء ولم يجيء بجديد.. ولا حتى حبة دواء واحدة.. وعبوس ثقيل كان ينوء به وجهه وقد فاض عن حواف قسماته وانتقل إلى وجوه المنتظرين ليغرقها في تكشير مبين، والتف المكشرين حوله في دائرة ليسألوا..

 خير إن شاء الله يا دكتور..

 ربنا يجيب ما فيه الخير.. لم أعثر على أي دواء.. ولا حبة.

وخيم على الجميع وجوم.. وهم لا يزالون يتسمعون إلى الصراخ.
وصار الطبيب يحدث نفسه: ولا حبة دواء واحدة!.. أي مجنون كان يتصور حدوث هذا؟.. بل أي عاقل كان يتصور أن يتحول المستشفى إلى مكان لموت المرضى؟.. من كان يتخيل كل ما يحدث؟ من ؟

ما إن دخل كبير الأطباء غرفة الإنعاش حتى وجد الممرضة جاثية على ركبتيها قرب الصغير الذي ذبل جسده وصار مثل وردة بلا ماء.. وزاد في وجهه الازرقاق، وهمدّ كالمصلوب.. والزبد الذي تكوم عند زاويتي فمه يكاد يسيل.. وبكت الممرضة وقد تحول بياض عينيها إلى احمر، وراحت تحتضن الطفل كأنها تبعد عنه عزرائيل، فقد تملكها إحساس أنه ابنها الذي حملته في بطنها تسعة شهور، وبدت كأنها لأول مرة في حياتها تكون أمام إنسان يتعذب وفي أي لحظة قد يموت.. ولا يزال دفء أنفاس الطفل يلفح وجهها الغارق في الدموع، دموع حرام تقطعها شهقات طويلات فيها لعنات وفيها حروق، وبللت الملاءة التي انكمشت لكثرة ما تلوى الصغير وتقلب.

ومن عيون الأطباء انهمرت دموع معذبة فيها لعنات.
وصار الجميع في داخل الغرفة وخارجها يبسطون يديهم ويسلطون عيونهم نحو السماء.. في انتظار معجزة تنزل عليهم.. أو جيوش تفك الحصار عنهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى