الأربعاء ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم مروة كريديه

نَقد النَقد

(كلّ مرّة أقرأ فيها مقالا ينتقدني أكون متَّفِقًا مع صاحبه، بل إنني أعتقد أنّه كان بإمكاني أن أكتب أنا نفسي أحسن من ذلك المقال، وربما كان عليّ أن أنصح أعدائي المزعومين بأن يبعثوا إليّ بانتقاداتهم، قبل نشرها، ضامنًا لهم عوني ومساعدتي. ولكم وددت أن أكتب باسم مستعار مقالا قاسيًا عن نفسي) خ. لويس بورخيس

بلغةٍ جسورة ودون أدنى مراوغة يجد المرء نفسه أحيانًا أمام نقدٍ ذاتي، يُعيد نقد الناقدين له دون تلمسّ رضى الآخر أو الذات، ولأهمية أصالة العقل والفكر وصلابتهما يراجِعُ الفرد قراءة ما كَتب ويقييمه، فَيودّ لو أنَّه قد أنتجه بشكل أفضل وعلى وجه أحسن.

وإن كانت صفة تقّبل نقد الاخرين تُعدّ ميزة إيجابيّة، وخطوة أساسية لتحقيق التطّور والارتقاء، إلاّ أنّ الأهم منها أن يستشعرالانسان نَفسه من خلال النَّّقد الذاتي قصور أدائه و محدودية انتاجه، فينقلب دور المؤلف فيه الى الناقد فنجده يُقيِّم ويُقوّم ويضيف ويحذف ويغيّر ثمّ يعود من جديد الى موقعه الأول.

وإذا تجاوزنا عمليات النقد التي تتناول(الصور) و (الشكليات)، فإنّ الحلقة "النقدية" الأهمّ بالنسبة للأفراد أو الجماعات هي تلك التي تطال (المنظومة الفكرية والفلسفية) التي تنبني عليها الأهداف المُؤَسسة للانتاج الفكري والسلوكي على حدٍّ سواء، لأنها ستتعرّض وتستهدف كافة مفردات المخزون الحضاري المُكتسب بما فيها المعتقدات والمسلّمات وأسس العمل واستراتيجيات التنفيذ.

أسئلة كثيرة ومثيرة يجد الانسان نفسه أمامها تطال منهجية النقد ومبادئه والميزان الذي يُزان به والمعيار الذي ينبني عليه. فما هو المحور الذي ندور حوله وماهي الموازين التي نقيس بها الأعمال؟؟ ومن يؤسس لما هو خير أوشر؟؟ ومن يشرّع لما هو خطأ أو صواب؟؟ ومن يمتلك الحقّ أصلا في هذا التأسس؟؟

وأمام تساؤلات كثيرة نتوقع فرضيات تشكل منطلقات عدة للنقد منها:

ثنائية الصواب والخطأ: إذا انطلقنا من انّ النقد عملية قائمة على ثنائية (الخطأ والصواب)، فإننا سنمضي وقتنا في الدّفاع عما نراه (صوابًا) أو حقيقة، وبناء عليه فإننا سننزل بحق (اعدائنا المفترضين) أشد الاحكام وأقساها، وسنتحول الى جلاّدين لمن يخالفنا الرأي وغير الرأي، وسنمنح لأنفسنا حقّ نفي الآخر انطلاقًا من كوننا على صواب، وفي هذه الحالة سيكون (الكاتب) عبارة عن كُرة في ملعب الأفعال وردودها ويمضي جلّ وقته في الردّ على الرد، وينتقل من دائرة الابداع والتطوير الى دائرة (الشجب) والإدانة، وصياغة الخطابات الدفاعية أوالهجومية، ويصبح ككرة في ملعب وسائل الاعلام التي تحاول ان توظف مواقفه لصالحها، فيما جلّ النقاد يحيلون خطأ مؤلف ما الى أسباب إما اجتماعية او معرفية او أيديولوجية.

إمتلاك الحق و إطلاق الأحكام والمواقف: فالحقيقة والجمال والعدالة...كلها مفاهيم لا تُمتلكَ ولا تُملَّك. فمن الذي يمتلك سلطة النقد ويدعي امتلاك الحقائق إذن؟؟ وهل نستطيع محاكمة كائنًا من كان بذريعة سلطوية مستخدمين لغة (القانون) والمشروعية؟ ومن يحدد المحرّمات اصلا؟ ومن يحدد الخطوط الحمر وما هي التابوهات؟

ان (المحرمّات) ما كانت كذلك لولا (توافق) مجموعة تمتلك السلطة عليها، فهي اتفاق مجتمعي مرسوم في المخيّل الحضاري! لذلك فالتابوهات تختلف من مجتمع لآخر ومن فرد لآخر...

وان كانت الحقائق و المعايير كلها نسبية، فإن الدور الاكثر سلبية هو ما يقوم به "المثقفون" الذين منحوا أنفسهم حق "اطلاق الاحكام "، وايضًا ما نقوم به نحن من ندعى اننا "ميديائيون " او اعلاميون من خلال عملية انتقائية نمارسها بوعي او بدون وعي من خلال تناولنا الظواهر والاحداث، فبعد ان يكون قد نُوّم القارئ بالسيل الاعلامي العارم المُنصبّ على رأسه ليل نهار فإننا نطلب رأيه الذي كنّا قد ساهمنا أصلا في صناعته بكل "جرأة وموضوعية "! فيرتدُّ ناقدًا حينًا ومادحًا حينًا او شاتمًا حينًا آخر.... فنكمل الدَّور المسرحي وندّعي اننا "منفتحون وصدرنا رحب" واننا بذلك نسعى لتطوير أدائنا!

ثنائية الداخل والخارج: إن إشكالية "الموقع" تنعكس بشكل كبير على أيّ عمليةٍ نقديّة، فهناك الكثير من العوامل والمتغيرات الداخلية والخارجية التي تحكم المسارات النقدية لانها ستنطلق حكمًا من موقع معين، فالمناهج المتنوعة واختلاف طرق التفكير مع ما يرافقها من سياقات اجتماعية وبيئية تجعل كل قارئ وناقد "حالةٌ " بحدّ ذاته، وهو سيحكم على أداء الآخرين انطلاقًا من نقطته وآنته ومتغيراته، وقد يكون محقًّا في وجهة نظرته تلك اللحظة من ذاك الموقع، فيما يكون الآخر محقًّا أيضًا من موقع آخر ونقطة أخرى.

وهنا نتساءل هل المطلوب من كلّ البشر ان يلتقوا في نقطة واحدة كي يروا نفس المشهد؟! فما نراه اليوم من النقد لا يمثل الا نقد ضيق يريد كل واحدٍ فيه ان يحشر الآخرفي موقعه ويذيبه فيه.

نقد النقد:

إذن فالنقد الفاعل هو "التفكيك"، وهو ليس عملية نقد ديانة من موقع فكري، ولا نقد نصّ يميني من موقع يساري، او تقييم أداء ليبرالي المنهج من موقع أصولي، او نقد أيديولوجية من زاوية لاهوتية...

ان للواقع مستويات لا متناهية ترافقها مستويات ادارك لا متناهي، والتي في مجملها مكمّلة للذات، فتفكيك النقد هو استراتيجية شاملة تَطال حتى الذَّات وتطال الجميع بما فيهم "النقاد انفسهم " والنصوص النقدية نفسها!

يقول دريدا: "النقد يعمل دومًا وُفق ما سيتخذه من قرارات فيما بعد، أو هو يعمل عن طريق المحاكمة. أّمَا التفكيك فلا يعتبر أن سلطة المحاكمة أو التقويم النقدي هي أعلى سلطة.إن التفكيك هو أيضًا تفكيك للنقد ".

أخيرًا حرصت في اصداري الاخير على عدم مراجعة شيئ مما كتبت واشرت بذلك في مقدمة الكتاب، لأني ما كتبت شيئا وأعدت قراءته إلا وغيّرته وما أؤمن به اليوم قد يتطوّر في الغد، وان كان ذلك في عرف معظم البشر تقلبًّا، إلا أنه يمثل تطوّرًا للذات الانسانية في سيرورتها الكونية.

ورغم تعدد الاتجاهات والمشارب واختلاف المآلات والنهايات، الا أن غاية ما نطمح إليه كمفكرون أحرار بناؤون في المجتمعات الانسانية، هو احداث إضطراب في مياه الفكر الراكدة، وهذا التحريك لا نستطيع الحكم على نتائجه أستكون سلبية أم إيجابية على الشباب الذي يتعرض لأقسى وأعنف موجة تنويم عبر الاحكام المسبقة والجاهزة و سيل المعلومات المتدفقة المغلوطة في عالم افتراضي، فتحريك الوعي الانساني لا يتم مالم يتحقق "الانفتاح " بين الذات والموضوع، بين مستويات الادراك والوعي، بين الألوهة والطبيعة.......والنقد وتفكيك النقد عندها لا يكون أكثر من رؤية تعبر الذات الانسانية من خلالها الى مستوى آخر من الادراك ترقى به عن عبثية المصير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى