الجمعة ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
أيها الفلسطيني
بقلم قاسم مسعد عليوة

من عساه أن يرقص أفضل منا؟

مذبحة غزة ليسـت أول ولا آخر المذابح..

ورقصاتنا العربية لا ابتداء لها ولا انتهاء.

الدم الفلسطيني يراق ونحن لا نأتى فعلا سوى الرقص، لا نملك شيئا يفضله، ولا نجيد فى هذه الدنيا من فعل سواه.

أدباء؟.. قد نكون. سياسيين؟.. ربما. مثقفين؟..أحيانا، لكن الحقيقة التى لا لبـس فيـها هـى أننا بالأساس راقصون. طوال الوقـت نـرقص. ننظر إلى المرايا ونـرقص. نخـرج إلى الـحلبة ونرقـص. نسـعى لاحـتـكار الأضـواء البعيدة عن وهـج الانـفجـارات. لا هم لنا إلا أن نكـون مرئيين من جميع الزوايا. أينما ينـظر المـشـاهـد يرانا.. ساخـنين.. ملتـهبين.. نميـد وننثنى بما يتفق والنغمات الصادرة عن عمـليات الذبـح والتقتيـل. مع الأنـين نئـن. مع الـهدير نهدر. نقفـز أحيانا ونطير أخـرى. ندور حول أنفـسنا. نُدَوِّم الـهواءَ.. نُرعـد.. ثم نمد أيديـنا باتجـاه الجمـهور.. الجمهور العريض.. الجمهور الحاضر.. الخفـى.. إذا لم تهو إلينا الأفئدة اقتحمناها.

نجمع برقـصنا، ونـحن فى مأمن من الإف 16 والأباتشى ودانات الألف رطل والقنابل العنقودية والفسفور الأبيض والرصاص الحى، آلاف التوقيعات لحملة المليون توقيع. نخاطب السكرتير العام للأمم المتحدة. نستصرخ جامعة الدول العربية. نناشد الزعـمـاء العـرب. نحاضر ضد الصهيونية. نقيم الندوات وننظم المعارض. نستدفئ بالصهد، الذى كان، لشعراء المقاومة الذين كانوا. نلـهث إذ نتنـاقش فى محاور المؤتمرات التى خصصنـاها للشجـب والإدانـة. ننثـر رذاذ أفواهـنا فوق المـيكروفونـات ونحـن نـصيح بعـبارات التـأييد لفلسطين المقاومة. نـقـيم المهرجانـات الصاخـبة ونستضيـف لها أصحـاب المـبادئ من الفنانـين. نهـتف فى المظـاهرات العاصـفة ونحرق الـعلمين الإسرائيـلى والأمريـكى. نحض على مقاطـعة كـل ما هو صهيونى وبـعض مما هو أمريـكـى. نـحرر القـوائم السـوداء ونمـنع التـعامل بالشـيكل.. فيـما يـزداد الـدم الفلسطينى المراق غزارة. يندفق من الأجساد المثقوبة لتوها، ومن الشرايين والأوردة المعجونة باللحم والعظم ورمل الطريق.. يسيل ويتخثر وتتـتابع موجاته بطيئة لكن بقوة.. يسيح بحمرته القانية ويفيض من فوق ومن تحت عتبات الحدود. يعبر قناتنا المصرية.. قناتنا الحمراء دوما.. ويأتينا فنـخوض فيه بأحـذيـتنا. ما الفرق بيننا وبين حاملى المقاليع وحارقى الكاوتشوك ومـفجرى الـسيارات المفخـخة؟ ما الفرق بيننا وبين المفـقوءة عيونهم، المبـقورة بطونهم، الساقطين فوق الإسفلت، ولافظى أنفاسهم داخل عربات الإسعاف؟.. ما الفرق؟

إذ نجتهد فى الرقص نسأل أنفسنا من عساه أن يكون أفضل منا فى الرقص؟.. من هو الأكثر إخلاصا؟.. من يضحى مثلنا؟.. بشكائر الأرز نتبرع، بالملابس الفائضة عن الحاجة، ملابسنا وملابس أولادنا، بالبطاطين المخرقة، بالعملات عديمة القيمة، وبالأدوية التى نتنازل عنها وبنا ما بنا من خصاصة.

كاميرات التليفزيون تأتينا. تنقل تفاصيل حركاتنا. تتابع انقباضاتنا وانبساطاتنا. فخـرا نتيه، لكننا نغطى ملامحنا بما يليق من تعبيرات. معرقين لاهثين ننظر إلى عـشرات الأيـدى المشغولة باختزال أوصاف رقصاتنا على أوراقهم، والمعنية بتقليب وتبديل شرائط مسجلاتهم الخاصة، أو المجتهدة فى التقاط أفضل الصور الفوتوغرافية لصحفهم. يخطفنا مقدمو البرامـج ومذيعو الراديو والصـحفيون من حلـبة الرقص إلي حـلبة التسجيل.. (كم أنتم شجعان). (كم أنـتم كرماء). (هكذا تـكون المسانـدة). يتملـقوننا بألـسنة وعيون يثقـلها اهتمـام حقيقى أو مصطنع.. أسهل الطرق لـمـلء شرائطهم وأوراقهم. هم أيضـا يرقصـون. يعلمون أن الواحد منا يتلبسه مائة راقص أو يزيد إذا ما رأى نفسه فى بؤرة اهتمام الأعلام المرئى والمسموع والمقروء. ونحـن نجاريهم. نخطب ودهم قبل ود الجمهور العريض الذى نستهـدفه ونقدم رقصاتـنا له. نفـعل ما نفعل باقتدار. نفـعله ونحـن نـعلم أن الـشرائط والأوراق ستخـضع لمـقـصات المونـتـاج ورؤى المُعِدِّين والمخرجين وتعليمات الرقابة وصرامة الرؤساء وتوجيهات الساسة المسئولين.

المنشور عن رقصاتنا فى الدوريات ساخـن.. ملتهـب.. بـين الـسطور تـهدر موسيقانا.. مقدماتها شظايا من قنابل وخواتيمهما شواظ من نيران.. فى الراديو نسمع دبيب أقدامنا وتصفيق أكفنا وصراخنا ولا نحس بحميـة الأجساد.. أجساد الفلسطينين فى غزة إذ تنتفـض وتقاوم موتها وموتنا نحن العرب. أما الشاشـات فلا تـعرض إلا الهادئ المستـكين من تـعبيـرات أجسـادنا نحن وملامحنا نحن.. يحـدث هذا فلا نبتئـس لأننا نعـلم أن هـذه هى شروط المراقص العامة .

حكامنا مـضغوطون، أبـصارهم زائغـة وموزعـه بـين رقـصاتنا ورقـصات البـنتاجون والـ سى أى إيه والـبيت الأبـيض ولوبى الكونـجرس البغيض. مشغولون بالاستوديو الأمريكي إذ يغير طاقم فيلمه الجديد. بوش وكونداليزا مضيا وجاء أوباما وهيلارى، فأى سيـناريو سيكون من نـصيبكم يا أهل فلسطين. بلير الإنجليزى المشارك للعدوين الصهيونى والأمريكى فى اعتداءاتهما ومجازرهما وقت أن كان رئيساً لمجلس وزراء بريطانيا أصبح مندوباً أوربياً لحل الأزمة، وهاهو الرئيس الفرنسى يسارع بدفع قطع من أسطول بلاده البحرى ليرابط قبالة غزة ليمنع عنها ما تدافع به عن نفسها. إنهم لا يرقصون.. يخططون ويتحركون ولا يمانعون إذا ما طلبنا منهم تزويد حلباتنا بما يتيح لنا الرقص الأمثل، أجهزة صوتية مثلاً وأضواء ملونة، فالمرقص متسع والأجساد كثيرة والنشوة لا تنقصنا.

ومثلما هو الحال في كل مُـلمة تنجـذب الأحزاب المحلية فترسل ممثلـيها إلى الحـلبة التى نسيطر عليها ليشاركوننا الرقص. يجتهدون للانخراط فى أداء نفس الرقصات، نفس الحركات.. هز البطن لا يصلح هنا، فلا مجال لتملق الغرائز، لكن لا بأس إنْ اهتزتْ أو ترجرجتْ مع اهتزاز وترجرج الأرداف، عفواً أو قصداً، فالطبع دائماً غالب والعِرْقُ دسـاس. حتى اليمـين، بكل فـصائله، يأتيـنا ولا يخشـى تهمة الرقص مع اليسار.. الفاجر.. الكـافر.. المتعامل قديماً مع موسكو.. والآن مع الشيطان.. وموسكو بطريقتها تمارس فعل القهر على الفلسطينيين، حلفاء الأمس، ومن الظل تشارك الظالمين رقصتهم وفرحتـهم، وبطريقتها ترسل قبلات الإعجاب للصهيونى الذى أكرمها بهجرته منها إلى فلسطين.

والدم الفلسطيني لطخة مطبوعة على غلاف المجرة التى تحتوينا.. يهمي علينا مع مطـر الشتاء، ونتنفسه في هواء الصيف. نشربه مخلوطا بميـاه كل الفصول، ونأكلـه مع كل ورقـة خضراء وثمرة فاكهة وحبة بقل.

الكل يرقص.. يهدأ أو يصخب.. يمارس رعبه أو فرحه.. إلا الفلسطينى الذى يترنح ويتصالب ويكبو وينهض وجراحه تشخب دمه. ربمـا بـدا فى تشـبثه بأهداب الحياة بعض ملامح من رقص. لكن البون شاسع بين رقصة الذبيـح ورقصة الجـزار.

والـجزارون كُـثر. معهـم الـسـكين والمِـَدَشَّـة، الدبـابة والصـاروخ، ورقـة الفـيـتـو وحـقـيبة المفاوضات. يلوحون بأسلحتـهم ويرقصون. يدفعون بأذرعـهم للأمام مهددين. يزفرون زفير نافدى الصبر. محنقون. موتورون. منتفخو الأوداج. متورمـون. ونحن نر قـص. نعلم أنه لكى نقترب منهم لابد أن نرقص، ولكى نغضبهم لابد أن نر قـص، ولكى نفاوضـهم لابد أن نرقص، ولكى نرضيهم أو نبهرهم لابد أن نرقص.

هذه هى لغة العصر.. اللغة الجديدة بين التابع والمتبوع.. لغة الخدر والاستفاقة.

(إذا كنت تريد أن تدخل ساحة الحـوار العام وتجـذب الانتباه نحو خطر أو خوف مـا، أو تساعد إنسانا يعانى من الاضطهاد، فكيف نفعل ذلك اليوم دون أن تكون راقصاً أو أن تبدو كذلك؟). هذا ما قـاله فانسـان لفونتـيان في روايـة ( البـطء) لميلان كونديـرا. كونــديرا الذى أخــذ يرقـص ويرقــص ليـنـال جـائـزته، المخضـبة بدمـاء الفلسـطـينيين، من يــد الجــزار الإسرائيلى.. مثله مثل كثيرين ومنهم يا للخزى عرب.

الكـل يعيش زيفه.. الكـل ينشـد المظهـرية والاستعــراض.. الكل بطريقـته يمارس الرقص.. فى الظل أو تحت الأضواء.. أمام المرايا أو فى قلب الحلبة. نحن أيضا لا نملك إلا أن نستمر في رقصـنا. لا نمـلك إلا حرصـنا على أن نكـون مرئـيين مـن جميع الـزوايا، فبالرقص.. بالرقص فقط نكون فوق مستوى الـلوم. ومن يستطيع أن يلومنا، من يقدر على توبيخنا، من.. سوى الفلسطينيين.. وحدهم؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى