الثلاثاء ٣٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم حميد طولست

الارتباك والحيرة في سلوكيات الطفل

ثمة تساؤلات كثيرة تقلق الكثير من المربين، وتتعبهم كلما حاولوا إيجاد الجواب الشافي لها، ومن بينها التعامل مع الطفل كمشروع رجل لما فيه من إجحاف بحق طفولته ومحاصرتها بضوابط سلوكية استبدادية مرتبطة بمعتقدات تفرز قيماً اجتماعية عامة محكومة بحمولات ثقافية أثرت فيها عوامل سوسيو اقتصادية<وسياسية وبيئية واسعة التشابك في الأسرة التي تداخلت سلط مكوناتها فأفسحت المجال للأم لتكون المحطة الأولى للتأثير في بعده الشامل، لوجودها شرط عند كل منعطف من منعطفات الحياة البشرية، من الحمل إلى الولادة مروراً بالرضاعة فالصبا والشباب.

فعلاقة الأم ـ المدرسة كما يقول عنها الشاعر، شرط الإعداد ...ـ بطفلها أولية وجوهرية لبناء شخصيته واستتباب صحته الذهنية التي تنبني، تدريجياً، طوال السنين التي اجتازها منذ الولادة وصولاً إلى سن الرشد. لها الدور الأساس والمتميز في تأمين التوازن النفسي للطفل وتطوير سياقات نضجه السيكولوجي السوي، والدفع به للانفتاح على الحياة وعلى العالم الخارجي، فهي توجهه الوجهة الصالحة وتهيئه لتحمل المسؤوليات المجتمعية، أو تنحرف به نحو منزلقات الضياع ومتاهاته..

فإذا حاولنا استقصاء أسباب الانهيار الأخلاقي السلوكي ـ عند العديد من الأطفال ـ أو ما نسميه اليوم بظاهرتي العزوف عن الدراسة والعنف المدرسي، فإننا سنفاجأ لامحالة بتداخل عناصر كثيرة ومتنوعة منها المادي والمعنوي، يستأثر فيه حضور الأم، الحضن الاجتماعي الأول، بحمولاتها التجارية الاجتماعية والعقدية المفعمة بالأساطير والنشاط العقلي البدائي والعادات والتقاليد، بحصة الأسد في التعامل مع سلوكيات الطفل التي ليست إلا محصلة طبيعية لأوضاع هذه الأم نفسها سواء الثقافية أو الاجتماعية أو النفسية، فهي المرجع الأساس الذي يُبلور شخصية الإنسان النامي ضمن إطار تبادلات علائقية محددة لمجموع تصرفاته وإدراكاته وقدراته، إنها المسؤول عن ارتباكه وحيرته وبحسن نية، بما تفرضه عليه من موزايك معتقدات الكبار وبدعهم وخرافاتهم التي لا تساير طقوس طفولته، ولا تواكب عالمه، ولا مستوى تفكيره الذي يعايش ما حوته مجتمعاتنا الحديثة من تدفق للمعلومات ووفرة الألعاب الإلكترونية المحفِّزة للطاقات الكامنة في هذا الكائن البشري الصغير، أمثال البولتروم، والميكي ماوس، والبوكيمون، وكل مغريات البلي ستيشن والإنترنت و و و... عالم مناقض تماماً لعالمها المليء بـ حشومة و أحشم و أنت صغير ما تعرفش لهذا الشيء<... إلى غير ذلك من الأوامر والتعليمات القهرية الصارمة الممعنة في السلطوية اللامنطقية غير المبررة، التي يشعر معها الطفل أنه غير مقبول لذاته كطفل ينعم بطفولته كاملة، بل كما يشاؤه الآخرون، رجلاً تام الرجولة<، فلا يشعر بالانتماء والاندماج اللذان يخلقان في نفسيته الطمأنينة والتقدير والثقة بالنفس، مما يمهد الطريق، ويؤمن الأرض الخصبة لوقوعه فريسة سهلة لغزو الاضطرابات النفسية، التي توسع مجال نفوره من حشومات أمه المحبطة ـ الرازحة تحت حضانة التراث المتحجر ـ فكلما تفتحت آفاق استقلاليته، سعى جاهداً للانفلات خارج إطارها، إلى آفاق أكثر حرية ورحابة، أوفر متعة وجاذبية واستقطاباً الشيء الذي يثير عند أمه ردات فعل قوية خانقة تفقدها الرضا على سلوكياته الطفولية الطبيعية التي تتعامل معها حسب ما يجب أن يكون كمال الرجولة لا ما هو كائن من صبوات الطفولة<، فالبون شاسع بين المأمول والواقع الواقع الذي تعتبره تنطعاً وخروجاً عن طاعتها وتطاولاً على سلطتها، فتقابله بزجرية لا تربوية، أساسها العقاب البدني المتمثل في الضرب لإيمانها بأن العصا خرجت من الجنة وأن العصا ما تخلي من يعصي<، و التجريح العقاب الأكثر إساءة، و الأعمق إيلاماً من الضرب، كاللوم والسخرية والاستهزاء وكل تصرفات الاستهانة والتحقير، الشيء الذي يعرضه لشعور الانسحاق والعدمية بحيث يفترسه ويخلق لديه ضميراً أرعن وكراهية للانضباط والسلطة ولكل من يمثلها، ويجعله يقف موقفاً عدائياً في المجتمع المحيط به.

فالطفل ليس آلة، بل كائن رقيق يتمتع بحياة داخلية في غاية الغنى والحساسية، روح وجسد يحتاجان إلى تغذية كل منهما والاهتمام بهما معاً مادياً ومعنوياً، لأن إهمال أحدهما يؤدي لا محالة إلى الخلل النفسي، والركود الفكري، وتعطيل الملكات وتدمير الميولات ودفن المواهب والقدرات، فموقعه بين عالمين متناقضين، عالم أمه السلطوي الضيق والضاغط ـ الذي لا يمتلك الحد الأدنى من الوعي لمميزات نموه ورغباته الطفولية، والذي يخاطب فيه العقل وحده، متناسياً الأحاسيس والمشاعر ـ والشارع الفسيح المحتضن الطريف، المشرع الأحضان لاستقباله، الذي لم يهيأ الطفل للانفتاح عليه والتأقلم والتفاعل معه، مما يزيد من إرباكه، واضطرابه وحيرته، فيواجه الأمر بردات فعل عكسية تبدأ بالعناد، ثم بالتمرد، فالعصيان، ثم يتوج نفوره بالعنف التعويضي ضد الآخرين بما فيهم نفسه، هذا الآخر الجحيم كما قال عنه سارتر الذي يعتبره الطفل سبب حرمانه وتشاؤمه ويأسه وكوابيسه وحصاره ـ لعجزه عن التكيف مع العالميين المتناقضين ـ فيشاغب ويشاكس ويتصرف بشراسة مع غيره، ويتلف الممتلكات، بالمدرسة والبيت على السواء، بل يدمر حاجاته وثيابه، ليثير الانتباه إليه مثبتاً ذاته كما هي كائن بشري يختزن الكثير من الطاقات المتطلعة للمشاركة في محيطه كطفل لا كرجل، وحتى يقال عنه عفريت وشيطان ومشاغب يتمادى في تلك الأنماط السلوكية الطفولية التعويضية، إذا لم يواجه بالعطف والحب والحزم اللازمين لمثل هذه الحالات، فيصاب بانهيار سلوكي أخلاقي مرضي يؤدي به وبأمثاله إلى الانحراف.

فالرقة والإقناع، إلى جانب القيم الإنسانية والدينية وتمثلها والتشبع بروحيتها وروحانيتها، أساس مناعة أطفالنا وحمايتهم من متاهات انحراف التربية والتهذيب، فبالحب والثقة والاحترام تربى وتهذب الأجيال، ويبنى البناء صلباً متيناً، ويُضمن السلام دائماً مستتباً بيننا وبين رجال المستقبل، المحور الأساس في قضية التنمية المجتمعية ولبنة التقدم والرفعة.

وحتى لا نحمل الأم وحدها كل وزر الانهيارات السلوكية والانحرافات الخلقية التي قد تعترض سبيل بعض أطفالنا، فإنه من المؤسف أيضا أن يساهم الواقع الذي تعرفه مؤسساتنا والذي لا يمت بصلة إلى هذه الغايات النبيلة للعمل المدرسي، قسطا مهما من تلك المسؤولية، حيث إنه أقل ما يمكن أن يقال عن هذه المؤسسات أنها بيئات تقتل الإبداع وتقمع الفكر والذكاء، ولا تمثل بالنسبة للطفل مجالًا للارتياح والتفتح والانفتاح بقدر ما تبدو كمكان للخوف والقلق والضجر، وهو وضع يعرقل النمو السليم لشخصية الطفل، بل يشوه تنشئته الاجتماعية.

فالجو المدرسي العام يفتقد كل الشروط الجمالية والمقومات الأساسية التي تجعل منه فضاء مقبولًا من التلاميذ، بما يمكن أن يتيحه من شروط الراحة النفسية التي تشجع الأطفال على الاطمئنان والركون إليها، حتى أن المدارس أضحت كمعتقل يلزم الطفل بقضاء فترة عقوبة داخله لأجل ذنب لم يرتكبه، فطبيعة فضاء المؤسسة التعليمية وأجوائها، وأحد أخطر عوامل كره المدرسة، وانحراف المتعلمين بها..
فمؤسساتنا تتصف بضيق مساحاتها وقلة مرافقها وتجهيزتها وكثافة عدد التلاميذ في الحجرة الدراسية الواحدة، وشكل المقاعد وتصميمها السيئ وحالها المتردي؛ والنظام المدرسي صارم وحازم لا يراعي ظروف نمو الأطفال ولا طبيعتهم اللاهية، والمنهاج الدراسي مثقل وجاف لا يراعي حاجات الطفل إلى التعلم الذاتي النشيط ولا رغبته في اكتشاف العالم واحتوائه وممارسة حواسه وقدراته ومهاراته بشكل مباشر في تناول المعرفة؛ فضلًا عن العلاقات السائدة في مؤسساتنا المدرسية بين المدرسين والتلاميذ والتي لا تستجيب لأدنى رغبة للطفل أو أبسط حاجة من حاجاته.

التعليم لا يقتصر على تلبية الاحتياجات المعرفية للطفل بل يتجاوزها إلى تلبية مطالب نموه البدني والاجتماعي والنفسي والعقلي، وهذا التعليم المدرسي الذي نحن بصدد الحديث عنه يتخذ من المدرسين الأداة الدافعة لعجلة تطوره والمحركة لقلبه النابض، فالمدرسون قلب هذا الجهاز النابض بالحركة وذراعه التي يتأتى له بها تحقيق أغراضه، والمدرس عامل كبير الأهمية في المؤسسة المدرسية –كالأم في المراحل الأولى ذات التأثير البالغ على حياة الأجيال وعقلياتهم_ لأنه يكون مع التلاميذ لفترة طويلة ويتفاعل معهم باستمرار، يخدمهم لتلبية الاحتياجات المعرفية و النشاطات الحيوية المثبتة للذات، يؤثر في شخصياتهم ويقوم بدور هام في توجيههم؛ وطبيعة عمله تحتم عليه أن يخدم التلاميذ يساعدهم في تعلمهم ويحقق تكيفهم الذاتي والجماعي الذي بدونه لا يمكنهم النجاح في حياتهم الدراسية.

إلا أن وضع المعلم عندا جزء من وضع المؤسسة التي ينتسب لها، ودوره لا ينفصل عن دور المدرسة التي يعمل بها، فالعوز والفقر المالي وتردي البيئة المحيطة وغياب التجهيزات والوسائل المادية، وهاجس النظام والانضباط، كلها أسباب تجعل المدرسين مستغرقين في البحث عن أساليب ووسائل مجابهة ظروف و إكراهات الحياة المعيشة قبل التفكير في تطوير الممارسة المهنية والإبداع في الحقل التربوي، ويكون الهاجس المهيمن هو التحكم في هذه الطفولة المشاغبة والحد من مشاكساتها وجرأتها التي لا ترحم.

ولعل أسباب هذه الأوضاع المتردية ناتجة في الغالب عن عوامل تردي الفضاء المدرسي، وضغوط المهنة التعليمية، والصعوبات الصحية والانهيارات العصبية والنفسية والبدنية، وانشغالات المعلمين وظروفهم الاجتماعية والمالية ومشاكلهم، وشيوع تمثلات سلبية عن الطفولة، كلها أسباب تضافرت لتحول دون بذل المدرسين الجهد في سبيل التقرب من الأطفال ومنحهم ما يحتاجونه من عناية واهتمام، فتفقد العلاقة بينهم الحرارة والتجاوب والتواصل العاطفي، وحرم الأطفال من الاستمتاع بمودة وحنو ومحبة معلمهم وعطفه.. و إقتصرت وظيفة هذا المعلم على إلقاء الدروس المقررة بين جدران الفصل، في غياب تام للوسائل المشوقة وغياب كامل للأنشطة المحققة للمتعة والتعلم. فكيف لا تضطرب سلوكاته وتنحرف أخلاقه، وهو في هذه المرحلة العمرية الحساسة في حاجة ماسة إلى هذا العطف والمودة والتفهم. لا أريد أن أكون متشائماً بتعدادي للجوانب السلبية هذه، كما أني لا أريد أن أبني آمالاً واهية ليس لها أساس من الواقع وأنا أعلم أنه لن يتغير شيء إلا فيما يخص القشور التي تلمع كي تبدو براقة دون أن يتغير مسار تعليمنا الجامد. الأمر هنا مرتبط بفلسفة إدارة التعليم -كما سيق أن تطرقت لذلك في مقالي" الإدارة والإداريوم"- ألائك الذين يفكرون للتعليم و يديرونه، من جهة وبين هدف التعليم نفسه الذي يفترض أن يكون هو الهدف النهائي للدولة، فما نريد أن نكون، وهو سؤال صعب يحتاج إلى قراءة عميقة لما يحدث في العالم وبحث متعمق لإمكاناتنا وكيف نستثمرها. هدف التعليم يفرض علينا أن نضع أسئلة مثل ماذا سيكون عليه حالنا بعد عقدين من الآن . الأمم تتقدم ولديها استراتيجيات تعليمية متطورة وتريد أن تنافس وأن يكون لها موضع قدم في هذا العالم (الذي لا يرحم) وتبحث بجد عن مستقبل مشرق للأجيال المقبلة ونحن لا ندري ما هدف التعليم لدينا وما هي نتائجه على أجيالنا ونوعية

السلوكيات التي يتسبب فيها لبعض المتمدرسين، من اضطرابات مزاجية، واضطرابات الكلام، ومشكلات واضطراب التفاعل الاجتماعي، والعصبية وثورات الغضب والعدوانية غير المضبوطة، وانخفاض المستوى التحصيلي، وكل مظاهر القلق المتنوعة، التي ما هي إلا مؤشرات تدل على أن الأطفال يعيشون حالات نفسية غير سارة يطبعها التوتر الذي لا يستطيعون منه خلاصًا ولا يقدرون على مواجهته وتغييره، وأساس هذا الإحساس هو الخوف من الأذى أو التعرض للأذى أي خوف مما يمكن أن يقع أو مما كان قد وقع؛ والناتج عن تجربة شخصية سابقة أو عن تصور أولي للحياة المدرسية يشكل تصورا سائدًا عن هذه المؤسسة لدى التلاميذ عامة.

فحين يخضع الصبي لظروف مقلقة سيئة فإنه يعيش وضعًا نفسيًا غاية في التوتر، خاصة إذا كان هذا القهر مسلطًا عليه من مدرسه، فالطفل يحس بالغبن لأنه يدرك عدم التكافؤ المادي والجسدي بينه وبين مدرسه، فيكتنفه الإحساس بالضعف والقهر والغبن والحصر النفسي.

لا أريد أن أكون متشائماً بتعدادي للجوانب السلبية، لكني كذلك لا أريد أن أبني آمالاً واهية ليس لها أساس من الواقع وأنا أعلم أنه لن يتغير شيء إلا فيما يخص القشور التي تلمع كي تبدو براقة دون أن يتغير مسار التعليم الجامد. الأمر هنا مرتبط بفلسفة إدارة التعليم (من يفكر للتعليم ومن يديره) من جهة وبين هدف التعليم نفسه الذي يفترض أن يكون هو الهدف النهائي للدولة، فما نريد أن نكون، وهو سؤال صعب يحتاج إلى قراءة عميقة لما يحدث في العالم وبحث متعمق لإمكاناتنا وكيف نستثمرها. هدف التعليم يفرض علينا أن نضع أسئلة مثل ماذا سيكون عليه حالنا بعد عقدين من الآن (2025م). الأمم تتقدم ولديها استراتيجيات تعليمية متطورة وتريد أن تنافس وأن يكون لها موضع قدم في هذا العالم (الذي لا يرحم) وتبحث بجد عن مستقبل مشرق للأجيال المقبلة ونحن لا ندري ما هدف التعليم لدينا.

فرفقاً بفلذات الأكباد أيتها الأمهات، فهم الأمانة التي أمر الله سبحانه وتعالى بصونها والحفاظ عليها بقوله في الآية 6 من سورة التحريم: (يأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم و أهليكم ناراً) كما أخبرنا النبي الأمين في الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع و مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيته و رعيتك أطفالك.وأوجب مسؤولياتك رعايتهم وإعدادهم لحياة إيجابية و بناءة، بإعادة النظر في حكمك وتعاملك معهم بالتفريج عنهم وإخراجهم من قفص العناية المشددة وما يصاحبها من تحكم وتسلط، وبتطوير التشريعات التربوية المهتمة بحاجاتهم كأطفال، وانتقاء الخبرات الأساسية التي يجب أن يكتسبوها في مراحلهم الأولى لأهميتها في مساعدتهم على النمو السليم، وتكوين شخصيتهم، ليعبروا بحرية عن طاقاتهم واستعداداتهم للنماء والتطور، لتحقيق التنمية المجتمعية الشاملة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى