الأحد ١٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
قصة قصيرة
بقلم ناصر الريماوي

قهـــوة ليــــس أكثــــر

مهداة إلى الأستاذ بسام الطعان

تبعتها إلى المطبخ، وأخذت أتأملها عن قرب أكثر، وضَعَتْ دلة القهوة على النار، ثم التفتتْ إلي قائلة: كالعادة تحبها مُرة.

رددت بالايجاب بحركة سريعة من رأسي، دون أن أتفوه بكلمة، كنت خلالها أواصل تأملاتي في شيء من التدقيق وكأني أراها للمرة الأولى.

كانت تبدو مستسلمة لهذه الرغبة، وهذه الإبتسامة الهادئة على وجهي لم تترك لها مجالا للتمادي في الحوار، فتؤثر الصمت والإنتباه لإتمام صنع القهوة.

ومثلما هي العادة، تبدأ بالترنم بلحن جميل لأغنية لا أعرفها، لحظات قليلة وتكون القهوة قد أصبحت جاهزة، تسبقني إلى قاعة الجلوس الرحبة فأتبعها إلى هناك مرة أخرى، تناولني فنجان قهوتي وهي لا تزال تترنم بذلك اللحن الجميل وأنا أراوح بين التامل والإصغاء لها طرباً، كنت في كل مرة أحاول الوصول إلى شيء يسكن وراء تلك العيون، علها تكشف عن آفاق مسكونة بخيالات وأسرار، تقبع خلف هذا الصدّ المزمن...

ما أجمل ماتنطوي عليهما من سحر وروعة !

وما أجمل أن تبحر فيهما عبر هذا الوقع الرتيب المتناغم لهذا اللحن المنساب عبر الشفتين، كلما ضمتا إليهما حافة القدح لترشفا منه إنقطع ذلك الهديل، لتمر لحظات يصبح التوغل فيهما أكثر صعوبة.

رائحة القهوة تصعد إلى انفي ثم إلى بقية حواسي لتنبه آخر الخلايا التي لم تستيقظ بعد في جسدي.

لم أجد ما اجيبه به عندما أفقت من شرودي وهو يهزني بيده قائلا: ماذا بك إلى أين ذهبت، أظنك ذهبت إلى أبعد مما أتصور، إشرب قهوتك قبل أن تبرد، ثم أخبرني إلى اين وصلت.

كيف يمكنني ان أتجاوز به كل هذه النقلات الزمانية، لأعيده إلى الوراء أياما وشهورا، أيمكنه أن يحيا معي ولو للحظات وانا أشتم الرائهة المنبهه القادمة من خلال هذا الركام الكبير لكل تلك السنين؟ وبعد المكان أيضاً وهو الذي لم يرها ولا لمرة واحدة في حياته، ولم تعبق بها أجوائه...

إرتد إلى الوراء في إحتجاج أكيد على شرودي في وجوده، مرة أخرى، أظهر الضيق وتمتم بكلمات لم أفهمها ، ثم أفصح في هدوء مفتعل : أنا لا الومك أن يظل قلبك معلقا هناك في دمشق، لكن وأنت هنا برفقتي في عمان، ليس أقل من أن يظل عقلك معنا، أما الأثنين هناك... فلا وألف لا ....

فأبتسمت له وأنا أحاول ان أوضح: هي القهوة يا صديقي، مرتبطة بداء قديم، تعاودني أعراضه كلما قدم لي أحدهم قدحا، فسرعان ما ترتقي برائحتها إلى أبعد من أنفي، لتوقظ شيئا يسكن في أعماق الذاكرة... حيث يكمن الداء.

أجاب وهو يعدل في جلسته فوق كرسيه المعتاد، وكأنه يعي ما أعنيه

 إذن ينبغي بنا العودة إلى الوراء سنوات عدة، إلى أيام الدراسة الثانوية، أما زلت تذكر مقهى (السنترال) ؟ أعني مقهى الناصية كما كنت تسميه سابقا، تصور حتى هذا اليوم ما زال يحيرني سر تعلقك بذلك المقهى!!!
 ربما إطلالته المتشعبة، لوقوعه على الناصية مطلا على تقاطعات عريضة في وسط البلد، وربما بساطته، وإحتفاظه الدائم بأجواء كانت تروق لي... ربما.
 في دمشق... ألم تجد مقهى بديلا يوازيه في مثل هذه الأمور؟؟؟؟

ماذا أقول له؟ لقد عرفت الكثير من المقاهي بحكم تعلقي بهذه الأجواء وتلذذي الدائم بهذا المشروب المتععد الألوان الذي ندعوه القهوة، ولكنها تختلف، والسر يكمن في زخم الرائحة، وبالترنم التلقائي أثناء إعدادها، كتقليد حرِصَت عليه، وبالشفتين المصبوغتين بحمرة قانية، حين تضمان إليهما حافة القدح، وبلذة التأمل... خفت إن حاولت إطلاعه بأني لا أتلذذ إلا بشربها في ذلك المكان البعيد من تلك الضاحية المطله على ربوة الشام ...ومن صنع يديها... خفت أن يسألني عن الجنه ...أهي المقهى البديل؟؟؟

في هذه المرة لم يؤنبني على شرودي، بل إكتفى بهزة من رأسه معلنا إنفلات الأمر من بين يديه، وهو يقول في هدوء رزين:
 إشــــــرب... إشـــــرب قهوتـــــك قبــــــل أن تبــــــرد.

مهداة إلى الأستاذ بسام الطعان

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى