الأربعاء ١٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم یوسف هادي بور

قراءة جديدة للفکر النواسي

إن المتتّبع لأخبار أبي نواس وأحواله يواجه أخبارا متضاربة وآراء متباينة في تناول شخصيّته ومعالجة خمرياته، بحيث لا يتاح له التعرّف الصحيح على حقيقة أمره وحقيقة شعره الخمري.

فقد أجمع غالبية الذين كتبوا عن سيرته وشخصيته على أنّه كان عابثاً، ماجناً، فاسقاً، خليعاً كل الخلاعة، ومن جانب آخر يؤكّدون على انّه كان عالماً بارعاً، وحافظاً للقرآن الكريم، وبصيراً باختلاف القراءات، وعارفاً بناسخه ومنسوخه، وبمحكمه ومتشابهه، كما كان متكلماً جدلاًً فهماً، فكاد يكون إماماً من أئمّته وكان متبحرّاً في علم النجوم والطبيعيات، كما كان راوية فحلاً بحيث روى عنه الكثيرون من الفقهاء وأصحاب الحديث، وكان فقيهاً عارفاً بالأحكام والفتاوى، وصاحب الحفظ والمعرفة بطرق الحديث، كما كان شاعراً مجيداً.

فلو سلّمنا بما روي عنه من إلمام بهذه العلوم، وسعة الإطّلاع، والثقة والإطمئنان، فليس من المعقول أن نقبل القصص المختلفة حول مجونه السافر ومجاهرته بالفجور بتلك الصورة الصارخة التي تحدّث عنها البعض من أصحاب التواريخ.

ولكي يتاح للباحثين التعرف بشكل متكامل على حقيقة أمره وحقيقة معاني شعره الخمري، فلابد من إلمامة ولو عابرة على حياة الشاعر الّتي قضاها في ظلّ ظروف سياسيّة بالغة التعقيد وحكومة جائرة تأخذ من الإسلام غطاءً لتبرير أعمالها.

اسمه ونسبه وكنيته:

(هو الحسن بن هانيء بن صباح بن عبد الله بن الجرّاح)(1) ويقال: (هو الحسن بن هاني بن عبد الأول بن الصباح مولي الجرّاح و كنيته أبونواس. سئل عن كنيته وما أراد بها ومن كنّاه بها، وهل هو نَواس أو نُواس، فقال: نواس، جَدَن، يَزَن، كَلان وكَلاع أسماء جبال ملوك حمير والجبل الّذي لهم يقال
له: نُواس.)(2)

(وكانت كنيته الأصلية أبا علي وإنّما كان يشتهي أن يلقب بأبي نواس لشهرته وأنه من أسماء ملوك اليمن.)(3)

فيما يتعلق بأبيه (هانيء) فقد قيل عنه: (كان أبو أبي نواس حائكاً وقيل: كان من جند مروان بن محمد ـ آخر خلفاء بني أمية ـ من أهل دمشق وكان فيمن قدم الأهواز في أيّام مروان للرّباط والشحنة، فتزوجّ ب(جلّبان).)(4)

(أمّا أمّه جُلّبان كانت من بعض مدن الأهواز.)(5) فليس صحيحاً قول بعض المؤرخين القائلين بأنه كان من أبوين فارسيّين ومنهم حنّا الفاخوري.(6)

مولده ونشأته:

اختلف الرواة في مولده وهو يتراوح بين سنوات مائة وست وثلاثين حتّى مائة وتسع وأربعين. وقد ورد في كتاب طبقات الشعراء: "ولد بالأهواز، بالقرب من الجبل المقطوع المعروف براهبان سنة تسع وثلاثين ومائة."(7)

قد جمع ابن منظور كلّ هذه الروايات في كتابه من دون أن يخرج منها بنتيجة قائلا: "كان مولده في سنة ست وثلاثين ومائة وقيل: سنة خمس وأربعين وقيل: سنة ثمان وأربعين وقيل: سنة تسع وأربعين."(8)

فقد الحسنُ في السنة الثانية أو السادسة من عمره أباه، فنقلته أمّه إلى البصرة لضيق العيش في الأهواز حسب رواية طبقات الشعراء : "مات والده هانيء وأبو نواس صغير. فنقتله أمّه وهو ابن ستّ سنين."(9)

وقيل أيضاً: "كان في السنة الثانية من عمره وأنّ أباه نقله إلى البصرة من الأهواز." (10)

فلا شكّ في أنّه ولد بالأهواز ثم انتقل إلى البصرة، لكن الخلاف فيمن نقله إلى البصرة. أ والده أم والدته؟ وكم كان عمره آنذاك؟

"والواضح أن أباه لم يعش طويلاً. فَقَدَ الحسنُ أباه وظلّ يتيماً في كنف أمّه جلّبان "فأسلمته الأم إلى الكُتّاب ليتعلم القراءة والكتابة."(11)

ولمّا شبّ الفتى رغب في العلم والأدب وتعلّق بالشعر. ولكنّ الحياة كانت صعبة، وكان الزمان قاسياً. فأسلمته الأم إلى بعض العطارين ليعمل في النهار وحينما فرغ عن العمل يذهب إلى المسجد ويحضر في حلقات الدرس. كما ذكر ابن منظور نقلا عن الجاحظ: " لمّا شبّ أسلمته أمُّه برّاءً يبري عود البخور."(12) فظلّ الحسن مدة على هذه الحال: العمل عند النهار والحضور في حلقات الدرس عند المساء. "فلمّا ترعرعَ خرجَ إلى الأهواز، فانقطع إلى والبة بن حباب الشاعر."(13)

وقد تضاربت الآراء حول كيفية اتصاله بوالبة بن الحباب، ومكانه ولكن لا شكَّ في أصل هذا الاتصال سواء كان، في الأهواز أم في البصرة، ولكنّه قدم معه الكوفة وشارك في مجالس الشعر ومجالس اللهو والمجون أحياناً ولكنه ما كان في سنّ يفرط فيها على نفسه وإذ أنّ: "أكثر الناس على ترجيح أنه حين لقي والبة كان في حدود الثلاثين من سنه."(14) ومن ثم "واصل هذا النوع من الحياة ـ أي حياة العبث
والمجون ـ مدة قليلة ثم أدرك بأنها ليست مناسبة لشأنه، فتركها وذهب إلى البادية وأقام عند قبيلة بني أسد ليفصح لسانه." (15)

واستأنف بعد رجوعه من البادية حياة الدرس والتحصيل في البصرة وتتلمذ على خلفٍ الأحمر في الشعر. وسلك خلف طريقاً آخر في تخريجه غير طريق والبة و"أمره خلف أن يحفظ كثيرا من القصائد والأراجيز لفحول الشعراء والرجّاز. فحفظ ما أمره وامتحنه خلفٌ امتحاناً عسيراً شاقّاً."(16)

فنبغ في الشعر أكثر فأكثر وهذه الفترة هي نقطة التحوّل في حياته إذ إنه كشف فيها قدراته في نيل الشهرة"فلا عجب إذ رأينا شاعرنا أبا نواس وقد أتمّ علمه واستوفى فيه يبادر إلى بغداد،
عروس المدائن."(17)

ولقد كانت أمور الخليفة كلّها في ذلك الحين إلى وزرائه البرامكة وهم أهل العلم والشعر والمعرفة، فنظم في كبيرهم، يحيى بن خالد البرمكي، وأيضا في الفضل بن يحيى:

"رأيتُ لِفضل في السماحة همّـة أطالت لعمري غيظ كلّ جوادِ
 
ترى الناس أفواجاً إلى باب داره
كأنهـم رجـلا دَبَى وجـرادِ

حتى يقول:

بفضل بن يحيى أشرقت سبل الهُدى
وآمـن ربّـي خوف كـلّ بلادِ"(18)

غضب الرشيد على البرامكة لخوفه منهم وسجن أبو نواس عدة مرات فأصبحت بغداد مكاناً غير آمن له من بعد نكبة البرامكة، فانصرف إلى مصر ليمدح أميرها أبا النصر الخصيب صوناً من حوادث الدهر في بغداد ورغبة في عطايا الخصيب. كما يشير إلى هذه القضايا في قصيدته المعروفة عند رحلته إلى مصر حيث يقول:

"تقول التي عن بيتها خفّ مركبي
عزيـز علينـا أن نراك تسيـرُ

أمـا دون مصـر للغنى متطلّب
بلـى إنّ أسباب الغنـى لكثيرُ"(19)

وقد مدح الخصيب خلال هذه القصيدة وقصائد أخرى، فأنعم الخصيب عليه وأغدق، فلبث هناك حوالي سنة حتى نهاية حكم الخصيب، وكانت آلام الهجرة والبعد عن الأسرة تعصر قلبه، فقرّر مغادرة مصر والرجوع إلى بغداد. ويقول في ذلك:

" ذكـر الكـرخَ نازحُ الأوطانِ
فصبـا صبـوةً ولاتَ أوانِ
 
ليس لي مسعدٌ بمصر على الشو
ق إلـى أوجهٍ هناك حِسـانِ

إلى أن يبشّر ابنته بالإسراف في كل شيء والأنفاق، على أنّه عائد إليها بالمال الكثير:

يـا ابنتي أبشري بميرة مصـرٍ
وتمنّـي وأسـرفي في الأماني* (20)

* والعجيب أن بعض الباحثين ينكرون أن تكون له حياة أسرية!

فعاد إلى بغداد بعد نهاية ولاية الخصيب، سنة 191 للهجرة.

ولكنه رأى تحوّلاً كبيراً في أوضاع البلاد وفي أحوال الرشيد كما يقول:

وعدتُ إلى العراق برُغم أنفي
وفـارقتُ الجزيرة والشآما
 
على شطّ الشآم وساكنيـــه
سـلامُ مُسَلَِّّم لَقِيَ الحِماما(21)

وقيل إنّه: "واجه سخط الرشيد إذ أثاره الموتورون منه بما أحفظه عليه ودعاه إلى سجنه الذي طال إلى أن آلت الخلافة إلى الأمين."(22) وقيل: "حُبس أبو نواس بما ذكر عنه من الزندقة، ولم يزل محبوساً في حبس الزنادقة حتى مات الرشيد وقام الأمين."(23)

بقي في سجن الزنادقة أكثر من سنتين، فتوسط له الفضل بن الربيع ـ وزير الأمين ـ فأطلقهُ الأمين وجعله نديماً وشاعراً له، حيث يقول:

إنـي أتيتكـم مـن القـبـر
والـناس محتبسـون للحشرِ
 
لولا أبـو العباس* ما نظرت
عينـي إلـي ولـدٍ ولا وفرِ(24)

سجن أبو نواس عدة مرّات في أيام الأمين، وهذا ما تحدث عنه في أبيات له:

مضتْ لي شهورٌ مذ حسبتُ ثلاثة
كأنــي قد أذنبتُ ما ليس يُغفرُ
 
فإنَ كنتُ لـم أذنبْ ففيمَ حبستني
وإن كنتُ ذا ذنبٍ فعفوُك أكبرُ (25)

وواضح في كلامه أنّ الأمين غضب عليه بشدة حتى أراد قتله:

بك استجيـرُ مـن الرّدی وأعوذ من سطوات باسـك
 
وحيــاة رأسـك لا أعو
دُ لمثلها … وحيـاة رأسك
 
مـن ذا يكـون أبونـو ا
سك إن قتلتَ أبـا نواسـك(26)

كما يقول ابن منظور: " غضب عليه الأمين وأمر به إلى السجن"(27)

وفي هذه الفترة اشتدت الحرب بين الأمين والمأمون. فما لبث أن تغلب المأمون على الأمين، فقتل الأمين في محرّم سنة 198هـ ورثاه أبو نواس بأصدق أبيات، كما يقول طه حسين: و"أنا أزعم أنّ أبا نواس لم يصدق في رثائه إلاّ مرّة واحدة، وذلك حين رثى الأمين." (28)

كنية الفضل بن الربيع

ولم يعيش أبو نواس طويلاً بعد ذلك إذ توفّي بعد أشهر من موت الأمين أو على الأكثر بعد سنة واحدة منه وقد اختلف الرواة في سنة وفاته. كما اختلفوا من قبل في سنة ولادته وفي كل شأن من شؤونه. ويقال: "إنه مات سنة ستّ وتسعين ومائة وقيل: مات ببغداد في سنة خمس وتسعين ومائة وكان عمره تسعا وخمسين سنة ودفن في مقابر الشونيزية في تلّ اليهود." (29)

"وقد ذكرت خمسة تواريخ متتابعة عن وفاته، آخرها سنة 199 هـ وهي الراجحة، ومؤرخوه مجموعون في غالبيتهم على أنه مات وعمره تسعة وخمسون عاماً ودفن في المقابر الشونيزية (30) في تلّ اليهود ببغداد. وقد رثاه صديقه ورفيق صباه، الحسين بن الضحّاك، بقوله:

نازعنيكَ الزّمان يا حسـنُ
فخابَ سهمي وأفلَحَ الزمنُ
 
لَيْتَكَ إذ لم تكُـن بقيـتَ لنا
لم تَبْقَ روحٌ يَحُوطُها بدنُ(31)

شخصيته وأدبه:

كان أبو نواس حسنَ الوجه، رقيق اللون، أبيض، حلو الشمائل حسن الجسم وكان ألثغ بالرّاء. وقال الجاحظ فيه: "كان نحيفاً، في حلقة بحّة لا تفارقه وكان إذا دخل حلقة الدرس، التفت القوم إلى حسنه وحداثة سنّة وذكائه وقوة تحصيله. قرأ القرآن على يعقوب الحضرمي ـ إمام القراّء ـ فلّما حذّق القراءة رمى اليه يعقوب بخاتمة وقال : "إذهب فأنت أقرأ أهل البصرة" (32). أخذ على أبى زيد الأنصاري اللغة، وعلى خلف الأحمر معاني الشعر، وعلى عبيدة معمر بن المثنّى أخبار العرب وأيّام الناس. وقرأ الفقه فأتقن الأحكام والفتيا، وطلب الحديث ورواه عن كبار ثقاته، وطلب علوم القرآن فعرف ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه. وجالس أصحاب الكلام وأخذ علمهم وناظرهم . وكان جدلاً فهماً، فكاد يكون إماماً من أئمته… وعنى بعلوم الأمم المنقولة. فاطّلع على علم النجوم والطبيعيات وألمَّ بخرافات اليونان والفرس والهند وحفظ ما لا يحصى من أشعار العرب القدماء والمحدثين. قرأ ديوان ذي الرّمة على الناشيء."(33)

وقال فيه ابن منظور: "كان أبو نواس متكلماً جدلاً، راوية فحلاً، رقيق الطبع، ثابت الفهم في الكلام اللطيف. ويدلّ على معرفته بالكلام أشياءُ من شعره."(34)

وهكذا ورد في كتاب طبقات الشعراء:" كان أبو نواس عالماً فقيهاً، عارفاً بالأحكام والفتيا، بصيراً بالاختلاف، صاحب حفظ ومعرفة بطرق الحديث. يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه، محكمه ومتشابهه. وقد تأدبّ بالبصرة، وهي يومئذٍ أكثر بلاد الله علماً وفقهاً وأدباً، وكان أحفظ لإشعار القدماء والمخضرمين وأوائل الإسلاميين والمحدثين." (35)

وحدّث يوسف بن الداية قال: "قال أبو نواس أحفظ سبعمائة أرجوزة وهي عزيزة في أيدي الناس، سوى المشهورة عندهم… ثم أخذ في قول الشعر فبرز على أقرانه وبرع على أهل زمانه… فصار مثلاً في الناس، وأحبّه الخاصة والعامة وكان يهرب من الخلفاء والملوك بجهده ويلام على ذلك."(36)

وقال الجاحظ فيه: "ما رأيتُ أحداً كان أعلم باللغة من أبي نواس، ولا افصح لهجة، مع حلاوة ومجانبة الاستكراه"(37) وقال فيه أبو هفّان: "كان أبو نواس آدبَ الناس وأعرفهم بكلّ شعر.(38) وقال أبو عمر الشيباني فيه: "لو لا ما أخذ فيه أبو نواس من الرفث لاحتججنا بشعره لأنه محكم القول."(39)

وقال أبو عبيدة فيه: "كان أبو نواس للمحدثين مثل امرؤ القيس للمتقدمين قال فيه أيضا: ذهبت اليمن بجد الشعر وهزله: امرؤ القيس بجدّة وأبو نواس بهزله. وكان يقول ذهبت اليمن بجيّد الشعر في قديمه وحديثه. امرؤ القيس في الأوايل وأبو نواس في المحدثين. "(40)

وفي حرصه على العلم تكفينا هذه الرواية عن قول أبي هفّان حيث يقول: "قال لي أبو نواس: الشره في الطعام دناءة، وفي الأدب مروءة. وكلّ من حرصَ على شيء فاستكثر منه سكن حرصُه وقرّتْ عينه غير الأدب، فأنه كلما ازداد منه صاحُبه ازداد حرصاً عليه وشهوةً له ودخولاً فيه." (41)

وهذا هو أبو نواس يتكلم عن نفسه وشعره: "لا أكاد أقول شعراً جيداً حتى تكون نفسي طيبةً وأكون في بستانٍ مونق وعلى حال أرتضيها من صلة أوصل بها أم أوعد بصلة. وقد قلتُ وأنا على غير هذه الحال أشعاراً لا أرضاها." (42)

نراه يؤكّد على طيب النفس في حال قول الشعر. وخلاصة الكلام فيه هي أن: "شاعرنا لم يكن رجلاً ما وإنما كان رجلاً يقدره أهل عصره ويكبرونه في كلّ ما عرض له من الفنون… أنه أرق الناس أدباً وأحسنهم شعراً." (43) فأين من هذا، أبو نواس العابث المستهتر والذي كيل له من الاتهامات وأشيع عنه من الروايات ما يبرزه فاسقاً ، فاجراً لا همّ له سوى الإقبال على الملذّات وارتكاب المحارم؟

ولكنّ السؤال الذي لا بدّ لنا من طرحه هو: لماذا ترسّخت صورة أبي نواس الماجنة المستهترة في أذهان الناس ولم تترسّخ صورة أبي نواس المعروفة بالأدب والمعرفة؟ مع أنه مشهود بأنه كان من كبار رجال العلم والأدب والحديث في عصره، كما رأينا وذكرنا أقوال العلماء والمؤرخين في ذلك.

ومردّ ذلك إلى بعض المحاولات التشهيرية ضده.

حملة التشهير ضد أبي نواس:

واجه أبو نواس عدداً كثيراً من حملات التشهير والتشكيك من جوانب شتّى تختلف غايات هذه الحملات ومراميها:

الاتّجاه الأوّل: يتعلّق باتجاهه الفكري والأدبي وبمذهبه الجديد في الشعر الذي تمثلت فيه ثورتُه على منهج القصيدة والنظام الشعري القديم، فخالفه الشعراء الذين كانوا يحافظون على المنهج القديم وبثّوا دعايات كثيرة ضده. الاتّجاه الثاني: يتعلّق بعدد من الشعراء المعاندين له، والذّين لهم موقفهم الصريح المؤُيد للحكم العباسي والمعارض لِآل البيت. ومن هؤلاء الشعراء: مروان بن أبي حفصة، وسلم الخاسر، والرّقاشي وأبان عبد الحميد اللاحقي، شاعر البرامكة. الاتّجاه الثالث: مدعوم بالخلفاء والأمراء والوزراء، والذين كان لهم وَضعهم الطبقي والاجتماعي الخاص إلى جانب ما يتمتّعون به من نفوذ سياسي، وفي الحقيقة كانت لهم شخصيتان: الأولى هي الشخصية الرسمية عند الناس تحافظ على العفّة والطهارة والرزانة. والثانية شخصية عابثة ماجنة تَظهر في خلواتهم. هؤلاء إذا حضروا مجالس الأنس والطرب مع الغلمان والجواري والمغنّين ، جادت قريحتهم بشعر مُسفّ فاحشٍ نسبوه إلى أبي نواس خوفاً من قدرهم وموقعهم الاجتماعي والسياسي، و"العامة الحمقى قد لهجت بأن تنسِبَ كلّ شعرٍ في المجون إلى أبي نواس وذلك غلط." (44)

الاتجاه الرابع: وهو تهرّب أبي نواس من هذه المجالس الرسمية لاتّجاهه الفكري والعقيدتي والديني. وهذا هو أبو نواس يقول: "إنما يَصبر على مجالسة هؤلاء الفحول المنقطعون الذّين لا ينبعثون ولا ينطقون إلاّ بأمرهم. والله لكأنّي على النّار إذا دخلتُ عليهم حتى انصرفَ إلى إخواني ومن أشاربه، لأني إذا كنتُ عندهم فلا أملك من أمري شيئا. "(45) وتتّضح لنا مسائل كثيرة عند التعمق في هذا القول. وهذا قول أبي نواس حيث يقول: "لا أكادُ أقول شعراً جيداً حتّى تكون نفسي طيبة." (46) كان الخلفاء والأمراء يتمنّون أن يكون أبو نواس في بلاطهم ويتقرب إليهم. ولكنه كان بمعزل عن البلاط وكان ميلُه إلى الناس وميل الناس إليه : "فصار مثلاً في الناس وأحبّه الخاصة والعامة."(47) و"لم يكن شاعر في عصر أبي نواس إلا وهو يحسده لميل الناس إليه وشهوتهم لمعاشرته ولبعد صيته وظرف لسانه."(48) ولا يخفى على الباحث ميله إلى الشعوبية وذلك كلّه مما لا يؤهّل شاعرا بأن يكون قريبا من الخلفاء والحكام.

الاتّجاه الخامس: هذا هو ما عاناه كثيراً وسبّب أن تكثر الأقوال فيه كما جاء في أحواله: "كان دمثاً، لطيفاً، ظريفاً، حلو المعشر، حسنَ الوجه، رقيق اللون، أبيض، حلو الشمائل، ناعم الجسم."(49) وكان "فصيحَ اللسان، لطيف المنطق، مليح الإشارة، وظرفه كان من أهمّ ما تتميّز به شخصيته."(50)

ولعلّ اتجاهه هذا إلى الهزل والدعابة إلى جانب ما تمتّع به من جرأة وحرية في قول ما كان يخطر بباله، جَعَل الكثيرين ينسبون إليه النوادر والسلوك الماجن والشعر الفاسق. ولهذا نرى في ديوانه كثيراً من الأبيات لا تحمل خصائص أبي نواس. ولكن ظرفه وهزله كان أشدَ من الجّد، والجد المخبوء تحت الهزل هو أشد من الجدّ الظاهر. وهو الذي يقول عن نفسه: "وأمّا المجون، فما كلّ أحد يحسن أن يمجن، وإنّما المجون ظرفٌ ولست أبعدُ فيه عن حدّ الأدب. ولا أتجاوز مقداره."(51) ويؤكّد هذا القول قوله الآخر ممّا نقله محمد بن أبي عمير: "سمعتُ أبا نواس يقول: والله ما فتحتُ سراويلي لحرام قطّ."(52)

دينه ومذهبه:

يحيط بحياة أبي نواس غموض كثيرة ولا سيّما من الناحية الدينية. وكان يُتّهم بكل مذهب ومنه "الزندقة" وسجن عدة مرات بهذه التهمة كما رأينا. و"كان يتّهم برأي الخوارج".(53) و"ذكر صاحب كتاب الورقة جماعة من الشعراء في طبقة أبي نواس ومن قبله، ووَصفَهم بالزندقة. وسرائر الناس مغيبة وإنما يعلم بها علاّم الغيوب… وكانت تلك الحال تكتم في ذلك الزمان خوفاً من السيف."(54)

ومنهم من يعتقد بتشيع أبي نواس، ومن الدلائل الهامة التي تشير إلى تشيع أبي نواس، ما قاله أبو العلاء المعري عنه حين يقول: "ولا ارتابُ أنّ دعبلاً كان على رأى الحكمي (أي أبو نواس) وطبقته، والزندقة فيهم فاشية ومن ديارهم ناشئة." (55) ويقول في موضع آخر: "وقد اختلف في أبي نواس . أُدّعي له التألّه وأنّه كانَ يقضي صلوات نهاره في ليله، والصحيح أنّه كان على مذهب غيره من أهل زمانه." (56)

وأمّا ما ذكرناه من كلام أبي العلاء على طريقته في الشك. فإننا إن نظرنا بدقة في قوله تبين لنا، أوّلاً أنه لا يؤيّد زندقة أبي نواس بل يؤيد تشيعه حيث يقول ، أنه لا يرتاب في أنّ دعبلاً ـ أي دعبل علي الخزاعي كان على رأي الحكمي. ولا يخفى علينا تشيع دعبل وإخلاصه لآل البيت وشعره الصادق فيهم.

وأما قوله: " والصّحيح أنه كان على مذهب غيره من أهل زمانه"، يدل على سلوكه وكيفية تعامله ومواجهته القضايا السياسية والدينية في تلك الفترة وبالطبع فقد كان مختلفاً عن الآخرين. على أنه اتّخذ موقفاً خطيراً إزاء تلك القضايا، وكان للتظرّف والتظاهر بالمجون وإظهار الجنون دورٌ خاص في ذلك الزمان خوفاً من السيف كما أشار المعري في كلامه وتؤكده إحدى قصائد أبي نواس التي تزخر بجوانب كثيرة مما أشير إليه هنا يقول فيها:

خــلِّ جنبَيك لــرام
وامــضِ عنـه بسلامِ
 
مُت بداء الصَّمت خــيرٌ
لك مـن داء الــكلامِ
 
ربّما استفتحتَ بالمــز
ح مغاليـق الحِـمــامِ
 
رُبّ لفظٍ ساقَ آجـــا
ل َنـــيام وقـيــامِ
 
إنـما السالم مـن ألــ
ــجمَ فــاه بـلجامِ
 
فالبس الناسَ على الصـ
ـحّةِ منهــم والسقـامِ
 
وعليك القصـدَ إنّ الـ
ـقصَد أبقى للحُمـــامِ
 
شبتَ يا هذا ومـا تتـ
ـركُ أخلاقَ الغــُلامِ
 
والمنـــايا آكــِلاتٌ
شــارباتٌ لِـلأنـامِ!(57)

هل يوجد كلام أفصح من هذه الأبيات لبيان الخوف في تلك الفترة؟ ينصح الناس ألّا يتكلّموا بالجد، بل بالمزح. وهو يستفتح مغاليق الموت بالمزح، وينصح بالصراحة وبالتأكيد:

إنـما السّالـم من ألّــ
ـجمَ فـاه بلجـامِ

ويقول: العاقل هو الذي يقتصد في الكلام، وبالطبع هو الكلام المخالف للحكم ويشير إلى المنايا التي تنتظر أكل الناس.

كما يقول في مكان آخر:

هذا زمان القرود فاخضع
وكُـن لهم سامعاً مطيعاً(58)

انتماؤه إلى الشعوبية :

ما هي الشعوبية؟

كان العرب يزدرون الموالي ويفتخرون بكلّ ما هو عربي، ولاسيّما أيام الأمويين. فواجهت الأمم المختلفة آلاماً كثيرة من جرّاء هذا الازدراء. فلمّا حدثت الثورة العباسية وضعفت السلطة العربية، قامت جماعة من الشعراء والأدباء المنحدرين من أصول فارسية يقولون بتساوي الشعوب وعدم تفضيل أمة على أخرى استدلالاً بالآية القرآنية:

*يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقيكُم*(59)

ولكن ما لبثت أن تحولّت هذه الفكرة إلى الحطّ من شأن العرب، والطّعنِ في أخلاقهم وآدابهم، والتّنوية بفضائل الإيرانيين وغيرهم من الشعوب التي كانت لها حضارة قديمة. وقد ألّفت كتب كثيرة في ذم العرب وبيان انحطاطهم، كما ألفت كتب أخرى في فضائل الفرس وغيرهم من الأمم غير العرب. وقد كان للشعوبية هذه دور كبير في تاريخ الأدب، كما كان لها دور مهم في السياسة العربية في العصر العباسي.

فإذاً كانت الشعوبية مذهباً سياسياً وإنسانياً في ذلك الوقت وبإمكاننا أن نقول: " إنّ الشعوبية ليست عقيدة، بل هي نزعة تشبه أن تكون محاولة ديمقراطيّة تحارب أرستقراطية العرب."(60)

جاء في العقد الفريد: "الشعوبية هم أهل التسوية" وفي الصحاح: "الشعوبية فرقة تفضّل العرب على العجم" وفي اللسان: "الشعوبي هو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم فضلاً على غيرهم."(61)

إنّ ما جاء في لسان العرب في معنى الشعوبية يدلّ على تحوّل هذه الحركة المدافعة عن تساوي الأمم إلى الحطّ من شأن العرب كما ذكرناه آنفاً. وتلك هي الشعوبية العنصرية، وغايتها تعظيم الفرس وحضارتهم ومقاومة ما كان قد نشأ في نفوس العرب من قبل، من روح التفوق والاستئثار بالمجد. وقد قام من هذين الفريقين جماعة يناضلون عن مذهبهم ويرمون خصومهم بأليم سهامهم. نذكر من الفريق العربي أبن قتيبة والجاحظ ومن الفريق الشعوبي أبا عبيدة وسهل بن هارون.

وفيما يتعلّق بشعوبية أبي نواس يقول ابن رشيق: "وكان أبو نواس شعوبي اللسان ولا أدري ما وراء ذلك."(62)

كلمة ابن رشيق "شعوبي اللسان" تفيدنا دعوته إلى الشعوبية دون إضمار البغض لشعب آخر ودونَ أن يدلّ على الشعوبية العنصرية. فلهذا نراه كان ملازماً للفضل بن الربيع والخليفة الأمين وهما يمثّلان العصبية العربية في ذلك الوقت. ورأينا فخره باليمنيين والقحطانيين وهجاءه للنزاريين في الكثير من أشعاره.

وفي حينٍ يهجو اليمنيين كقوله في هجاء هاشم بن حديج، وهو كَندي من صميم اليمن حيث يقول:

يا هاشمُ بن حُديجٍ لو عددتَ أباً
مثل القَلمَّس لم يعلَق بك الدَنسُ (63)

والقلمّس أحد رؤساء كنانة وهو من غير اليمن كما هو معروف. وفي هذه القصيدة يعدّد كرماء نزاريين ويفتخر بهم ؛ ومن جانب آخر نراه "كان يأخذ العلمَ عن أبي عبيدة ويمدحهُ ويذمّ الأصمعي.(64) ونعلم بأن أبا عبيدة كان شعوبيا والأصمعي عربياً متعصباً للعروبة.

ونراه في مقارنته لحضارة العرب بحضارة الإيرانيين الغابرة يفتخر بحضارة الإيرانيين حيث يقول:

دَعِ الرَّسـمَ الّذي دَثـَرا
يُقاسي الريحَ والمطرا
 
وكن رجلاً أضاعَ العلـ
ـمَ في اللّذات والخطرا
 
ألم تـرَ ما بنى كسرى
وسـابورٌ لِمَن غــبرا(65)

إلى آخر القصيدة حيث يذّم أهل البادية رجالاَ ونساءاً وشعره يدلّ على شغفه بتاريخ الفرس وإناقة الحضر ونفوره من الحياة البدوية التي كان يتغنّى بها الأقدمون ومن ذلك أيضاً قوله:

عاج الشقي علـى دار يسائلــها
وعُجت أسألُ عن خمّارة البلــدِ
 
لا يُرقيء الله عيني من بكى حجراً
ولا شفَى وَجْدَ من يصبو إلى وتدِ
 
قالوا ذكرتَ ديار الحيّ من أسـدٍ
لا درَّ درُّك قل لي من بنو أسـدِ
 
ومن تميمٌ ومَن قيس وإخوتُهــم
ليس الأعاريب عند الله من أحدِ(66)

وأيضاً ممّا يشير بميله إلى الفرس وانحرافه عن مذاهب العرب قوله في قصيدته:

دع الأطلال تسفيها الجنوبُ
وتبلي عهد جدّتها الخطوبُ
 
وخلِّ لراكب الوجناءِ أرضاً
تخُبُّ بها النجيبة والنجيبُ
 
بــلادٌ نبتُها عشرٌ وطلحٌ
وأكثر صيدها ضبع وذيبُ
 
ولا تأخذ عن الأعراب لهواً
ولا عيشـاً فعيشهُمُ جديبُ

ثم يصف خشونة عيشهم ويقارن ذلك بصفاء العيش في الحضارة الفارسية والتمتع بمواهبها، إلى أن يقول:

فهذا العي
ش لا خيم البوادي وهذا العيش لا اللّبن الحليبُ
 
فأين البدو مِن إيوان كسرى
وأين من الميادين الزُّروبُ(67)

"وكذلك يمدح البرامكة مرة ويهجوهم تارة أخرى." (68) ملخّص القول أنّه نراه، يفضّل الفارسي على العربي تارة، ويفضّل العربي مرّة على الفارسي واليمنيّ على النزاري ومرةّ أخرى النزاري على اليمني. ونراه يسخر من العباسيين الملتفتين إلى الجاهليين وكان يسخر أيضاً من أولئك الّذين يبدّلون أنسابهم حسب الظروف. فهذا الفضل الرقاشي المولى، رآه أبو نواس يتنكّر لأهله ويستعرب، فهزّه هذا النفاق اشمئزازا فقال:

قلتُ يومـاً للرّقاشــي
وقـد سبّ المـوالـي:
 
ما الّذي نحّاك عن أصـ
ـلك مـن عمّ وخـالِ
 
قال لي : قد كنتُ مولىً
زمنـــاً ثم بدا لي…
 
أنـا بالبصرة مولـىً
عــربـي بالجبـالِ
 
أنا حقاً أدّعيهـــم
لسوادي وهُزالــي (69)

وخلاصة القول أنّ شعوبية أبي نواس ليست شعوبية عنصرية بل هي شعوبية بمعنى الأصل القائل بتساوي الشعوب وعندي أنّ أبا نواس لا يفرّق بين عربي وفارسي وبين مولى وسيّد. ولكّن الفرق واضحٌ عنده بين الدعي المتجاوز، وبين المتحضر المهذب، بين الغليظ واللطيف وبين الفهيم والبليد وبين الظالم والعادل.

وأبو نواس شاعر ذوّاقة، محبُّ للحياة، وميّال إلى الجمال وهو يمدح الإنسانية التي تعين عنده الشعور بالصفات المشتركة بين البشرية جمعاء.

نهاية المطاف في حياة الشاعر:

ولد أبونواس الحسن بن هانيء في الأهواز سنة 140هـ ـ على الأرجح ـ من أب عَرَبي وأمّ فارسيّة. فقد أباه في السنّة الثانية أو السادسة من عمره فظّل يتيماً. ثم انتقل إلى البصرة ونشأ فيها. قرأ القرآن وحذق فيه وأصبح أقرأ أهل البصرة. تخرّج في الشعر على والبة بن الحباب الأسدي وخلف الأحمر. ثمّ تبدّى وخالط العرب الخلّص ، ففصح لسانه. عاد إلى الكوفة بعد سنة، فاختلف إلى أئمّتها فأخذ عنهم علوم اللغة. ثم توجّه إلى بغداد وهو في الثلاثين من عمره. اتّصل بالبرامكة في أوّل أمره وفي أوّل خلافة الرشيد. ولكنه سجن بتهمة الزندقة. هرب إلى مصر بعد نكبة البرامكة ولجأ إلى أميرها "الخصيب" ومدحه. عاد إلى بغداد بعد سنة وأشهر. قبض عليه عند دخوله في بغداد وسجن في سجن الزنادقة حتى ماتَ الرشيد. أطلقه الأمين من السجن بواسطة وزيره الفضل بن الربيع. اتّصل بالأمين ومدحه ولكنّه سجن عدة مرّات في زمان الأمين بتهم مختلفة، منها المجون والزندقة، إلى أن مات سنة 199 الهجرية ودفن في مقابر الشونيزية ببغداد، وعمره تسع وخمسون سنة.

وأبو نواس شاعر سهل، جديد المعاني والألفاظ، حلو النكتة، وشعره مرآة صافية لعصره لكل ما فيه من القضايا السياسية والاجتماعية والدينية والفلسفية.

ولكنّه لجأ إلى التظرّف والتظاهر بالمجون، كما ورد في بعض الكتب: "كان أبو نواس في دعاويه يتماجن ويعبث".(70) وهذا هو قول أبي نواس في هذا الصعيد:" وأمّا المجون، فما كلُّ أحدٍ يحسن أن يمجن، وإنما المجون ظُرف ولستُ أبعدُ فيه عن حدّ الأدب ولا أتجاوز مقداره."(71) كما يقول : "والله ما فتحتُ سراويلي لحرامٍ قطّ".(72)

إنه تماجَنَ خوفاً من السلطة الجائرة التي كانت تحكم باسم الإسلام واتّخذ الخمرة رمزاً للتعبير عمّا يتمنّاه. ثارَ في أوّل أمره على أسلوب القصيدة التقليدية، ثم على التقاليد والأعراف الاجتماعية البالية وطعن بسياسات الخلفاء.

عاش وحيداً في ظلّ خلافة حافلة بالرّئاء والنفاق. تلك الخلافة الّتي تعيش التناقض بأوسع أشكاله، فخلف ظاهرها الأنيق باطن ملؤه الفساد، لكنّه يخفى في طيّات هذا الطلاء الخلّاب.

عاش غريباً دون أن يعرف أحد آلامه وتمنياته، وواجه حملات التشهير من جوانب شتّى ولا سيّما من ناحية الحكومة لشهرته الواسعة وحبّ الناس له وتهربّه من البلاط. ومع هذا ترك لنا تراثاً خالداً، وهو شعره الخمري بكلّ ما فيه من الأبعاد التقليدية والتجديديّة بنزعاتها الفنية والاجتماعية والسياسية والنفسية والأخلاقية والروحية بحيث أصبح رائد الشعر الخمري في الأدب العربي. وللتعرف على خمريات أبي نواس يجب علينا أن نتعرف على دور الظرف والتظاهر بالجنون والتماجن في تلك الفترة العباسية ولا سيما في عهد الخليفة هارون الرشيد. ولهذه الأشكال الثلاثة دور هام في الحكومات الدينية الجائرة على مرّ العصور، ولا سيّما في العصر العباسي الأول. فمثلاً نرى بهلولاً، أعني بهلول بن عمر الصيرفي الكوفي المتوفّى سنة 198هـ، لجأ إلى التظاهر بالجنون في حينما "كان بهلول عالماً كبيراً ذا عقل وفير وهو من أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام. أراد هارون الرشيد أن يجعله قاضياً ليفتي له بقتل الإمام موسى الكاظم (ع) بدعوي أنّه يريد الخروج عليه. فتجانن وركب قصبة يطوف بها أزقّة الكوفة، فقال الناس جُنّ بهلول وكان في حالته تلك، ينتقد الرشيد انتقادات لاذعة، وأخباره تدلّ على أنه كان من أهل الموالاة والتشييع لأهل البيت(ع)."(73)

كما لجأ أبو نواس إلى التظرف وإظهار المجون وكان من الشيعة واتّخذ "التقيّة" مذهباً له. ومن خلال القراءات الواسعة ينكشف لنا أنّ كثيرين من الشعراء والأدباء اتخذوا التظرّف في تلك الفترة طريقاً لتبيين أفكارهم وتماجنوا خوفاً من السلطة الجائرة الّتي كانت تحكم باسم الإسلام. ومع هذا قتل الكثيرون من الشعراء والأدباء بتهمة الزندقة والخروج على الحكم الديني مثل: ابن المقفّع، وعبد الحميد الكاتب، وصالح بن عبد القدوس، وبشار بن برد. ومكانة هؤلاء في معاداة العرب وانحيازهم إلى الشعوبية لا تخفى. الأمر الذي عرّضهم لهذه التّهم التي كانت السلطات الدينية تتخذها وسيلة للوقوف في وجه كلّ من سوّلت له نفسه إظهار العداء للسلطة السياسية الحاكمة.

هذا هو النواسي الذي يمكّننا الولوج إلى خمرياته من الكشف عن خفايا عصره المليء بالاضطرابات والتعقيدات. وغنيّ عن البيان أنّ خمرياته بحاجة إلى المزيد من الدرس والبحث لإماطة اللثام عن الزوايا الخفية في شعره وحياته ممّا لا يسعه هذا المقال. وعسى أن يعقب هذا المقال مقال آخر يعالج هذه الأمور.

الهوامش :

1. الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج7، ص 436

2. ابن خلّكان، وفيات الأعيان، ج1، ص 373

3. ابن منظور، أخبار أبي نواس، ص 10

4. ابن منظور، مختار الأغاني في الأخبار والتهاني، ج3، ص8

5. عبد الله بن المعتزّ، طبقات الشعراء، صص 193-194

6. انظر حناالفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي، الأدب القديم، ص 692

7. ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص193

8. ابن منظور، أخبار أبي نواس، ص12

9. ابن المعتزّ، طبقات الشعراء، ص 194

10. ابن خلكان، وفيات الأعيان، ص373

11. ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص 194

12. ابن منظور، أخبار أبي نواس، ص 15

13. ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص 194

14. محمد بهجة الأثري، مقدمة تفسير أرجوزة أبي نواس، ص60

15. عبد الرحمن صدقي، أبو نواس، قصة حياته في جده وهزله، ص 42

16. ابن منظور، أخبار أبي نواس، ص 15

17. محمد بهجة الأثري، مقدمة تفسير أرجوزة أبي نواس، ص62

18. الديوان، صص472-473، وأيضا في قصيدة أخرى، صص 474-475

19. الديوان، ص 481

20. الديوان، صص 476-477

21. الديوان، ص250

22. محمد بهجة الأثري، مقدمة تفسير أرجوزة أبي نواس، ص 65

23. ابن منظور، أخبار أبي نواس، ص299

24. الديوان، ص 461

25. الديوان، ص 426

26. الديوان، ص 424

27. ابن منظور، أخبار أبي نواس، ص 7

28. طه حسين، حديث الأربعاء، ج2، ص 133. الديوان، ص 581

29. الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج7، صص 448-449

30. الشونيزية مقبرة ببغداد بالجانب الغربي، دفن فيها جماعة كثيرة من الصالحين، ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج3، ص374

31. عبد الرحمن صدقي، أبو نواس، قصة حياته في جدّه وهزله، ص 263

32. ابن منظور، أخبار أبي نواس، صص 12-15

33. محمد بهجة الأثري، مقدمة تفسير أرجوزة أبي نواس، صص 58-59

34. ابن منظور، أخبار أبي نواس، ص 21

35. ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص 201

36. المصدر نفسه، ص 201

37. ابن عساكر، التاريخ الكبير، ج4، ص 255

38. ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص 194

39. المصدر نفسه، ص 202

40. ابن منظور، أخبار أبي نواس، صص 38-39

41. ابن المعتز، طبقات الشعراء ، ص204

42. ابن منظور، أخبار أبي نواس، ص 41

43. طه حسين، حديث الأربعاء، ج2، ص45

44. ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص 88

45. ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص 202

46. ابن منظور، أخبار أبي نواس، ص 41

47. ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص201

48. ابن منظور، أخبار أبي نواس، ص 41

49. ابن منظور، أخبار أبي نواس، ص 15

50. ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص 201

51. ابن المنظور، مختار الأغاني، ج 3، ص 201

52. ابن عساكر ، التاريخ الكبير، ص 264

53. ابن المعتز، طبقات الشعراء، ص 195

54. أبو العلاء المعري، رسالة الغفران، ص 215

55. المصدر نفسه، ص 207

56. المصدر نفسه، صص 207-208

57. الديوان، ص 620

58. الديوان، ص519

59. القرآن الكريم، سورة الحجرات، الآية 13

60. أحمد أمين، ضحي الإسلام، ج 1، ص 58

61. المصدر نفسه، ص55

62. ابن رشيق القيرواني، العمدة، ج1، ص 155

63. الديوان، ص 552

64. أنيس المقدسي، أمراء الشعرالعربي، ص 78

65. الديوان، ص 557

66. الديوان، ص 46

67. الديوان، صص 11-12

68. الديوان ، صص 470و474 في مدحهم. وفي هجوهم ص 519

69. الديوان، ص 571

70. ابن منظور، أخبار أبي نواس، ص 35

71. ابن منظور، مختار الأغاني في الأخبار والتهاني، ج3، ص 201

72. ابن عساكر، التاريخ الكبير، ج4، ص 264

73. لبيب بيضون، بهلول الكوفي، صص 5-6

المصادر والمراجع:

1. القرآن الكريم.

2. أبو نواس، قصة حياته في جدّه وهزله، عبد الرحمن صدقي، دون تاريخ

3. أخبار أبي نواس، إبن منظور، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، بيروت، 1995م.

4. أعيان الشيعة ، محسن الأمين ، دار التعارف للمطبوعات ، بيروت، 1983م.

5. بهلول الكوفي، لبيب بيضون، مؤسسة البلاغ، الطبعة الأولى، بيروت، 1998م.

6. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، مكتبة الخانجي، الطبعة الأولى، القاهرة، 1931.

7. التاريخ الكبير، ابن عساكر، مطبعة الروضة، الشام 1932م.

8. الجامع في تاريخ الأدب العربي، حنا الفاخوري، دار الجيل، بيروت ، دون تاريخ

9. حديث الأربعاء، طه حسين، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، القاهرة، 1976م.

10. ديوان أبي نواس، احمد عبد المجيد الغزّالي، دار الكتاب العربي، بيروت ، دون تاريخ

11. رسالة الغفران، أبو العلاء المعرّي، شرحها وحققها الدكتور علي شلق، دار القلم، بيروت، 1983م.

12. الشعر والشعراء، ابن قتيبة، مطبعة المعاهد، الطبعة الثانية، القاهرة، 1932م.

13. ضحي الإسلام، احمد أمين، النهضة المصرية، الطبعة الخامسة، القاهرة، 1956م.

14. طبقات الشعراء، ابن المعتز، تحقيق عبد الستار احمد فرّاج، دار المعارف بمصر، الطبعة الثانية، القاهرة 1956.

15. العمدة، ابن الرشيق القيرواني، مطبعة أمين هندية، الطبعة الأولى، القاهرة، 1925م.

16. مختار الأغاني في الأخبار والتهاني، ابن منظور، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1966م

17. معجم البلدان ، ياقوت الحموي، دار بيروت، 1988م.

18. مقدمة تفسير أرجوزة أبي نواس، محمد بهجة الأثري، المطبعة الهاشمية، دمشق 1966م.

19. وفيات الأعيان، ابن خلّكان، بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية، الطبعة الأولى ، القاهرة، 1948.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى