السبت ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٩
بقلم عادل الأسطة

4:1 محمود درويش وأبو فراس: تشابه التجربة

كتب محمود درويش قصيدة عنوانها (من روميات أبي فراس) ظهرت في ديوان (لماذا تركت الحصات وحيدا) (1995). ليست هذه هي المرة الأولى التي يستلهم فيها درويش تجربة شاعر عربي قديم، ليعارضها، كما فعل مع شخصية امرئ القيس، وهي أول شخصية تراثية خصص لها قصيدة، هي قصيدة (امرؤ القيس)، وقد ظهرت في ديوانه (يوميات جرح فلسطيني) (1969)، وتخلى عنها إذ لم يدرجها في أعماله الشعرية الكاملة، أو ليتماثل معها، كما فعل مع شخصية المتنبي في قصيدته (رحلة المتنبي إلى مص) التي كتبها في العام 1980، وظهرت في مجموعته (حصار لمدائح البحر) (1984) وثبتها في أعماله الكاملة، ولم يتنصل منها. وما بين قصيدة (امرؤ القيس) وقصيدة (رحلة المتنبي إلى مصر) أفاد درويش من قراءته للشعر العربي القديم، كما أفاد منها في مرحلة متأخرة أيضاً بشكل لافت، حتى يمكن القول إن استحضار الشاعر للشعراء العرب القدامى والجدد أيضاً، مثل السياب ودنقل، أخذ يبرز بروزاً لافتاً في أشعاره الأخيرة التي كتبها بعد العام 1992، تاريخ صدور ديوانه (أحد عشر كوكبا على آخر المشهد الأندلسي). ففي ديوانه (لماذا تركت الحصان وحيدا؟) استحضر شخصية أبي فراس، وشخصية امرئ القيس ثانية، وخصص لكل واحد منهما قصيدة، وفي ديوانه (سرير الغريبة) (1999) استحضر شخصية جميل بثينة وقيس بن الملوح، وفي (جدارية) (2000) استحضر المعري، وفي (لا تعتذر عما فعلت) (2003) استحضر أبا تمام والمتنبي والمعري، وفي (كزهر اللوز أو أبعد ) (2005) استحضر الأعشى وآخرين. وفي (أثر الفراشة) استحضر سطر تميم بن مقبل الذي كان استحضره من قبل في (حصار لمدائح البحر) وفي (أحبك أو لا أحبك) (1971).

زمن الاستحضار:

ربما يثير المرء، وهو يدرس قصيدة (من روميات أبي فراس) أسئلة عديدة أبرزها: لماذا استحضر درويش شخصية الحمداني؟ هل استحضرها ليعارضها، كما فعل مع امرئ القيس، أم استحضرها ليعبر من خلالها عن تجربته هو، لأنه يتماثل معها، كما فعل مع المتنبي ومع أبي تمام أيضاً، وإن كان استحضارها للأخير لا يعود إلى تشابه التجربة، بل تشابه درويش، في فترة من حياته، مع بيتي شعر أبي تمام، بخاصة مع الثاني:

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
ما الحب إلا للحبيب الأول
وحنينه، أبداً، لأول منزل

وإذا كانت تجربة درويش تتماثل، في فترة ما، جزئياً، مع تجربة الحمداني، فهل كان استحضاره لها في العام 1995 موفقاً؟ أم كان يجدر به أن يستحضرها في زمن آخر، فتجربة درويش والحمداني تتشابه حين كان درويش يقيم في حيفا، لا بعد أن غادرها في العام 1970، ولا يوم كتب القصيدة في العام 1995. قبل الاستطراد في إثارة الأسئلة والإجابة عنها وإضاءة ما لم يُضأ يجدر تبيان مواطن التشابه بين الشاعرين في تجربتهما.

أسر أبو فراس في فترة من حياته وأنفق سنوات من شبابه في زنازين الروم الذين حاربهم، وهناك كتب قصائد عديدة وجهها إلى سيف الدولة يخاطبه فيها أن يفتديه وأن يخلصه من الأسر، ولم يسرع سيف الدولة في تلبية الطلب، بل تباطأ، ما أثر على أبي فراس وجعله يعبر عن حزنه وآلامه وأشجانه في قصائد جميلة خاطب فيها أمه وغيرها، وأتى فيها على حياته في الزنزانة وبعده عن الأهل وشوقه إلى بلده.

وسجن محمود درويش في أثناء إقامته في حيفا، وكتب وهو في السجن قصائد عن تجربته، أبرزها قصيدته التي وجهها إلى أمه، فذاعت وانتشرت. ولم تختلف رؤى درويش وتطلعاته، وهو تحت الاحتلال، إلى الخلاص، آملاً أن يساعد العرب في الخارج عرب فلسطين تحت الحكم الإسرائيلي بهذا – أي الخلاص.

ثمة تشابه إذن بين التجربتين، تجربة السجن من عدو أجنبي، والأمل بالتحرر وطلب المساعدة من أبناء جلدتهما – أي العرب، وثمة شعور بالخيبة. ولعل خطاب الأم وكتابة القصائد لها، وهما في السجن، من أبرز الأشياء المشتركة.

كما ذكرت استحضر درويش شخصية امرئ القيس ليعارضها، فقد كان درويش ابن اسرة فقيرة، خلافاً لامرئ القيس ابن الملك، وكان درويش لا يبحث عن ملك، كما فعل امرؤ القيس، وكان فهمه للشاعر ودوره مختلفاً عن فهم امرئ القيس. ثمة تعارض مواقف لاختلاف المواقع، وثمة زمنان أيضاً مختلفان.

وكما ذكرت أيضاً فقد استحضر درويش شخصية المتنبي ليعبر من خلالها عن تجربته، فقد تشابهت التجربتان في مرحلة من مراحل حياة درويش، وكان المتنبي قناعاً له. وكتب درويش قصيدته في اللحظة التي مر بها بالتجربة المشابهة لتجربة المتنبي، ولم يكن هناك هوة تفصل الزمن الكتابي عن الزمن الشعري الواقعي المعيش. وهذا ما لم يتم حين كتب درويش قصيدته (من روميات أبي فراس)، فزمنها الشعري مسترجع، وثمة فترة سبعة وعشرين عاماً ما بين الأسر / الزمن الشعري وزمن الكتابة – الزمن الكتابي. وإذا ما ذهبنا إلى أن درويش في (لماذا تركت الحصان وحيدا؟) يكتب سيرته شعراً، وقد ذهب هذا المذهب نقاد عديدون، أدركنا أن كل مجموعة من القصائد التي أدرجت تحت عنوان تعود إلى فترة زمنية من حياة درويش. فالديوان يتألف من ستة عناوين رئيسة، كل عنوان يمثل مرحلة من مراحل حياة الشاعر: مرحلة الطفولة والهجرة، فمرحلة المراهقة، فمرحلة الشباب، فمرحلة النضج الشعري والعيش في العالم العربي، فمرحلة مدريد وأوسلو. وسيعود محمود درويش في كتابه (في حضرة الغياب)(2006) ليكتب نثراً، بالأسلوب نفسه الذي اتبعه في الديوان، سيرة حياته، فكل فصل من (في حضرة الغياب) استرجاع لمرحلة زمنية معينة من حياته، وقد أبرزت هذا في مقال عنوانه: سؤال الزمن.

في العام 1995 إذن، عام كتابة (من روميات أبي فراس) يستحضر درويش واقعة سجنه وهو في حيفا قبل العام 1970. ولا يكتب هذا بأسلوب مباشر، بل إنه يعبر عن تلك التجربة من خلال قناع. وإذا كانت أنا المتكلم في (رحلة المتنبي إلى مصر) هي أنا أنا المتنبي، وأنا درويش معاً، فهي كذلك في (من روميات أبي فراس)، ولكنها ليست واحدة – أي أنا متطابقة – في قصيدة (امرؤ القيس).

استلهام، شخصية أبي فراس من قبل:

ثمة دراسات عديدة أنجزت تناول اصحابها فيها، بشكل عام، استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، أبرزها كتاب علي عشري زايد (استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر) ( 1977 ط1، 1997 ط2 ) وكتاب خالد الكركي(الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث) (1989 ط1) وكتاب إبراهيم نمر موسى (آفاق الرؤية الشعرية). (دراسات في أنواع التناص في الشعر الفلسطيني المعاصر) (2005) وكتاب (التناص في الشعر العربي الحديث: السياب ودنقل ودرويش نموذجاً) (2006) لعبد الباسط مراشدة، ولم يقف أصحابها، فيما يلحظ، أمام شعراء استلهموا شخصية أبي فراس، ما يعني أنه إذا ما قورن بشاعر معاصر له، هو أبو الطيب المتنبي، بدا غير تأثير على الشعراء الذين لحقوه، وحين يعرف أن الدكتور الكركي خصص كتاباً كاملاً لدراسة حضور أبي الطيب المتنبي في الشعر العربي المعاصر، هو كتاب (الصائح المحكي: صورة المتنبي في الشعر العربي الحديث) (1999)، أدركنا أن أبا فراس لم يلفت نظر شعرائنا المعاصرين كما لفت نظرهم معاصره أبو الطيب المتنبي. هل محمود درويش، إذن، هو أول شاعر عربي في ق20 يستلهم شخصية أبي فراس؟ لا. فقد استلهمه، من قبل، الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي في ديوانه " الموت في الحياة "(1968)، في قصيدة عنوانها (روميات أبي فراس)، وتوقف أمامها سامح الرواشدة في كتابه شعر عبد الوهاب البياتي والتراث (1996).

تجربة الحب لدى الشاعرين:

شاعت قصيدة أبي فراس (أراك عصي الدمع) شيوعاً لافتاً في ق 20، وما ساعد على ذلك، غير إدراجها في المناهج المدرسية في بعض البلدان العربية، ومنها الأردن، حين درسناها في المدارس، ما ساعد على شيوعها قيام سيدة الغناء العربي أم كلثوم بغنائها بصوتها، ما جعل أبا فراس معروفاً للدارسين ولغير الدارسين. فإذا كان الدارسون، بخاصة دارسو الأدب العربي، درسوا أشعاره حين درسوا العصر العباسي، أو الحياة الأدبية في حلب في عصر سيف الدولة، أو الروميات، في مساق الروميات، فإن غير الدارسين ممن يستمعون إلى الغناء استمعوا إلى أراك عصي الدمع وطربوا لمعانيها، وربما حفظوا بعض أبياتها،.

طبعاً نحن نعرف أن درويش، قبل أن يكون مستمعاً إلى أم كلثوم، كان قارئاً فاحصاً ومدققاً للشعر العربي القديم. ولا نحتاج إلى دليل يخبرنا عن سماعه أم كلثوم، فقد خصص لها في كتابه (أثر الفراشة)(2008) قصيدة.

في (أراك عصي الدمع) يعبر أبو فراس عن تجربة حب مرّ بها، ويبدو أنه لم يكن موفقاً فيها، فالمحبوبة كان لها غير عشيق: (أيهم فهم كث)". ليس هذا هو المهم هنا، فالمهم هو ما يكمن في السؤال التالي: هل كان لأبي فراس تجربة حب مع امرأة رومية، حين كان أسيراً في بلاد الروم؟

في مسلسل عن أبي فراس عرضته القنوات العربية في السنوات الأخيرة، ما يشير إلى أنه كان على صلة مع امرأة رومية، وما يدعم هذا قوله:

وشادن من بني كسري شغفت به
لو كان أنصفني في الحب ما جـارا
إن زار قصّر ليلي في زيارتــه
وإن جفانـي أطـال الليل أعـمارا
كأنما الشمس به في القوس نازلة
إن لم يزرني وفي الجوزاء إن زارا

والشادن هو ولد الظبية، فهل كان أنثى أم ذكرا؟

أحب محمود درويش أيضاً عربيات ويهوديات، وقد عبّر، في غير مقابلة أجريت معه، عن علاقته بالفتيات اليهوديات، وقد أتيت على هذا، في دراسة عنوانها " بين ريتا وعيوني بندقية "، وهي دراسة مفصلة، وذكرت فيها دراسات سابقة عالجت الموضوع. وفي أشعار درويش غير قصيدة يتغزل فيها بريتا وشولميت.

ما الذي أرمي إليه مما سبق؟

في قصيدة (من روميات أبي فراس) يبوح أنا المتكلم بحبه، ويفصح عن علاقته بالفتاة التي أحبها، تماماً كما أفصح أبو فراس عن حبه لشادن من بني كسرى. يقول أنا المتكلم في قصيدة درويش:

وزنزانتي اتسعت، في الصدى، شرفة
كثوب الفتاة التي رافقتني سدى
إلى شرفات القطار، وقالت: أبي
لا يحبك. أمي تحبك. فاحذر سدوم غدا
ولا تنتظرني، صباح الخميس، أنا لا
أحب الكثافة حين تخبّئ في سجنها
حركات المعاني، وتتركني جسدا
يتذكر غاباته وحده ..

وفي المقابلات التي أجريت مع درويش ما يوضح الأسطر السابقة. في المقابلة التي أجراها معه عباس بيضون ونشرت في مجلة " مشارف : الحيفاوية، ( عدد3، تشرين الأول 1995 ) يرد ما يلي:

(أحببت مرة فتاة لأب بولندي وأم روسية. قبلتني الأم ورفضني الأب. لم يكن الرفض لمجرد كوني عربياً. ذلك الحين لم أشعر كثيراً بالعنصرية والكره الغريزي. لكن حرب 1967 غيرت الأمور. دخلت الحرب بين الجسدين بالمعنى المجازي وأيقظت حساسية بين الطرفين لم تكن واعية من قبل).

ما سبق يعزز أن أوجه التشابه بين تجربة الشاعرين في فترة من حياتهما كانت متشابهة لدرجة التطابق، وقارئ القصيدة، لولا شكلها الشعري الذي ينتمي إلى عصرنا، بالإضافة إلى استخدام مفردات لم تكن موجودة زمن أبي فراس، مثل القطار، يمكن أن يوحد بين درويش وأبي فراس، وقد يذهب، إذا قرأ القصيدة دون وضع اسم درويش عليها، إلى أنها بالفعل من روميات أبي فراس.

ذكر الحمامة:

من قصائد أبي فراس المشهورة التي رددها قراؤه وتناولها دارسو الأدب العربي بالشرح والتحليل قصيدة (أقول وقد ناحت بقربي حمامة)، وهي قصيدة يقول ظاهرها إن الشاعر، وهو في الأسر، خاطب حمامة كانت تنوح. وبدت المفارقة لأبي فراس في أنه هو الأسير يضحك، فيم هي الطليقة تبكي، وليس في هذا إنصاف من الدهر، إذ ماذا كانت الحمامة ستفعل لو كانت أسيرة مثل الشاعر وتعاني مما منه يعاني: الأسر والبعد عن الأهل والغربة؟ هل يجوز لنا أن نقول إن ثمة بُعداً رمزياً في القصيدة؟ هل الحمامة الطليقة حمامة بالفعل أم أنها دال ذو مدلول رمزي، وبالتالي فإن المقصود بها – أي مدلولها – هو المرأة؟ هل يجوز أن نربط بين هذه القصيدة وقصيدة الشاعر آنفة الذكر: وشادن من بني كسرى، وبالتالي بين أبي فراس والمرأة الرومية التي أظهر مسلسله أنه كان على علاقة بها؟ هذه تساؤلات ليست أكثر. الشادن إن زار الشاعر قصير ليله، وإن لم يزره طال ليل الشاعر، مثله مثل ليل عمر بن أبي ربيعة وليل المتنبي الذي يطول لفراقه الأحبة.

سواء أكانت الحمامة حقيقية أم رمزاً، فإن ما يهمنا هنا أنها كانت ذات حضور في قصيدة درويش: (من روميات أبي فراس)، وفي قصائد أخرى. يرد في (من روميات أبي فراس):

وثمة ملح يهب من البحر،
ثمة بحر يهب من الملح. زنزانتي
اتسعت سنتمتراً لصوت الحمامة: طيري
إلى حلب، يا حمامة، طيري بروميتي
واحملي لابن عمّي سلامي!

كأننا هنا نُصغي إلى أبي فراس حقا. كأن المتكلم حقاً هو أبو فراس. ليس التشابه فقط في مكان الزنزانة ووقوعها على الساحل – كلا الزنزانتين كانتا تقعان على ساحل البحر، وثمة ما هو مشترك هنا - هناك تشابه آخر: كلا الشاعرين ينتظر الخلاص من ابن لغته وأقربائه خارج حدود الزنزانة (السجن). وكثيرة هي قصائد أبي فراس التي يخاطب فيها ابن عمه حتى يفك أسره، بل إنه يعتب عليه لتلكئه في ذلك. من ذلك قصيدة (أسيف الهدى) التي يقول فيها:

ألست وإياك من أسـرة
وبيني وبينك فـوق النســب
 
فـلا تعدلـنّ، فـداك ابن عـمـك،
لا بل غلامك، عـما يجـب
 
وأنصف فتاك، فإنصافه
من الفضل والشرف المكتسب

الأم:

يكتب درويش، وهو يستحضر أبا فراس، يكتب على لسان الأخير:

ثمة أهل يزوروننا
غدا في خميس الزيارات. ثمة ظل
لنا في الممر. وشمس لنا في سلال
الفواكه. ثمة أم تعاتب سجاننا:
لماذا أرقْت على العشب قهوتنا يا
شقي ؟

ولا أدري إن كانت أم أبي فراس زارته، وهو في السجن في بلاد الروم. غير أن مما لا شك فيه أن أهل محمود درويش، وأمه منهم، قد زاروه في السجن، وحملوا له معهم في أثناءء الزيارة البرتقال (شمس في سلال الفواكه). ومعروف أن درويش كتب قصائد إلى أمه أبرزها قصيدته (أحن إلى خبز أمي..) وقصائد محمود درويش لأمه تذكرنا بقصائد أبي فراس لأمه، وهي من عيون شعره، ومن أجمل قصائد الأبناء للأمهات في الشعر العربي، فما من دارس لأبي فراس أو قارئ لقصائده إلا ترنم يقصيدته (يا أم الأسير) التي منها:

أيا أم الأسير، سقاك غيث
أيا أم الأسير، لمن تُربّى
إذا ابنك سار في بر وبحر
بكره منك ما لقي الأسير
، وقد مت، الذوائب والشعور
فمن يدعو لـه أو يســتجير

وكما يعثر المرء في ديوان أبي فراس على قصائد أخرى توجه فيها بالخطاب إلى أمه، فإن درويش في (لماذا تركت الحصان وحيدا؟) يكتب قصيدة ثانية لأمه هي (تعاليم حورية) أتى فيها على علاقته بها ونصائحها له. هل كان ديوان أبي فراس، في أثناء كتابة درويش ديوانه المذكور، واحداً من الكتب التي قرأها؟ أكاد أجزم بهذا.

المصير الذي لا مفر منه:

في قصيدته يكتب درويش:

فلأكن ما تريد لي الخيل في الغزوات:
فإما أميرا
وإما أسيرا
وإما الردى

نحن هنا نصغي إلى الشاعر المحارب، إلى أبي فراس. كأنه هو الذي ينطق. ألم يقل في (أراك عصي الدمع):

أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى
ولكن إذا حُمّ القضاء على امرئ
وقال أصيحابي: الفرار أو الردى
ولكنني أمضي لما لا يعيبني
يقولون لي: بعت السلامة بالردى
وهل يتجافى عني الموت ســـاعةً
ولا فرسي مهر، ولا ربّه غمر
فليس له بر يقيه ولا بحر
فقلت: هما أمران أحلاهما مر
وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
فقلت: أما والله، ما نالني خسر
إذا ما تجافى عني الأسـر والضر؟
...
ونحن أناس لا توسط عندنا
لنا الصدر دون العالمين أو القبـر

وإذا كان أبو فراس فارساً شجاعاً حارب وأسر، فإن وجود درويش في بيروت في العام 1982، وفي رام الله في العام 2002، ما يقول لنا إنه كان شجاعاً، حتى لو لم يحمل السلاح ويقاتل. إن من يصمد في أرض المعركة، في بيروت أو في رام الله، يملك من الشجاعة أيضاً الكثير. إنه أسير حتى لو لم يؤسر، فقد يموت في أية لحظة.

عزة أبي فراس في قوله في البيت الأخير يصوغها درويش في قصيدته في الأسطر التالية:

وزنزانتي اتسعت شارعاً شارعين. وهذا الصدى
صدى، بارحا سائحا، سوف أخرج من حائطي
كما يخرج الشبح الحر من نفسه سيدا
وأمشي إلى حلب. يا حمامة طيري
بروميتي، واحملي لابن عمّي
سلام الندى

وهل الرومية غير الرسالة (القصيدة لابن عمه)؟

(من روميات أبي فراس) مثل (رحلة المتنبي إلى مصر) قصيدة يكتب فيها درويش عن تجربة مر بها تشابهت مع تجربة شاعر عربي، وهي مثل شعر أبي فراس قصيدة وجدانية يبث فيها الشاعر أشواقه وأحزانه وآماله وآلامه، ويفصح عن ثقة بالمستقبل يتحلى بها.

1-5: محمود درويش والأعشى وطرفة:

[ ينظر دراستي: سؤال السلالة في ديوان محمود درويش:(كزهر اللوز أو أبعد) [ الأيام، رام الله، 14/2/2006 ]].


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى