الأربعاء ٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم زكية خيرهم

غريب

كان يبحث في ذلك المكان المهجور عن " أمل" لتستأجر له وطنا. يتأمل بين الجدار الأربعة التي تسجن روحه القلقة و غير المستريحة. يحلم بوطن بين القصور والقلاع، ودموع الشوق تطارد آهاته. يتحدث مع وحدته مخاطبا أمله التي اختفت أو ربما هو الذي اختفى كنور يخرج من جسد مطروح على قارعة الطريق. ينظر إليها تبكي وتنوح جسد بدون روح ولا نبض. قهقهات ونشوة الانتصار الكاذب الذي وهبه لنفسه على تاريخ مشبوه يدوي في أرجاء المكان كما آمال أخرى ستنعي ذلك الوطن.

يخاطبها وليس من مجيب. قصائده متسولة ... كلماته ثملة ... مشاكسة ....تبحث عن هوية مفقودة في رعشة الزمن.

في ذلك الزمن القديم ... في ذلك الوجود يمضي وراء الستار ليفض بكارة الصفاء. في درب أعصابه ضاعت كلماته في سكون اليأس، كما ضاعت غيمة وتوارت في غروب الأمل. غريب مازال يسير في غربته العطشى، دون جرعة ماء تطفئ ظمأ سمائه التي لا تعرف الوسن. طار النوم من جفنه ليجد نفسه في بلاد الصحاري والرمال. يبكي أملا أن يستأجر له وطنا ويضمد جروح الفراق التي هشمته رياح جرفت الحقيقة، وتركت وراءها سنين من الكذب المشنوق بالألم. لا الحلم ولا الأمل ... ضاعت حكمتهما تحت براثن وطن، وصمت صوت الحق يحلّ محله الأشواك. ضاعت الأحلام كما اختفت خيوط هشة من بصيص النور. ضاع كل شيء ... تمزقت الخيوط وغابت الشمس. كما تبللت الأمطار و القلم يسطر الأسى وشعارات وكلمات غامضة ومديح هجائي على شكل غزل.

هو حلم عابر أو كذبة معتقة تعيش في الوطن؟ تمزقت على الشفاه شعارات كما خدشت العقول الأظافر. وأمل تجلس القرفصاء تبكي غريبا عن وطن مجنون يقود أمله إلى الوحل... تلاشى في البعيد عند انقضاء الليل. صراخ الغضب والأسى يغطي البحر مثل ألواح من سديم، وصمت حزين ينسكب من دموع ظمأى. ويأتي الوطن ... وبين السكون وبين الدموع وخلف العيون سيبقى الأمل، ويدون القلم على السطور حكاية نار شبت لتحرق الجبال والصخور والحب والسلام وأمل غريب وغربة أمل.

انتابت غريب رعشة على جسده الملتهب يكتوي بنار الذكريات. ساعات ... لحظات اختفت في كهف الضياع. ووحدة تتوسد غربة ودموع تبحث عن أيادي لا تقوى على اللقاء.عن روحين أنهكهما الوطن.

أمل وغريب وما بينهما الوطن ... انقضى الليل على شفاه الجميع، وأشرقت النار في وقت غسق، في بحار من دموع ومياه من أحلام. رحل كل شيء. أختفت الأشياء وأغمضت عيني على امتداد التلال، أتأملك دون حجاب وأنا أبصر ملامح ذلك الوجه الباهت. يا له من قلق يلهث بين ضلوعي، وأنا مازلت أتأملك خلف تلك التلال وفوق تلك السماوات. افترقنا للأبد عن أوطاننا وجذورنا، فلم تعد لنا صور ولا آثار على تلك الرمال.

هل نستعيد ساعاتنا التي ولّت في دروب الضياع ووحشة الليل؟ ليس مهما أن ترجع الأشياء إلى ما كانت ... ولا أحد ينعي مآساتنا المستحيلة، ولكن أن نعرف الكون على ما هو عليه وكيف نتصرف فيه بعيدا عن تلك الوجوه التي تحط المرء في دوامة الجنون. كل شيء أصبح عبثا .... لم أعد أؤمن بشيء إلا باحتجاجي وتمردي، لانعدام المنطق في وطن يلفه الحطام ويقوده الضياع. قلعة عمياء محصنة بالجهل بعيدة عن العالم.

لن أرضى بساعات محكومة بالزوال ولا السلام المدثر بالبؤس، لن أتلقى أوامر لم تعدّ تطاق . إنني أؤثر أن أموت عزيزا رافع الرأس على أن أعيش حياة الذل والهوان. خذوا معكم ناركم التي تحرقني عبثا، وتمسكوا باحتجاجاتكم وإرهابكم وسياطكم وظلمكم ... أسفي عليكم وحسرة عاشق ...!! غريب ... بلا وطن!!

مازال يتفقد الأشياء ليستأجر وطنا بين الروابي المسكونة بالحلم والجنون. يتبعثر في احتراق ... يتبلل في الشرود ... يتجول في حروب على منفى السنين ... وتجاعيد الغربة تعزف كلمات الانتظار على نغم الرذاذ ومنفى السراب. ويبقى غريب سجين الديار، وألم المنفى يئن الوطن وتبقى الجراح في صمت تسيل.

ويوما بعد آخر وسنة بعد أخرى وبين الهضاب ورمال الصحاري العطشى، معا غرقا وراء أمواج مرتبكة لتقودهما بعيدا إلى اللامكان. كم هو موحش ومعتم ذلك العمق المبهم الذي يشبه غيمة سوداء في عتمة الليل. ضاعت الأحلام كما الإبتسامة في ضباب الصباح. كما تاهت الخطوات بعيدا عن الوطن والأشجار والأزهار . اختفى الربيع بين الحقيقة والدخان. وظلت كذبة الوطن تنعي الماضي كما الحاضر وتتأسف عن الآتي الذي ارتحل. مزقت الريح ثوب الشمس، وجفت الصرخة في دموع اليأس، وابتعد غريب عن أمل، كما أختفت أمل عن وطن حاضر يعيش فيها وملتصق بغريب كما الجلد على اللحم.

وكلانا يرقد تحت وهم قبة الوطن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى