الأربعاء ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم عمر يوسف سليمان

الخروجُ من بحر القصيدةِ والنوم في شط المعاجم

لا يحس بالأمر إلا الغواص، بعد أن يجد لآلئه ومرمره ومرجانه ليصنع هيكله الرائع تحت شمس اللغة، يحتاج أن يُخرجَ كل ما يتعلق ببحر القصيدة، أياً كان هذا البحر، من نظره وسمعه وما تركه من آثاره فيه، ثم يلتفت إلى الشط واضعاً كل اهتمامه في ما يخص هيكله.

في الحقيقة هذه الخطوة شديدة الصعوبة والخطورة، أن يقيِّم الشاعر بناء قصيدة لم يكتبها فهو ينظر إلى المرمر واللآلئ الجاهزة، أما أن يقيم قصيدة كتبها فمعناه أنه يقيم نفسه وتقييمه أيضاً!!، لأنه ممتزجٌ في هذا البناء، وكل ما فيه جزءٌ منه، وبمعنى آخر، إذا أراد تقييم البيت فعليه الخروج منه لينظر من خارجه، فكيف إذا كان البيتُ داخله وهو داخل البيت؟.

وللأمر صلة بقول جرير:إن كتابة بيت واحد أصعب من خلع أضراسه جميعاً!.

على أن ما قاله جرير ليس دقيقاً، لأن الأمر لن يصلَ إلى ألم خلع الضرس، فالأول يمنح قلقاً دائماً وخوفاً لا يفارق الشاعر، أما الثاني فألمٌ عابر، ربما كان جرير قد خلع جميع أضراسه عندما قال ما قاله...

يحس الشاعر في وقت النشوة الحالمة، بعد أن يتم هيكل قصيدته، بحاجةٍ للخروج منها، لنسيانها ونسيان كل ما يتعلق به من بقاياها، حتى يراها كمقيِّم، والأمر صعب حقيقة.

لذلك نقرأ في كتب التراث عن نصيحة الفرزدق لشاعر مبتدئٍ بأن يحفظ ألف بيتٍ من الشعر، وحين عاد إليه وقال له:إنني حفظتها، طلب منه أن ينساها ليصبح شاعراً مجيداً، نعم، كان طلب الفرزدق تدل على حدسٍ عميقٍ بضرورة النقد الذاتي وأهميته وحاجة الشاعر إليه، والذي لا يكون إلا بالتمرن على كيفية الخروج من سحرِ القصيد وإغرائها، إلى هدوءِ النقدِ وعمقه.

في أحد اللقاءات الصحفية مع محمود درويش سُئل إن كان يردد شعره وحيداً فأجاب بالنفي، وقال إنه لا يحاول أن يدندن قصائده في خلوته، وهذا يؤكد على أن ترداد القصيدة يجعلها تتسلل إلى فؤاد صاحبها، فتتملكه وتنسيه ما ينقصها.

لقد تمَّ الهيكل، والآن دور شط المعاجم، حيث يجتمع كل ما للغة من رياح وقوارب راسية، ولا بد أن يبحث الشاعر عن مكان هيكله المناسب، حتى لا يجرفها التيار، وأن يفتش عن الصدف الملائم الذي يزين هيكله ويزيده متانة، ولكنه لن يصل أو يقتنع، أو أن يدري كيف تم بناء هيكله ومن أين أتى به ومتى، إلى أن يغفو على الشط، وهيكله شاردٌ في أعالي الأفقِ البعيد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى