الأربعاء ٢٥ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم جميل حمداوي

التربية والديمقراطية

إن علاقة التربية بالديمقراطية علاقة جدلية ووثيقة، إذ لايمكن الحديث عن التربية والتعليم في غياب الحريات الخاصة والعامة وانعدام الديمقراطية الحقيقية القائمة على المساواة وتكافؤ الفرص والمبنية أيضا على العدالة الاجتماعية و الإيمان بالاختلاف وشرعية التعدد.

ولايمكن الحديث كذلك عن الديمقراطية في غياب تربية حقيقية وتعليم بناء وهادف يتسم بالجودة والإبداع والابتكار وتكوين الكفاءات المنتجة، ويحترم المواهب ويقدر الفاعلين التربويين والمتعلمين المتفانين في البحث والاستكشاف والتنقيب العلمي والمعرفي.

ومن هنا، فالتربية والديمقراطية متلازمان كالعملة النقدية فلا تربية بلا ديمقراطية ولا ديمقراطية بلا تربية.
وما أحوجنا اليوم إلى تربية ديمقراطية- في وطننا الذي انعدمت فيه المواطنة الحقيقية وتقلصت فيه حقوق الإنسان وتضاءلت فيه العدالة حتى كادت أن تنعدم- من أجل تأهيل ناشئتنا تأهيلا أخلاقيا وديمقراطيا لإدارة دفة البلاد وقيادة دواليبها على ضوء رؤية إبداعية ديمقراطية قائمة على أسس النظام والمسؤولية والانضباط والمواطنة الحقة، والتوق إلى الحرية والتغيير وبناء الدولة والأمة على معايير الإبداع والإنتاج والابتكار قصد الوصول إلى مصاف الدول المتقدمة والأمم المزدهرة حضاريا وعلميا وتكنولوجيا!

إذا، ماهي التربية؟ وما مفهوم الديمقراطية؟ وماهي علاقة التربية بالديمقراطية؟ وماهي آليات تفعيل الديمقراطية في نظامنا التربوي؟ وماهي الصعوبات التي تواجه تطبيق الديمقراطية وتفعيلها في الواقع التربوي؟ وما هي الحلول المقترحة لتثبيت الديمقراطية التربوية؟ تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها في هذه الدراسة المتواضعة.

1- مفهوم التربيـــة:

التربية فعل تربوي وتهذيبي وأخلاقي يهدف إلى تنشئة المتعلم تنشئة اجتماعية صحيحة وسليمة. و تساهم التربية أيضا في الحفاظ على قيم المجتمع وعاداته وتقاليده، وتسعى جادة لتكوين المواطن الصالح، و تهدف كذلك إلى تغيير المجتمع والدفع به نحو طريق التقدم والازدهار عبر تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة المثلى.
زد على ذلك، فالتربية هي التي تصيغ المجتمع صياغة أخلاقية وترفع من مكانته وتوصله إلى مصاف الدول المتقدمة والمزدهرة.

وتسعى التربية جادة إلى إدماج الفرد في المجتمع تكيفا وتأقلما وتصالحا وتغييرا، كما تسعى إلى:" الإنماء الكامل لشخصية الإنسان وتعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية. يعني تكوين أفراد قادرين على الاستقلال الفكري والأخلاقي ويحترمون هذا الاستقلال لدى الآخرين، وذلك طبقا لقاعدة التعامل بالمثل التي تجعل هذا الاستقلال مشروعا بالنسبة إليهم."
وعلى العموم، فالتربية هي وسيلة لتحقيق الإبداع والابتكار و طريقة في الاستكشاف والتأويل والبحث ودمقرطة المجتمع، وترتكز على الحرية والمبادرة الفردية وسيادة النقاش الهادف والنقد البناء والحوار السليم من أجل بناء مجتمع متقدم واع يساهم في الحداثة ويثري العولمة بما لديه من طاقات منتجة واختراعات ومكتشفات ومستجدات نظرية وتقنية وعلمية ومعلوماتية.

ويقول الدكتور محمد لبيب النجيحي:" ولما كان هدف التربية الأساسي هو تنمية التفكير واستغلال الذكاء، فمعنى هذا أن التربية تعمل من أجل الحرية الإنسانية. فالتأكيد على نمو الطفل إنما هو تأكيد على تحرير قدراته العقلية من قيودها، وإتاحة الفرصة لها للانطلاق حتى تستطيع أن تستخدم بطريقة فعالة إمكانيات البيئة التي يعيش فيها. ويصبح المجتمع الحر هو المجتمع الذي يشترك أفراده أيضا في تطويره وتوجيه التغيير الاجتماعي الحادث له.

وعندما يتمتع أفراد المجتمع بالحرية فإن التربية تكون بذلك قد أسهمت في بناء مجتمع مفتوح. ونعني بالمجتمع المفتوح المجتمع الذي يسعى عن قصد وتصميم في سبيل تطوره، ولا يعمل فقط على المحافظة على الوضع الراهن. وهذا المجتمع هو مجتمع قد نظم تنظيما يدخل في اعتباره حقيقة التغيير في الأمور الإنسانية. وهو مجتمع يقبل التغير على أنه وسيلة للقضاء على الفساد والانحلال، وأن الذكاء الإنساني والمجهود التعاوني من جميع أفراد المجتمع تؤدي جميعا إلى نمو الإنسانية وتقدمها."

زد على ذلك أن التربية تحقق مجموعة من الوظائف الجوهرية كالتعليم والتثقيف والتطهير والتهذيب والتنوير وتحرير الفكر من قيود الأسطورة والخرافة والشعوذة والسمو بالإنسان نحو آفاق إيجابية ومثالية.

2- مفهوم الديمقراطية:

من المعروف أن الديمقراطية في دلالاتها الاشتقاقية تعني حكم الشعب نفسه بنفسه أو قد تعني حكم الأغلبية بعد عملية الانتخاب والتصويت والفرز والانتقاء.
وتقابل كلمة الديمقراطية الديكتاتورية والأوتوقراطية اللتين تحيلان على الحكم الفردي وهيمنة الاستبداد المطلق. كما تقترب الديمقراطية من كلمة الشورى الإسلامية وإن كانت الشورى أكثر عدالة واتساعا وانفتاحا من الديمقراطية.
وترتكز الديمقراطية على القانون والحق والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية والاحتكام إلى مبادئ حقوق الإنسان وإرساء المساواة الحقيقية بين الأجناس في الحقوق والواجبات.
ومن أهم أسس الديمقراطية الالتزام بالمسؤولية واحترام النظام وترجيح كفة المعرفة على القوة والعنف.

وتتأسس الديمقراطية الفعالة والحقيقية:" من بين ما تتأسس عليه احترام الحقوق وأداء الواجبات التي يحميها ويضبطها القانون والمؤسسات في إطار دولة الحق والقانون. ومن المؤكد أن احترام الحقوق وأداء الواجبات لايتأتيان إلا بنسبة إلى شخص حر. الديمقراطية لم تعد أمورا شكلية أو قطاعية، بل أصبحت ثقافة ومعاملات تتجذر بمفاهيم النسبية والاختلاف وقبول الرأي الآخر والمساواة والعدالة والإنصاف والمشاركة السياسية وتقرير الفرد لمصيره واختياراته، ورفض أي نزوع سلطوي في جميع مجالات الحياة. ديمقراطية اليوم والغد تتمثل أكثر فأكثر في احترام الشخص وقدرته على تكوين نفسه بوصفه إنسانا... إنها سياسة الشخص كإنسان حر ومبدع.

من المتعذر الحديث عن الديمقراطية والسلوك الديمقراطي باعتبارهما حالة تكون عليها المؤسسات أو باعتبارهما ثوابت سياسية، بل يجب أن ينظر إليهما كمقتضى أخلاقي تكون مبادئه مشتركة ينبني البشر وماهم مختلفون فيه على أساس الإقرار بالاختلاف مما يمكن الشخص من السيطرة على الانفعالات وتجنب الأحكام المسبقة."

إذا، فالديمقراطية الحقيقية هي التي تحقق سعادة الإنسان، وتؤمن عيشه الكريم، وتوفر له فرص الشغل، وتشبع رغباته الغريزية من مأكل وشرب، وتروي غليله المعرفي والفني والثقافي، وتخرجه من براثن الفقر والفاقة والتخلف إلى عالم أكثر استقرارا وأمنا يسمح بالعيش الكريم والمساهمة في الإبداع والابتكار والعطاء.

3- دراسات حول التربية والديمقراطية:

ثمة دراسات عديدة تناولت علاقة التربية بالديمقراطية، ومن أهم هذه الدراسات كتاب الأمريكي جون ديوي بعنوان:" الديمقراطية والتربية " ، وقد نشره سنة 1916م، ويتناول الكتاب في مجمله فلسفة التربية وتطبيقاتها.
كما صدر كتاب آخر تحت عنوان:" الدين والتربية والديمقراطية " سنة 1997م، وقد أشرف عليه كل من ميشلين ميلو وفرناند ويلي .

وتوجد كتب ومؤلفات عديدة خصصت للتربية والديمقراطية بعض الفصول كالباحث غي آفانزيني في كتابه الذي نشره سنة 1975م بعنوان:" الجمود والتجديد في التربية المدرسية" حيث أثبت في القسم الثالث فصلا سماه:" التربية الحديثة والديمقراطية الحرة".

4- واقع الديمقراطية في مؤسساتنا التربوية:

من سيلقي نظرة بانورامية سريعة حول حال مؤسساتنا التعليمية والتربوية سيصاب بدوار كبير واندهاش شديد؛ لأن هذه المؤسسات تحولت إلى ثكنات عسكرية لاتؤمن إلا بالانضباط واحترام القانون ونظام المؤسسة، حتى الأبواب تشبه اليوم أبواب السجون المخيفة، إذ نجد عند باب هذه المؤسسات حراس الأمن يلبسون أزياء رسمية تشبه الأزياء العسكرية، ويحملون العصي القصيرة كرجال المخزن ليخيفوا بها براعم المستقبل من أجل أن يفرضوا النظام ولو استدعى الأمر في ذلك استعمال القوة والعنف وفرض العقوبات الزجرية سواء أكانت لفظية أم بدنية.

وقد سبب هذا الواقع التربوي البذيء في ظهور النظام التربوي الأوتوقراطي الذي يستند إلى لغة القمع والقهر والتخفي مدنيا وراء قناع الديكتاتورية العسكرية التي لاتعرف غير خطاب التأديب والزجر واستخدام العنف الرمزي ولو ضد الأطفال الأبرياء؛ مما يولد في نفوس الناشئة قيما سلبية ومشاعر الحقد والكراهية والخوف والانكماش وعدم القدرة على المغامرة والتخييل والابتكار والإبداع لانعدام الحرية والديمقراطية الحقيقية والمساواة الاجتماعية.

ومن نتائج هذا الضغط السياسي ظهور جيل من الشباب اليافعين الذين تمردوا عن الأسرة والمدرسة والمجتمع، وحملوا مشعل الثورة والتغريب وتخريب منشآت الدولة من أنابيب الماء وحنفياته و مصابيح كهربائية وإتلاف كل ماتملكه المؤسسات التعليمية، وتكسير المقاعد وتشويه الجدران، والتغيب بكثرة عن المدرسة التي تحولت إلى سجن قاتل كئيب، وفي الأخير يترك المتعلم المدرسة مبكرا، فينقطع عما فيها بسبب شطط الإدارة وتعسف الطاقم التربوي ناهيك عن ضآلة فرص الشغل وضبابية المستقبل وقتامته الجنائزية.

وبذلك، فقد وصلت المدرسة المغربية إلى آفاقها المسدودة، فصارت فضاء مسرحيا تراجيديا يشخص المأساة وصراع الأجيال، ويعكس بكل جلاء التطاحن الاجتماعي والتفاوت الطبقي ويعيد لنا إنتاج الورثة كما يقول بيير بورديو وباسرون؛ لأن النظام التربوي:"يتطابق كل التطابق مع المجتمع الطبقي، وبما أنه من صنع طبقة متميزة تمسك بمقاليد الثقافة أي بأدواتها الأساسية (المعرفة، المهارة العلمية وبخاصة إجادة التحدث)، فإن هذا النظام يهدف إلى المحافظة على النفوذ الثقافي لتلك الطبقة. والبرهان الذي قدمه هذان المفكران يبرز التناقض بين هدف ديمقراطية التعليم الذي يطرحه النظام وعملية الاصطفاء التي تقصي طبقة اجتماعية ثقافية من الشباب، وتعمل لصالح طبقة الوارثين."

ويترتب عن هذا، أن المدرسة الوطنية هي مدرسة غير ديمقراطية تخدم مصالح الطبقة الحاكمة والأقلية المحظوظة، وما التعليم العمومي والتعليم الخصوصي والتعليم الفكري والتعليم المهني سوى تعبير عن تكريس التفاوت الاجتماعي وتحويل المؤسسة التربوية إلى فضاء للتمييز اللغوي والعنصري ومكان للتطاحن الاجتماعي والتناحر الطبقي والتمايز اللغوي.
وإذا كان إميل دوركايم ينطلق من رؤية محافظة في تحليل النظام التربوي في علاقته بما هو اجتماعي وسياسي، فإن ألتوسير .يرى بخصوص:" التقنيات والمعارف، أنه يجري في المدرسة تعلم قواعد تحكم الروابط الاجتماعية بموجب التقسيم الاجتماعي التقني للعمل.

كما يقول بأن النظام المدرسي وهو أحد أجهزة الدولة الإيديولوجية هو الذي يؤمن بنجاعة استنساخ روابط الإنتاج عن طريق وجود مستويات من التأهيل الدراسي تتجاوب مع تقسيم العمل، وعن طريق ممارسة الإخضاع للإيديولوجيا السائدة.إن المسالك الموجودة في المدرسة هي انعكاس لتقسيم المجتمع إلى طبقات، وغايتها الإبقاء على الروابط الطبقية."
ويرى بودلو .وإستابليه .بأن المدرسة إيديولوجية وطبقية وغير ديمقراطية تكرس التقسيم الاجتماعي لوجود " شبكتين لانتساب الطلاب إلى المدارس يحددهما الفصل بين العمل اليدوي والعمل الفكري، ثم التعارض بين طبقة مسيطرة وأخرى خاضعة للسيطرة".

وبما أن المدرسة الليبرالية مدرسة طبقية وغير ديمقراطية، فإنها في الدول المتخلفة والمستبدة تكرس سياسة التخلف والاستعمار وتساهم في توريث الفقر والبؤس الاجتماعي، فإننا نجد إيفان إليتش يدعو إلى إلغاء هذه المدرسة الطبقية غير الديمقراطية في كتابه:" مجتمع بدون مدرسة".

فنظرية موت المدرسة حسب كوي أفانزيني هي في الحقيقة نظرية:" تأثرت تأثرا كبيرا بالعوامل الجغرافية التي أحاطت بها والتي قد تجعل منها نظرية صالحة لبلدان أمريكا اللاتينية، غريبة كل الغرابة عن المنطق التربوي للغرب. لاسيما أننا نجد فيها بعض التساؤلات التي تؤيد مثل هذا التفسير الذي يقصرها على بلدان بعينها، ذلك أن السيد إيليش ينزع أحيانا إلى القول بأن المدرسة ملائمة للعصر الصناعي وأنها من إرث هو مخلفاته، وينبغي أن تشجب فقط في البلدان المتخلفة حيث لاتستطيع أن توفر الانطلاقة اللازمة لها وحيث يكون حذفها شرطا لازما لحذف الاستعمار والقضاء عليه، على أنه في أحيان أخرى يطلق أحكاما تنادي بالقضاء عليها قضاء جذريا ويرى فيها مؤسسة بالية أنى كانت".
وعلى أي حال، فواقع الديمقراطية في مدارسنا التربوية يرثى له بسبب عدم وجود الديمقراطية وانعدام فلسفة التسيير الذاتي واللاتوجيهية وغياب منظومة حقوق الإنسان ممارسة وسلوكا بسبب غياب الديمقراطية في المجتمع على جميع الأصعدة والمستويات.

5- أنواع الديمقراطية التربوية:

يمكن الحديث عن أنواع عدة من الديمقراطية في مجال التربية والتعليم، ونحصرها في أنواع ثلاثة وهي:

1

- ديمقراطية التعلم

: والمقصود بها أن يكون التعليم منصبا على المتعلم الذي ينبغي أن يستفيد من جميع التعلمات على غرار أقرانه بشكل عادل ومتساو في إطار تكافؤ الفرص. ومن هنا، يستوجب الأمر القانوني والتشريعي على المربين أن يتعاملوا مع المتعلم على ضوء البيداغوجيا الفارقية وبيداغوجيا الدعم لكي ينال حقه من التربية والتعليم كباقي المتمدرسين الآخرين وخاصة الأغنياء منهم. ويطرح في هذا السياق موضوع الزي المدرسي الذي ينبغي أن يكون رسميا وموحدا بين جميع تلاميذ المؤسسات التربوية.
أضف إلى ذلك أنه من الضروري أن تقدم البرامج والمناهج والمقررات الدراسية مادة قانونية موسعة تؤهل التلميذ ليتعرف على حقوقه وواجباته لكي يكون ديمقراطيا في تصرفاته وسلوكياته مع ذاته وأقرانه.

2- ديمقراطية التعليم:

تسعى الدول المتقدمة إلى جعل التعليم ديمقراطيا من خلال تعميم البرامج وتوحيد المناهج والمقررات على الرغم من تنوعها في الأشكال والمضامين.

بالإضافة إلى تأميم التعليم وإلزاميته وإجباريته لكي تحد الدولة الراعية لأبنائها من نسبة الأمية والفقر والتخلف. فالتعليم هو الذي يغير المجتمع ويحقق الديمقراطية الحقيقية. كما أن المتعلم يتعلم الديمقراطية داخل المدارس والمؤسسات التربوية ويتربى في أجوائها المفعمة بالحرية.

وعندما نقول أيضا بديمقراطية التعليم، فنعني به جعل التعليم ذا خاصية شعبية يستفيد منه الجميع بدون استثناء أو إقصاء، فتصبح المدرسة مفتوحة للفقراء والأغنياء بطريقة عادلة ومتساوية تتكافأ فيها الفرص.

وينبغي أن نعرف أن مبدأ توحيد المناهج الدراسية الذي أصبح ميسما يعبر عن تطلعات الأحزاب الشعبية وشعارا براقا لكل القرارات السياسية والوطنية ينبغي ألا يلغي:" مايزخر به الواقع المغربي المتعدد، وما تفرضه شروط وآليات التحول الجديدة من ضرورة الانفتاح على كل أنماط التعدد والاختلاف والتمايز الطبقي والإثني... واحتوائها وتجاوزها في الآن ذاته، وذلك بتكريس الانخراط التشاركي الشمولي في بناء دولة وفاق اجتماعي ديمقراطي وتكاملي. ويتأسس هذا الطرح على كون الرهان على البناء الديمقراطي، في مجتمعاتنا العربية والثالثية عامة، لن يبلغ أهدافه أبدا إلا عبر جسور متينة من التربية والتكوين والثقافة وإعداد الموارد البشرية، وإلا بواسطة الدمقرطة الشاملة لأساليب وقنوات توزيع الرأسمال الرمزي، المتمثل في التكوين والمعرفة والثقافة، هذا فضلا عن دمقرطة توزيع مختلف أشكال الاستفادة المادية، ومختلف المواقع والأدوار والمراتب الاجتماعية بين كل الفرقاء المعنيين في المجتمع"

وهكذا، فكل الدول تسعى جادة وجاهدة لتثبيت أجواء الديمقراطية في مؤسساتها التربوية عن طريق إصدار مجموعة من المذكرات الوزارية والقرارات الحكومية والقوانين المنظمة ليتبوأ التعليم مكانة زاهية في مجتمع ديمقراطي، ولكن أي نوع من هذا المجتمع في غياب الحريات وانتشار التسلطن والاستبداد؟!!

3- تعليم الديمقراطية:

لايمكن لمجتمع ما أن يكون ديمقراطيا يؤمن بالحريات الخاصة والعامة وحقوق الإنسان ويتشبث بمنطق الاختلاف وشرعية الحوار والتسامح إلا إذا تربى على الديمقراطية الحقيقية سلوكا وعملا وتطبيقا، ولا يتأتى له ذلك إلا في المدرسة التي تعلم النشء مبادئ الديمقراطية السليمة وقوانين استعمالها ومعايير تمثلها وتطبيقها.

بيد أن مدرسة الثكنة العسكرية والقمع والقهر لايمكن أن تنتج سوى أساليب التعسف والتفكير الإقصائي والتطرف الإرهابي والجنوح نحو الديكتاتورية والسلوك العدواني الطائش.

فبالتربية نتعلم الديمقراطية ونتمثلها شعارا وعقيدة ومبدأ وسلوكا.

ولم يعد يخفى أيضا على أحد:" كون المؤسسة التعليمية تلعب دورا رئيسيا، انطلاقا من انفتاحها على الحياة السياسية للمجتمع في ترسيخ مجموعة من المبادئ والقيم الكفيلة بالنهوض بالمجتمع وبتحديثه سياسيا؛ فدور المدرسة، لم يعد يقتصر على محيطها الداخلي، بل يتعداه إلى جوانب قد تبدو للشخص العادي بعيدة عنها، لكنها في الواقع هي تربتها الأصيلة؛ لأن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية السياسية، كلها قيم تكتسب بفعل التربية ومناهجها؛ فتنشئة الأفراد على تلك القيم هو السبيل الصحيح للوصول إلى حد المشاركة الفعلية في تسيير شؤون السياسة للمجتمع، بنوع من العقلنة وبعيدا عن الارتجالية. ولا يفوتنا في هذا الجانب، أن ننوه بالدور الذي لعبته المدرسة في خلق برلمان للطفل في الآونة الأخيرة"
إذا، فالتربية هي بمثابة السبيل الأوحد لتعليم الديمقراطية، وفرضها في أرض الواقع كي يجسد الإنسان آدميته وكرامته البشرية وأنفته الإنسانية.

6- آليات تحقيق الديمقراطية في مجال التربية:

لايمكن الحديث عن التربية الديمقراطية أو ديمقراطية التعلم والتعليم إلا إذا انطلقنا في تصورنا النظري من مجموعة من الآليات التطبيقية التي تسعفنا على تحقيق الديمقراطية داخل مؤسساتنا التربوية قصد نقلها بعد ذلك إلى المجتمع من خلال دفع المتعلم ليكون ديمقراطيا في تصرفاته وسلوكياته مع كل أفراد أسرته ومجتمعه ووطنه وأمته بدون استثناء.
ويمكن حصر هذه الآليات الإجرائية والعملية في التقنيات والمبادئ التالية:

الفكر التعاوني والاشتغال في فريق جماعي:

يعد الفكر التعاوني من أهم الآليات لتحقيق الديمقراطية التربوية الحقيقية ؛ لأن الاشتغال في فريق تربوي داخل جماعة معينة يساعد التلميذ على التفتح والنمو واكتساب المعارف والتجارب لدى الغير، كما يبعده عن كثير من التصرفات الشائنة ويجنبه أيضا الصفات السلبية كالانكماش والانعزالية والانطواء والإحساس بالخوف والنقص والدونية ويساعده على التخلص من الأنانية وحب الذات. ولايمكن للدول أن تحقق التقدم والازدهار إلا إذا اشتغلت في إطار فريق جماعي كما في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، فالعلماء يتربون على الفكر التعاوني والبحث في فريق جماعي لتحقيق الأهداف التي انطلقوا منها في مشاريعهم العملية والعلمية والثقافية.

ومن هنا، فـبيداغوجية الفكر التعاوني من أسس تحقيق التعليم الديمقراطي وتحديث التعليم ودمقرطة التربية والمجتمع على حد سواء؛ لأنها تزيل الفوارق الاجتماعية وتذيب كل التمايزات اللونية واللغوية والطبقية.
ومن أهم الذين دعوا إلى الفكر التعاوني لدمقرطة المدارس البروليتارية المربي الفرنسي سلستان فرينيه الذي استعمل مجموعة من الوسائل التنشيطية لزرع الفكر التعاوني بين الناشئة التربوية. وتتمثل هذه الوسائل في استخدام المطبعة، والتراسل، والنصوص الحرة، والتحقيقات الخارجية، والاستهداء بالعمل الجماعي، وتأسيس التعاونيات المدرسية، واستعمال الجذاذات، والسهر على إنشاء جريدة الأطفال، والاعتماد على التسيير الجماعي، والاعتناء بكتاب الحياة، وتنظيم خزانة العمل، وتشغيل الآليات الحديثة كجهاز الفونو والأسطوانات والسينما...

وهكذا، فمن خلال العمل داخل فريق يمكن تحقيق ديمقراطية التعلم وديمقراطية التعليم وأجرأة التربية الديمقراطية عبر حل المشكلات التي تواجه المتعلم في عالمه الموضوعي بسهولة بواسطة إنجاز الأعمال المطلوبة منه بشكل فعال مع علاج الكثير من الآفات النفسية الفردية الشعورية واللاشعورية كالأنانية والنبذ والكراهية والنفور واستبدالها بمشاعر أكثر نبلا كالانسجام والتوافق والتشارك والتعاون والابتكار الجماعي والإبداع الهادف.

ولإزالة القيم السلبية والحد من المشاعر الفردية السيئة، لابد من دفع المتعلم لينصهر داخل الجماعة ليكتسب سلوكيات جماعية ويتعود على الفكر الاشتراكي العملي من خلال تدريب طاقته الجسدية والعقلية على تحقيق المردودية والإنتاجية كما يقول أنطون مكارينكو وتعويد تلاميذ الفصل على العمل الحر داخل جماعات متجانسة من حيث السن والمستوى الدراسي كما يقول كوزينيه وخلق فرص للعمل الجماعي من أجل بناء مجتمع ديمقراطي مبدع ومزدهر.

ديناميكية الجماعات:

من الآليات الأخرى لتحقيق ديمقراطية التعلم وخلق مواطن صالح وشخصية متوازنة سوية سيكولوجيا واجتماعيا لابد من الحديث عن تقنية ديناميكية الجماعات باعتبارها منهجية مهمة في علاج الكثير من الظواهر النفسية الشعورية واللاشعورية لدى المتعلم، كما أنها تقنية تنشيطية هامة يمكن الاستعانة بها أثناء العملية التعليمية- التعلمية، وطريقة فعالة في التنشيط التربوي والفني وإجراء منهجي للتحكم في التنظيم الذاتي للمؤسسة.

وتستدمج ديناميكية الجماعة المتعلمين داخل جماعات تربوية ضمن الفصل الدراسي من أجل معالجته نفسيا واجتماعيا عن طريق تطهيره وترويضه وتربيته على الفكر الديمقراطي والتعامل الشفاف الواضح والتعامل الصادق والمعايشة الحقيقية لمشاكل المدرسة والمجتمع والأسرة على حد سواء.

ولايمكن للتلميذ أن يبدع إلا داخل جماعة ديمقراطية تؤمن بالأخوة والتنافس الشريف، وتتشبث بفكر الاختلاف والشورى والعدالة، وتعتز بقانون الحقوق والواجبات.

ولابد أن يكون للجماعة أيضا قائد يوزع الأدوار، ويشرف على تنظيم الجماعة، ويسهر على تنظيمها ومآلها ويتحمل مسؤولياتها الجسيمة. بيد أن القائد لابد أن يختار بطريقة انتخابية ديمقراطية يتولى السلطة لفترة معينة ليتولاها قائد ديمقراطي آخر.

لكن كما يعلم الكل أن النسق الجماعي يخضع في عملياته التواصلية لثلاث قيادات أو سلط حسب كورت لوين Kurt Lewin: قيادة ديمقراطية تساعد على الإبداعية والابتكار وتحقيق المردودية والإنتاجية سواء أكان ذلك في غياب الأستاذ المؤطر أو المشرف الإداري أو في حضوره في الميدان، وتساهم هذه القيادة كذلك في بروز تفاعلات إيجابية بناءة كالتعاون والتوافق والاندماج.

أما القيادة الأوتوقراطية فهي ترتكن إلى استعمال العنف والقهر والتشديد في أساليب التعامل ؛ فينضبط الجميع في حضور القائد ولكنهم يتمردون في حالة غيابه. وفي هذه الحالة، تقل الإنتاجية والمردودية وتتحول المؤسسة إلى ثكنة عسكرية، فيصعب تطبيق مبادئ نظرية تفعيل الحياة المدرسية وتنشيطها لوجود قيم سلبية كالتنافر والتنابذ والتناحر والتوتر.
وإذا انتقلنا إلى القيادة السائبة فهي قائمة على فلسفة" دعه يعمل". وبالتالي، فهي قيادة فوضوية لاتساعد على تحقيق المردودية والإنتاجية في غياب القائد أو حضوره، وتزرع في نفوس المتعلمين قيم الاتكال والعبث واللامسؤولية.
وبناء على هذا، نستشف أن النهج الديمقراطي يساعد على نمو الجماعة وتطورها بشكل إيجابي فعال.
لذا، على رجال الإدارة والمدرسين الأخذ بالقيادة الديمقراطية لتحقيق النجاح الحقيقي والجودة البناءة وإضفاء النجاعة على أنشطة التسيير والتأطير.

السيكودراما والسوسيودراما:

تعتبر طريقة لعب الأدوار أو السيكودراما أو المسرح المدرسي من أهم التقنيات في مجال تنشيط الجماعة وتفعيلها، كما تعد من أهم الوسائل العلاجية لإدماج التلاميذ المنطوين على أنفسهم أو المنكمشين أو المعقدين نفسيا داخل جماعات لتحريرهم من العقد المترسبة في لاشعورهم وتطهيرهم ذهنيا ووجدانيا وحركيا وإخراجهم من العزلة والوحدة والاغتراب الذاتي والمكاني إلى عالم مجتمعي أرحب يعتمد على المشاركة والتعاون والأخوة والانسجام وتفتيق المواهب وممارسة الديمقراطية الفعالة.

ومن ثم، فالسيكودراما طريقة مسرحية يعتمد فيها الفرد على القيام بمجموعة من الأدوار المسرحية التي يبرز فيها طاقاته ومواهبه ويعبر عن مكبوتاته وطاقاته الدفينة قصد الانتقال من مرحلة الانكماش إلى المرحلة النفسية السوية و التوازن السيكواجتماعي من أجل بناء ذاته وأسرته ومجتمعه وأمته بطريقة ديمقراطية قائمة على العطاء والعمل والإنتاجية والمردودية.

فعن طريق السيكودراما والسوسيودراما نساعد المتعلم على الظهور والتفتح والنمو السيكولوجي ليكون قادرا على التعلم وتقبل المعارف وتلقيها بشكل علمي سليم، حيث نخرجه من قمقم الانكماش والضياع والاستلاب، ونحرره من بوتقة الاغتراب الذاتي والمكاني لننقله إلى عالم سعيد قوامه الحرية والمساواة والديمقراطية الاجتماعية حيث يتحقق فيه تكافؤ الفرص والعيش الكريم.

وعلى العموم، فالسيكودراما هي " تقنية سيكولوجية وضعها العالم السيكولوجي مورينو تعتمد على التلقائية الدرامية، حيث يطلب من الأشخاص أداء أدوار مسرحية دون ارتباط بكتابة سابقة أو تحديد للنص، قصد تنمية التلقائية لديهم. غير أنه مالبث أن تحولت هذه التقنية إلى أسلوب للتكوين والعلاج النفسي التحليلي الفردي والجماعي؛ وتنمية الابتكار لدى الأطفال في المجال التربوي التعليمي...

وتجد طريقة السيكودراما أصولها لدى اليونانيين القدماء، فقد أشار أريسطوفان في القرن الرابع قبل الميلاد إلى أن الشخص يظل سجين أدواره الاجتماعية ويمكن التحرر منها، وفهم دوافعها، عند التعبير عنها على خشبة المسرح. كما أن أرسطو أشار بدوره إلى الأهمية الأساسية التي يلعبها المسرح في التخفيف من المعاناة النفسية، خلال التوحد مع الممثلين في أدوار معينة، مما يساعد على التطهير النفسي."

ويعني كل هذا أن الإنسان لايمكن أن ينتقل إلى عالم الديمقراطية حتى نحرره نفسيا وجسديا وذهنيا من عقده الموروثة والمكتسبة كالخوف والجزع والقلق والانكماش والانطواء والخجل والانعزال المميت.

تقنية التنشيط التربوي:

من المعلوم أن للتنشيط أهمية كبرى في مجال التربية والتعليم لكونه يرفع من المردودية الثقافية والتحصيلية لدى المتمدرس، ويساهم في الحد من السلوكيات العدوانية والقضاء على التصرفات الشائنة لدى المتعلمين، كما يقلل من هيمنة بيداغوجيا الإلقاء والتلقين، ويعمل على خلق روح الإبداع والميل نحو المشاركة الجماعية والاشتغال في فريق تربوي.
ويمكن عبر عملية التنشيط الفردي والجماعي إخراج المؤسسة التعليمية من طابعها العسكري الجامد القاتم القائم على الانضباط والالتزام والتأديب والعقاب إلى مؤسسة بيداغوجية إيجابية فعالة صالحة ومواطنة يحس فيها التلاميذ والمدرسون بالسعادة والطمأنينة والمودة والمحبة، ويساهم الكل فيها بشكل جماعي في بنائها ذهنيا ووجدانيا وحركيا عن طريق خلق الأنشطة الأدبية والفنية والعلمية والتقنية والرياضية، يندمج فيها التلاميذ والأساتذة ورجال الإدارة وجمعيات الآباء ومجلس التدبير والمجتمع المدني.

ومن الضروري في فلسفة التنشيط الجديد وفي تصورات البيداغوجيا الإبداعية أن ُتعوض طرائق الإلقاء والتلقين والتوجيه بطرائق بيداغوجية حيوية معاصرة فعالة قائمة على الفكر التعاوني، وتفعيل بيداغوجيا ديناميكية الجماعات، واعتماد التواصل الفعال المنتج، وتطبيق اللاتوجيهية، وتمثل البيداغوجيا المؤسساتية من أجل تحرير المتعلمين من شرنقة التموضع السلبي والاستلاب المدمر، وتخليصهم من قيود بيروقراطية القسم وأوامر المدرس المستبد، وتعويض كل ذلك بالمشاركة الديمقراطية القائمة على التنشيط والابتكار والإبداع عن طريق تشييد الدولة للمختبرات العلمية والمحترفات الأدبية والورشات الفنية والمقاولات التقنية والأندية الرياضية داخل كل مؤسسة تعليمية على حدة، ويمكن للمؤسسة أن تقوم بذلك اعتمادا على نفقاتها ومواردها الذاتية في حالة تطبيق قانون سيـﯖما الذي ينص عليه الميثاق الوطني للتربية والتكوين في المادة 149 ضمن المجال الخامس المتعلق بالتسيير والتدبير.

فلسفة الكفايات والمجزوءات:

من أهم الآليات التطبيقية لتحقيق ديمقراطية التعلم وتفعيل التربية الديمقراطية هو تكوين الكفاءات الوطنية في ظل نظام تربوي سليم يؤمن بالجودة الكمية والكيفية ، ويستهدي بمنطق الاختلاف والتعددية، كما يقدر أصحاب الكفاءات العلمية والمهنية، ويثني على ذوي القدرات المتميزة والمهارات المتخصصة ويشيد بأصحاب المواهب العلمية والفنية والأدبية والتقنية.

وعند تحديد مدخلات العملية الديداكتيكية وتسطير خطواتها علينا أن نستوعب الغايات الكبرى لفلسفة التربية والمرامي المرجوة والمواصفات المطلوبة من منظومتنا التربوية، وهنا ننطلق من فلسفة الكفايات التي تحث عليها المذكرات الوزارية باعتبار أن الكفايات بديلا تربويا أساسيا لتأهيل النشء وإعداد المتعلمين لمجتمع الشغل؛ إذ يتطلب المجتمع التكنولوجي المعاصر وسياسة العولمة والتسابق الإعلامي من المدرسة أن تكون ديمقراطية في نسقها الإداري والتعليمي ومؤسسة وظيفية وذلك بتكوين أطر قادرة على تشغيل دواليب المجتمع ولاسيما آلياته الإنتاجية والخدماتية.

ولن يتم هذا إلا بمدرسة إبداعية تعتمد على الابتكار وخلق القدرات المندمجة لدى التلميذ، وتغرس فيه قيم الابتكار والإبداع والانفتاح والحوار والتعلم الذاتي والاشتغال في فرق تربوية وعمل جماعي مثمر.

وإذا كانت الكفايات منطلقا فلسفيا براجماتيا للعملية الديداكتيكية، فإن المحتويات والمجزوءات ينبغي كذلك أن تساير هذا التحول وتكون عبارة عن تعلمات في شكل وضعيات ومشاكل وعوائق سيواجهها المتعلم في الواقع، أي لابد من إدخال المجتمع إلى قلب المدرسة وتحضير المتعلم لأسئلة الواقع المفاجئة. ويعني هذا أن تكون المحتويات عبارة عن مشاكل ووضعيات صعبة تتطلب الحلول المستعجلة بأداء فعال، وتعكس نفس المشاكل والأزمات التي سيتلقاها المتعلم في المجتمع عندما سيحتك به.

ولابد أن تتجدد الطرائق البيداغوجية و الوسائل الديداكتيكية لمسايرة التطور البيداغوجي ومتطلبات سوق الشغل والتطور العلمي والتكنولوجي، وهنا لابد من الاستفادة من كل الوسائل الإعلامية المتاحة راهنا في الساحة الثقافية والعلمية والتواصلية، وتتبع كل الوسائل الجديدة لتجريبها قصد تحقيق الحداثة والمساهمة في إثراء المنظومة التربوية المغربية.
ولايمكن كذلك لهذه العملية أن تنجح إلا إذا وفرنا للأستاذ فضاء بيداغوجيا ملائما وصالحا كمدرسة الحياة، ومجتمع الشراكة ومؤسسة المشاريع، وإصلاح الإدارة ودمقرطتها، وإصلاح المجتمع كله، وتحسين الوضعية الاجتماعية للمدرس وتحفيزه ماديا ومعنويا والسهر على تكوينه بطريقة مستمرة، وتحسين وسائل التقويم والمراقبة على أسس بيداغوجيا الكفايات والوضعيات والمجزوءات، وتكوين أطر هيئة التفتيش ليقوموا بأدوارهم المنوطة بهم التي تتمثل في تأطير المدرسين وإرشادهم إلى ماهو أحدث وأكفى وأجود. ولايمكن أن ينجح المدرس في عمليته التعليمية – التعلمية إلا إذا سن سياسة الانفتاح والتعاون والحوار والعمل في إطار فريق تربوي، واهتم بالبحث العلمي والإنتاج الثقافي لإغناء عدته المعرفية والمنهجية والتواصلية لصالح المتعلم والمدرسة المغربية.

فلسفة الشراكة:

من المعلوم أن الشراكة نوعان: شراكة داخلية وشراكة خارجية. وما يهمنا في هذا السياق هو ما يسمى بالشراكة الداخلية التي يساهم فيها جميع الفاعلين الذين يساهمون في تدبير المؤسسة وتسييرها وتنشيطها والإشراف عليها من مدرسين وأساتذة ومتعلمين ورجال الإدارة ومشرفين تربويين وأسر التلاميذ ومجلس التدبير داخل المؤسسة.

ولخلق مشاريع تربوية تخدم المؤسسة من قريب أو من بعيد فلابد من التركيز على مواضيع الشراكة ذات الأولوية والضرورة القصوى كمحاربة الهدر المدرسي عن طريق الدعم التربوي وتقديم ساعات إضافية تطوعية لخدمة التلاميذ ومساعدتهم على مراجعة دروسهم وإنجاز واجباتهم وفروضهم المنزلية أو الفصلية مع تدريبهم على التطبيق المنهجي والتحليل التركيبي والتقويمي، والأخذ بيدهم من أجل السير بهم نحو ثقافة التعلم الذاتي والتكوين المستمر، وسد كل ثغرات التعثر والنقص لديهم عن طريق إرشادهم ومحاورتهم بطريقة ديمقراطية قائمة على التوجيه الصحيح والحجاج المنطقي والبرهان العقلي من أجل مواصلة دراستهم والتنسيق مع أسرهم من أجل إرجاع أولادهم إلى المدرسة وإقناعهم بأهمية التعلم والتكوين والتدريس من أجل بناء مواطن صالح.

كما يمكن الاستعانة بالمدرسين والمشرفين التربويين للمشاركة في تنمية البحوث التربوية التي ترتكز على تحسين أداء المتعلم والانطلاق من فلسفة الكفايات المستهدفة و تجديد الطرائق البيداغوجية والوسائل الديداكتيكية وأساليب المراقبة والتقويم وأنظمة الامتحانات، دون أن ننسى أهمية المشاركة في تكوين المدرسين إداريا وتربويا من قبل رجال الإشراف ورجال الإدارة الذين لهم خبرة في الميدان عن طريق مناقشة المذكرات وتوضيحها و شرح دواليب التسيير وآليات التدبير بواسطة عقد اللقاءات والندوات والمجالس التعليمية لمناقشة قضايا التربية والتعليم.

و تستهدف الشراكة الداخلية أيضا تثبيت وتطوير استعمال تكنولوجيا الإعلام والتواصل الرقمي من خلال إنشاء خليات الإعلام والاتصال الحاسوبي والسباحة الإعلامية عبر الإنترنت داخل الشبكة العالمية. ولا نغفل مدى أهمية عملية الارتقاء بعلاقات التعامل السيكولوجي والاجتماعي والإداري بشكل بنيوي دينامي وإنساني وظيفي داخل المؤسسة التعليمية من خلال احترام المتعلمين ورجال التربية والإدارة والتدبير و رجال الإشراف والآباء وأمهات التلاميذ وأوليائهم واللجوء إلى سياسة المرونة والحوار الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان وتطبيق مبدإ الحافزية والمساواة واحترام الكفاءات وتحقيق الجودة الكيفية (الإبداعية) والكمية (المردودية).

كما ينبغي أن تستند المشاركة التربوية إلى تشجيع الإبداعات التربوية والارتقاء بالرياضة المدرسية وتنشيط المؤسسة التعليمية فنيا وثقافيا وإعلاميا واجتماعيا وبيئيا من خلال خلق شراكة ذاتية أو داخلية.

و في اعتقادي، يمكن لهذه الشراكات أن تتحقق ميدانيا وواقعيا لو طبقت الوزارة نظام سيــﮔما قصد إعطاء المؤسسات التعليمية صفة مصلحة تابعة للدولة مسيرة ذاتيا تعتمد على إعانات الدولة ومنحها ومواردها الخاصة وما تستجلبه من إمكانيات مادية ومالية وبشرية عبر الشراكات التي تخلقها.

* البيداغوجيا الإبداعية:

تتكئ النظرية الإبداعية التربوية على مجموعة من الأسس والمرتكزات، ومن أهمها: السعي الدائم وراء التحديث والتجديد وتفادي التكرار واستنساخ ماهو موجود سلفا، وتجنب أوهام الحداثة الأدونيسية، واعتماد حداثة حقيقية وظيفية بناءة وهادفة تنفع الإنسان في صيرورته التاريخية والاجتماعية. ولن تتحقق هذه الحداثة إلا بالتعلم الذاتي وتطبيق البيداغوجيا اللاتوجيهية أو المؤسساتية ودمقرطة الدولة وكل مؤسساتها التابعة لها. ويعني هذا أن البيداغوجيا الإبداعية لن تنجح في الدول التي تحتكم إلى القوة والحديد وتسن نظاما ديكتاتوريا مستبدا؛ لأن الثقافة الإبداعية هي ثقافة تغييرية راديكالية ضد أنظمة التسلط والقهر.

ولايمكن الحديث أيضا عن النظرية الإبداعية إلا إذا كان هناك تشجيع كبير لفلسفة التخطيط والبناء وإعادة البناء والاختراع والاكتشاف وتطوير القدرات الذاتية والمادية من أجل مواجهة كل التحديات.

ومن الشروط التي تستوجبها النظرية الإبداعية الاحتكام الدائم إلى الجودة الحقيقية كما وكيفا، والتي لايمكن الحصول عليها إلا بتخليق المتعلم والمواطن والمجتمع بصفة عامة. ويعد الإتقان من الشروط الأساسية لماهو إبداعي؛ لأن الإسلام حث على إتقان العمل وحرم الغش والربح الحرام.

ولابد من ضبط النفس أثناء التجريب والاختبار وتنفيذ المشاريع العلمية والتقنية، والتروي في إبداعاتنا على جميع الأصعدة والمستويات والقطاعات الإنتاجية، والاشتغال في فريق تربوي والانفتاح على المحيط العالمي قصد الاستفادة من تجارب الآخرين، والمساهمة بدورنا في خدمة الإنسان كيفما كان. ومن هنا، لابد أن يكون التعليم الإبداعي منفتحا على محيطه وفي خدمة التنمية المحلية والجهوية والوطنية والقومية والإنسانية.

وترفض النظرية الإبداعية التقليد والمحاكاة العمياء والاتكال على الآخرين واستيراد كل ماهو جاهز، واستبدال كل ذلك بالتخطيط المعقلن وإنتاج الأفكار والنظريات عن طريق التفكير في الحاضر والمستقبل، وتمثل التوجهات البرجماتية العملية المفيدة، ولكن بشرط تخليقها لمصلحة الإنسان بصفة عامة.

هذا، وينبغي أن ينصب الإبداع على ما هو أدبي وفني وفكري وعلمي وتقني ومهني وصناعي في إطار نسق منسجم ومتناغم لتحقيق التنمية الحقيقية والتقدم والازدهار النافع لوطننا وأمتنا.

ومن المعلوم أن الدول الغربية لم تتقدم إلا بتشجيع الحريات الخاصة والعامة وإرساء الديمقراطية الحقيقية وتشجيع العمل وتحفيز العاملين ماديا ومعنويا. ومن ثم، تعتبر النظرية الإبداعية فكرة التشجيع والتحفيز وتقديم المكافآت المادية والرمزية من أهم مقومات البيداغوجيا العملية الحقيقية، ومن أهم أسس التربية المستقبلية القائمة على الاستكشاف والاختراع.

تفعيل الحياة المدرسية:

تعمل الحياة المدرسية على خلق مجتمع ديمقراطي منفتح وواع ومزدهر داخل المؤسسات التعليمية والفضاءات التربوية، وتقوم أيضا على إذابة الصراع الشعوري واللاشعوري والقضاء على الفوارق الطبقية والحد من كل أسباب تأجيج الصراع وتنامي الحقد الاجتماعي، خاصة وأن الحياة المدرسية هي مؤسسة تربوية تعليمية نشيطة فاعلة وفعالة تعمل على ربط المؤسسة بالمجتمع، وتوفر حياة مفعمة بالسعادة والأمل والطمأنينة والسعادة، وتحقق الأمان والحرية الحقيقية للجميع، وتسعى إلى تكريس ثقافة المواطنة الصالحة في إطار احترام حقوق المتعلم/ الإنسان داخل فضاء المؤسسة وتطبيق المساواة الحقيقية وإرساء قانون العدالة المؤسساتية وفتح باب مبدإ تكافؤ الفرص على مصراعيه أمام الجميع بدون تمييز عرقي أو لغوي أو طبقي أو اجتماعي، فالكل أمام قانون المؤسسة سواسية كأسنان المشط الواحد. ومن ثم، فلا قيمة للرأسمال المالي أو المادي في هذا الفضاء المؤسساتي أمام قوة الرأسمال الثقافي الذي يعد معيار التفوق والنجاح والحصول على المستقبل الزاهر.
و يقصد بالحياة المدرسية la vie scolaire في أدبيات التشريع المغربي التربوي تلك الفترة الزمنية التي يقضيها التلميذ داخل فضاء المدرسة، وهي جزء من الحياة العامة للتلميذ/ الإنسان. وهذه الحياة مرتبطة بإيقاع تعلمي وتربوي وتنشيطي، متموج حسب ظروف المدرسة وتموجاتها العلائقية والمؤسساتية. وتعكس هذه الحياة المدرسية مايقع في الخارج الاجتماعي من تبادل للمعارف والقيم، وما يتحقق من تواصل سيكواجتماعي وإنساني. وتعتبر"الحياة المدرسية جزءا من الحياة العامة المتميزة بالسرعة والتدفق، التي تستدعي التجاوب والتفاعل مع المتغيرات الاقتصادية والقيم الاجتماعية والتطورات المعرفية والتكنولوجية التي يعرفها المجتمع، حيث تصبح المدرسة مجالا خاصا بالتنمية البشرية. والحياة المدرسية بهذا المعنى، تعد الفرد للتكيف مع التحولات العامة والتعامل بإيجابية، وتعلمه أساليب الحياة الاجتماعية، وتعمق الوظيفة الاجتماعية للتربية، مما يعكس الأهمية القصوى لإعداد النشء، أطفالا وشبابا، لممارسة حياة قائمة على اكتساب مجموعة من القيم داخل فضاءات عامة مشتركة".

ويتبين لنا أن الديمقراطية لايمكن تجسيدها على أرض الواقع إلا إذا تحققت في مدرسة تستهدي بالحياة المدرسية ومقوماتها الإيجابية.

تطبيق البيداغوجيا الفارقية:

من أهم الآليات العملية لتحقيق الديمقراطية التربوية والتي تعمل فعلا على الحد من ظاهرة الصراع المتعدد داخل الفضاء التربوي تطبيق البيداغوجيا الفارقية لمحو الفوارق المعرفية والقضاء على الفشل الدراسي والحفاظ على مستوى الذكاء الدراسي الموحد قصد تحقيق النتائج المرجوة من بيداغوجيا الكفايات وبيداغوجيا المجزوءات.

وتنطلق البيداغوجيا الفارقية من القناعة القائلة بأن:" أطفال الفصل الواحد يختلفون في صفاتهم الثقافية والاجتماعية والمعرفية والوجدانية بكيفية تجعلهم غير متكافئي الفرص أمام الدرس الموحد الذي يقدمه لهم المعلم. ويؤول تجاهل المدرس لهذا المبدإ إلى تفاوت الأطفال في تحصيلهم المدرسي. وتأتي البيداغوجيا الفارقية لتحاول التخفيف من هذا التفاوت.
ويعرف لوي لوگران البيداغوجيا الفارقية كالآتي:

" هي تمش تربوي يستعمل مجموعة من الوسائل التعليمية- التعلمية قصد إعانة الأطفال المختلفين في العمر والقدرات والسلوكات والمنتمين إلى فصل واحد، من الوصول بطرق مختلفة إلى نفس الأهداف".

لبلوغ هذا الهدف لابد أن يتعرف المعلم على الخاصيات الفردية لتلامذة فصله: مستوى تطورهم الذهني والوجداني والاجتماعي،قيمهم ومواقفهم إزاء التعليم المدرسي.

وتنصح البيداغوجيا الفارقية المربين بتقسيم تلامذة الفصل الواحد إلى فرق صغيرة متجانسة، وبمطالبة كل فريق بعمل يتلاءم مع صفاته المميزة وذلك في إطار عقد تعليمي يربط المعلم بتلاميذه."

ومن الحلول المقترحة لتوحيد مستوى التعليم ومحاربة الفوارق المعرفية بين التلاميذ اتباع سياسة الدعم البيداغوجي والتفريدي عن طريق تقديم دروس إضافية مجانية للمتعثرين من أبناء الطبقة الفقيرة وحتى من الطبقة العالية لتعميم المعرفة وخلق فرص متساوية أمام جميع الأطراف لاكتساب الذكاء ومهارات التحليل والمعالجة قصد تكوين تلاميذ مقتدرين أكفاء يستطيعون مواجهة الوضعيات الصعبة والمعقدة. ومن ثم، يشكل الفصل الدراسي:"مجموعة غير متجانسة من الأطفال، في استعداداتهم وقدراتهم، مما يدعو في عملية الدعم، التي تقلل من المتخلفين دراسيا عن أقرانهم. كما يمكن النظر إلى ضرورة الدعم وأهميته من ناحية ثانية، وهي اختلاف طريقة أو أسلوب تعلم كل تلميذ، ومعظم المدرسين لايأخذون هذا الأمر بعين الاعتبار، فيدرسون بطريقة واحدة. وفي هذه الحالة فإن عملية الدعم لاتكسب معناها الحقيقي والمفيد إلا إذا تم تعليمها بطريقة مختلفة عن الطريقة التي علمت بها المادة أول الأمر.

إن التعريف الذي تم تبنيه لبيداغوجية الدعم والتقوية، من قبل وزارة التربية والتعليم أنها:" مجموعة من الوسائل والتقنيات التربوية التي يمكن إتباعها داخل الفصل (من إطار الوحدات الدراسية) أو خارجية (في إطار أنشطة المدرسة ككل) لتلافي بعض ما قد يعترض تعلم التلاميذ من صعوبات (عدم الفهم- تعثر- تأخر...) تحول دون إبراز القدرات الحقيقية والتعبير عن الإمكانيات الفعلية الكامنة."

وهكذا، نستشف أن البيداغوجيا الفارقية من أهم الوسائل الإجرائية في مجال التربية والتعليم لتحقيق الديمقراطية الاجتماعية الحقيقية.

• دمقرطة التعليم:

من الحلول الأخرى لتفادي مدرسة الفوارق الطبقية والاختلال الاجتماعي اللجوء إلى دمقرطة التعليم، ويطلق هذا المفهوم على"العملية التي يتم بموجبها توفير الموارد البشرية والمادية والمالية الضرورية داخل الوسط المدرسي لنقل المعارف إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص. يضاف إلى ذلك اقتناع السياسة التربوية واعتراف بما يترتب عن هذا التوجيه."
ويمكن تحقيق دمقرطة التعليم عن طريق تحقيق مفهوم تكافؤ الفرص الذي صار شعارا جميع الشعوب سواء أكانت متقدمة أم نامية منذ 1948م مع تبني هيئة الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان المتضمن لمادتين أساسيتين:" لكل شخص الحق في التربية والتعليم اللذين يجب أن يكونا مجانيين على الأقل فيما يخص المرحلة الابتدائية والتربية الأساسية، و" لكل شخص الحق بالمشاركة بحرية في الحياة الثقافية للمجموعة"، فهاتان المادتان تشيران إلى الحق في التربية والتعليم للجميع.".

وعليه، فدمقرطة التعليم هي خطوة أولى ومرحلة ضرورية لدمقرطة الأسرة والمجتمع والسياسية على حد سواء من أجل الرفع بالوطن والأمة إلى مصاف الدول والأمم المحترمة والمزدهرة على جميع المستويات والأصعدة.

دمقرطة المجتمع:

لايمكن أن تتحقق ديمقراطية التربية إلا إذا تحققت الديمقراطية الحقيقية في المجتمع، ولا ينبغي أن تكون ديمقراطية الدولة شكلية وسطحية تمس ماهو هامشي وثانوي، وتترك ما هو أساسي وجوهري. أي إن الديمقراطية الحقيقية هي ديمقراطية عملية يشارك فيها الرئيس والمرؤوس، ويحتكمان معا إلى لغة الحوار والاختلاف وخطاب الانتخابات النزيهة الشفافة بدون تزوير ولا تزييف ولا تسويف ولا تجويع.

وهنا، تتحمل المدرسة كامل المسؤولية لتغيير المجتمع تغييرا ديمقراطيا عن طريق تخليق الناشئة وتهيئها للمستقبل الزاهر حينما تتنازل الدولة عن سلطاتها الواسعة لتشرك فيها كفاءات المجتمع بطريقة ديمقراطية عادلة لاتفاوت فيها ولا صراع شخصي أو حزبي يؤجج حولها.

ومن هنا يرى جون ديوي أن:" الاندماج الاجتماعي الأمثل هو الذي يستجيب للنموذج الديمقراطي، ذلك النموذج الذي لايعني ميدان السياسة وحدها بل سائر الميادين الأخرى، ولاسيما العائلة والكنيسة والأعمال الاقتصادية.
وهذا النموذج الديمقراطي لايمكن عنده أن يوضع موضع التنفيذ إلا عن طريق استعدادات خلقية معنوية يرجع إلى المدرسة صراحة أمر تعهدها وغرسها. غير أنه مادامت هذه المدرسة توجهها مبادئ سليمة ومادامت تيسر أقصى حد من تقاسيم التجارب والمسؤوليات، فإنها تسهم بالضرورة في إعادة بناء النظام الاجتماعي. وإنها، على حد تعبيره، الوسيلة الأساسية للتقدم والإصلاح الاجتماعي"

وعلى الرغم من أهمية المدرسة في تغيير المجتمع وتحديثه وعصرنته ومساهمته في تحقيق الديمقراطية وإرساء فكر الاختلاف وشرعية الحوار، إلا أن المدرسة ظلت في غياب:" عن الحياة السياسية، ليست بسبب عدم انفتاحها على المحيط السياسي فحسب، بل لأن هذا الأخير هو بدوره منغلق على ذاته؛ أو بعبارة أخرى إن مانلحظه، هو انعدام دور الأحزاب السياسية والجمعيات في الوصول إلى جوهر المؤسسة التعليمية بالمعنى العام، حيث ظلت ترزح تحت غطاء الحزبية الضيقة التي تطغى عليها.

فالبرامج السياسية مطالبة بالحضور الفعلي داخل المنظومة التربوية، ليس من باب تشكيل أحزاب وكتل سياسية داخل المدرسة، بل بترسيخ ثقافة الحوار الحوار وتقبل الآخر واكتساب مبادئ النقد الذاتي والتشبث بقيم الوحدة بجميع معانيها؛ ذلك أنه مهما اختلفت رؤانا للأمور، فإن الغاية تظل واحدة: بناء مجتمع حديث مساير للركب الحضاري والتطور التكنولوجي والعلمي."

وهكذا، نصل إلى أن دمقرطة المجتمع وبنائه حضاريا وأخلاقيا من أهم الآليات الإجرائية لتحقيق الديمقراطية الحقيقية في نظامنا التربوي والتعليمي.

• توحيد الزي المدرسي:

من أهم الحلول التي نعتبرها شكلية للحد من ظاهرة الصراع الطبقي و مرحلة أساسية لتطبيق الديمقراطية في المجتمع توحيد الزي المدرسي وفرضه إجباريا على جميع التلاميذ، ومساعدة المتعلمين المعوزين الذين يوجدون بالمؤسسة، وهنا نستدعي دور جمعية الأنشطة الاجتماعية والتربوية والثقافية باعتبارها فاعلا مشاركا ؛ لأنها تنشط في مجالات متعددة، تساعد التلاميذ الفقراء وتلبي حاجياتهم المادية وتقدم للتلاميذ المتعثرين دراسيا حصصا في الدعم والتقوية، وتنظم للمجتمع المدرسي محاضرات وعروضا، وتمنح للتلاميذ المتفوقين جوائز تشجيعية، وغيرها من الأنشطة الاجتماعية والتربوية والثقافية.

الاسترشاد بالطرق الفعالة:

تعتبر الطرق الفعالة من أهم التقنيات والآليات الإجرائية لتحقيق الديمقراطية الحقيقية ولاسيما أنها من مقومات التربية الحديثة والمعاصرة في الغرب كما قال السيد بلوخ Blochحينما أعلم بأن نجاح المدرسة الفعالة: " لازب من أجل بزوغ مجتمع ديمقراطي لايمكن أن يكون كذلك إلا عن طريق منطوق مؤسساته" .

وقد ظهرت هذه الطرق الفعالة في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين مع ماريا مونتيسوري وجون ديوي، وكلاباريد وكرشنشتاير وفرينيه وكارل روجرز ومكارنكو وريبول وفيريير وجان بياجيه

وتعتمد هذه الطرق الفعالة الحديثة على عدة مبادئ أساسية ألا وهي: اللعب، وتعلم الحياة عن طريق الحياة، والتعلم الذاتي،والحرية، والمنفعة العملية، وتفتح الشخصية، والاعتماد على السيكولوجيا الحديثة، والاستهداء بالفكر التعاوني والتسيير الذاتي، وتطبيق اللاتوجيهية، ودمقرطة التربية والتعليم...

هذا، ويؤكد أصحاب الطرق الفعالة الحديثة بلغة تكاد تكون واحدة رفضهم القاطع للنزعة التسلطية والتلقينية مع ضرورة:" تدعيم ولادة مجتمع ديمقراطي، مادامت المدرسة التقليدية لاتكون الكيان الشخصي كما لاتحقق الدمج الاجتماعي بل تؤدي على العكس في آن واحد إلى تمييع المجتمع وإلى قيام النزعة الفردية الأنانية. ويضيف أولهم ونعني كلاباريد أن علاج مثل هذه النقيصة لايكون بأن ندخل على هامش الأمر تربية مدنية غريبة عن أي تربية من هذا الطراز التقليدي. وجميعهم يشيد بالقيادة الذاتية لسبب وحيد هو أنهم يريدون أن يحلوا محل النظم الزجرية التي ييسر الترويض ذيوعها وانتشارها، بأخرى جديدة تشتمل على المشاركة والمسؤولية، وبالتالي، على ما ييسر انطلاق الشعور الغيري.

وأخيرا، إنهم يخشون، في حال غياب التدريب المناسب، أن تنحدر الديمقراطية فتغدو حكم التفاهة والضعة."
إذا، فالطرق الفعالة والنشيطة التي أفرزتها التربية الحديثة من أهم مقومات ديمقراطية التربية والتعليم.

• البيداغوجيا المؤسساتية:

يرفض جميع المربين وبدون استثناء تحويل المؤسسة التربوية إلى مؤسسة الثكنة أو فضاء بيروقراطي يكرس التمييز العنصري، ويؤجج الصراع الطبقي، أو يتم إصلاحها خارجيا، بل ينبغي أن يكون الإصلاح داخليا قائما على مبادئ البيداغوجيا المؤسساتية التي نظر لها كل من أوري ولوبرو ولاپاساد .

ومن المعروف أن المدرسة المؤسساتية اتجاه ظهر في فرنسا يعتبر أن الإصلاح:" يجب أن يمر عبر المؤسسة، بالإضافة إلى البنيات الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثمة يجب الاهتمام بمفهوم الإدارة الذاتية والتسيير الذاتي من أجل تحقيق الاستقلال الذاتي للمتربين في إطار مؤسسي مفتوح".

إذاً، ترفض هذه البيداغوجية الجديدة المدرسة الثكنة التي تخنق التلميذ بنظامها الانضباطي البيروقراطي الذي يحد من حرية التلميذ، فتتحول المدرسة إلى صندوق أسود أو إلى ثكنة عسكرية لاتؤمن إلا بالنظام والانضباط على حساب حرية التلميذ ولعبه وأنشطته الثقافية والفنية والرياضية والعلمية.

لهذا، تقترح البيداغوجيا المؤسساتية مدرسة مرنة ومنفتحة تنبع قوانينها من التفاعل الداخلي لأفرادها قصد الانتقال بالمدرسة من مؤسسة التلقين والتوجيه والانضباط الوحشي نحو مؤسسة إبداعية فاعلة وفعالة مبدعة ومبتكرة تسعى إلى تحقيق التقدم والازدهار.

ولا ننسى كذلك أهمية الشراكة التربوية وخلق مشاريع المؤسسة لتنمية المؤسسة التربوية وإزالة تناقضاتها الاقتصادية والاجتماعية الصارخة ؛لأن المدرسة جزء من المجتمع ومرآة صادقة تعكس سلبياته وتفاوتاته الطبقية الصارخة التي يجسدها المتعلمون داخل الساحة المدرسية أو داخل الصف الدراسي.

ومن الحلول المقترحة لتفادي الظاهرة الصراعية داخل الفضاء التربوي المطالبة الفورية بتنفيذ قانون سيگما الذي دعا إليه الميثاق الوطني للتربية والتكوين لمد المؤسسة التعليمية بميزانيتها السنوية، وكل ذلك من أجل تدبير شؤونها الداخلية وإنجاح برامجها التنشيطية.

البيداغوجيا اللاتوجيهية:

تنبني اللاتوجيهية على التعلم الذاتي والتسيير الشخصي واعتماد المتعلم على نفسه في إنجاز واجباته وأداء أعماله، ويتحول المدرس هنا إلى مشرف مرشد، ولا يتتدخل إلا إذا طلب منه المتعلم ذلك. وتعتمد اللاتوجيهية على الحرية والعفوية والتلقائية وبناء المعرفة عن طريق التدريج المنطقي والشخصي والابتعاد عن طرائق التدريس التلقينية القائمة على الإكراه والتلقين والحفظ أوالتدخل المدرس تعسفا وحيفا في أعمال التلميذ وتوجيه رغباته كما يشاء.

فهذه الطريقة اللاتوجيهية الحديثة تزرع الثقة في المتعلم، وتعوده على المثابرة الشخصية والتعلم الذاتي وحب المغامرة والاستعانة بكفاءاته وقدراته الذاتية لحل المشاكل والوضعيات وتطويع الصعوبات التي تواجهه في المدرسة والحياة على حد سواء.

ومن أهم المنظرين للبيداغوجيا اللاتوجيهية نستحضر: جان جاك روسو وأوليفييه ريبول وكارل روجرز .

تفعيل المجالس التربوية:

تتوفر المؤسسة على عدة مجالس يمكن أن تساهم في إثراء المؤسسة وتفعيلها على جميع المستويات والأصعدة مع لم المتعلمين في بوتقة اجتماعية واحدة كالمجالس التعليمية والفرق التربوية التي تحتل مكانة بارزة في تنظيم الحياة المدرسية وتنشيطها ودمقرطتها، وتتمثل في إبداء الملاحظات والاقتراحات حول البرامج والمناهج، وبرمجة مختلف الأنشطة الثقافية والاجتماعية والرياضية، وتحيين الإمكانيات والتدابير اللازمة لتنفيذها وغير ذلك من الأعمال التنظيمية والتربوية، وإن "اعتماد الفرق التربوية بمختلف الأسلاك كآليات تنظيمية وتربوية لمن شأنه أن يقوي فرص نجاح التغييرات المرغوب فيها، ولضمان فعالياتها وانتظام أنشطتها تحدد بشكل دوري مهام هذه الفرق وطبيعة أعمالها ووظيفتها الاستشارية في تنشيط الحياة المدرسية...." .

ولكن أهم مجلس يقوم بدور كبير وفعال من أجل خلق فضاء مدرسي متجانس ومتعايش نذكر: مجلس التدبير. إذاً، ما أدوار هذا المجلس واختصاصاته؟

تتمثل المهام المسندة لمجلس التدبير في اقتراح النظام الداخلي للمؤسسة التعليمية في إطار احترام النصوص التشريعية والتنظيمية والقانونية المعمول بها، ولن يكون هذا النظام الداخلي مقبولا وفعالا حتى تتم المصادقة عليه من قبل الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين.

ومن الاختصاصات الأخرى للمجلس دراسة برامج عمل كل من المجلس التربوي والمجالس التعليمية والمصادقة على المقترحات المرفوعة من قبل هذه المجالس الموازية وإدراجها ضمن برنامج عمل المؤسسة المقترح من قبله، بله عن تسطير برنامج عمل سنوي يخص أنشطة المؤسسة وتتبع مراحل إنجازه لتفعيل الحياة المدرسية وتنشيطها حسب مقتضيات الميثاق الوطني والمذكرات الوزارية التي تنص على تنفيذ الحياة المدرسية داخل المؤسسة التعليمية في علاقة مع الفاعلين الداخليين والخارجيين.

ومن الاختصاصات الأخرى التي يتكفل بها مجلس التدبير الاطلاع على القرارات الصادرة عن المجالس الأخرى ونتائج أعمالها واستغلال معطياتها للرفع من مستوى التدبير التربوي والإداري والمالي للمؤسسة.
ويقوم المجلس أيضا بدراسة التدابير الملائمة لضمان صيانة المؤسسة والمحافظة على ممتلكاتها، وإبداء الرأي بشأن مشاريع اتفاقيات الشراكة التي تعتزم المؤسسة إبرامها، ودراسة حاجيات المؤسسة للسنة الدراسية الموالية، والمصادقة في الأخير على التقرير السنوي العام المتعلق بنشاط المؤسسة وسيرها، والذي يتعين أن يتضمن لزوما المعطيات المتعلقة بالتدبير الإداري والمالي والمحاسباتي للمؤسسة.

هذا، و يقوم مجلس التدبير بعدة وظائف أساسية ومهمة كتنمية المؤسسة التربوية داخليا وخارجيا، وخلق موارد ذاتية بشراكة مع المؤسسات المنتخبة والمجتمع المدني كشركاء فاعلين أساسيين، ودعم سياسة اللامركزية واللاتمركز، وإشراك جميع الشركاء في العملية التربوية، وتحسين جودة التعليم داخل المؤسسة من خلال العناية بفضائها الداخلي ومحيطها الخارجي، وإعداد برنامج عمل سنوي للأنشطة المزمع القيام بها في مختلف المجالات.

التربية على حقوق الإنسان والمواطنة:

تعد التربية على حقوق الإنسان والمواطنة من أهم الآليات لتفعيل الديمقراطية الحقيقية، فتعريف المتعلم بحقوقه وواجباته تجعله يعرف ماله وما عليه، وتدفعه للتحلي بروح المواطنة والتسامح والتعايش مع الآخرين مع نبذ الإرهاب والإقصاء والتطرف.

هذا، وقد أرست المجتمعات الليبرالية اليوم مجموعة من الحقوق الكونية التي اعترفت بها هيئة الأمم المتحدة وسطرتها في مواثيق تشريعية مدنية واجتماعية وثقافية واقتصادية وإنسانية سيدت الإنسان وجعلته فوق الطبيعة، كما دافعت عن كرامته وأنفته وطبيعته البشرية. بل اهتمت أيضا بحقوق الطفل السوي واللاجئ والمعاق في نفس الوقت الذي اعترفت فيه بحقوق الكبار والمسنين والمدنيين في حالتي السلم والحرب على حد سواء.

وهكذا، نجد وزارة التربية والتعليم بالمغرب تقوم بتعليم ناشئتها مبادئ حقوق الإنسان ومجمل المعاهدات والمواثيق الحقوقية التي سطرتها هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية إبان القرن العشرين، فاعتبرت المدرسة التربوية الفضاء المناسب لتلقين التعلمات والخبرات المتعلقة بحقوق الإنسان. وسارعت الدول الغربية والعربية على حد سواء إلى الاهتمام بحقوق الطفل حيث بادر المغرب إلى إنشاء برلمان الطفل ليعبر فيه الصغار عن مشاكلهم وانشغالاتهم ويقدمون فيه اقتراحاتهم وتوصياتهم.

وعليه، فاختيار الديمقراطية:" كنهج في تدبير الشأن السياسي وكممارسة وتربية أصبح اختيارا لارجعة فيه، بل وأصبح معيارا للاندماج في المجتمع الدولي. وأي مساس به أو خروج عن مبادئه أو خرق لسلوكاته يكون كل ذلك مدعاة للتنديد والعزل والإقصاء وبدهي أن تعرض أية دولة لذلك يعني استحالة أن تحقق تنميتها وارتقاءها والاستفادة مما يتيحه التضامن الدولي."

ويعني كل هذا أن تعليم النشء ثقافة حقوق الإنسان من أهم السبل الحقيقية لتفعيل الديمقراطية المجتمعية والتربوية.

7- المشاكل التي تواجه الديمقراطية التربوية:

لايخفى على الجميع أنه من المستحيل تحقيق الديمقراطية في مجتمع التخلف والكسل والخمول أو في مجتمع مازال يحتكم بقوانين الديكتاتورية، ويسن سياسة الاستبداد والقمع والقهر ضد المواطنين الأبرياء.

فالديمقراطية الحقيقية لاتتحقق إلا في مجتمعات الحرية والإبداع التي تؤمن بالعمل وفكرة التناوب وشرعية الاختلاف ومنطق التغاير، وتلتجئ إلى صناديق الاقتراع لتحديد الرئيس من المرؤوس. وبالتالي، تترجم الديمقراطية في سلوكيات مواطنة واعية إجرائية عملية يستفيد منها كل المواطنين بعدالة وسواسية مع احترام دولة الحق والقانون.

ومن هنا، فمن أهم العوائق التي تحول دون تطبيق الديمقراطية نذكر على سبيل التمثيل: البيروقراطية والجهل والتخلف والخمول والتقاعس والروتين ورتابة الإدارة وانعدام الخبرة وغياب الكفاءة التربوية والإدارية.

فالديمقراطية الحقيقية ليست – كما قال جون ديوي- مجرد شكل للحكومة، وإنما هي في أساسها أسلوب من الحياة المجتمعية والخبرة المشتركة والمتبادلة.

ولايمكن تحقيق الديمقراطية في نظامنا التربوي إذا كان مبنيا على الإلقاء والحفظ الرتيب وشحذ الذاكرة وتغليف المناهج والبرامج والمقررات بالتفكير الأسطوري والماورائي وتغليفه بالأفكار السطحية والقشور الزائفة،كما لاتتحقق الديمقراطية مع مجتمع يتعشش فيه الفقر والبؤس والفاقة والحرمان، وتنعدم فيه العدالة ويقل فيه الخوف من الله وتبطل فيه شريعة الله.
أي إن الديمقراطية الجوهرية لا الشكلية سلوك عملي وتطبيق سياسي واجتماعي عام، وهي كذلك مرتبطة أيما ارتباط بالحرية والمساواة والعدالة والعقلانية والتعايش والتسامح وحب الآخر والتواصل معه بشكل إيجابي وهادف.

8- حلول واقتراحات وتوصيات:

إذا كانت المقاربة الصراعية لاترى في المدرسة سوى فضاء للتطاحنات الإيديولوجية والطبقية وفضاء للتفاوت الاجتماعي والثقافي واللغوي والاقتصادي. فقد ترتب منطقيا واستنتاجيا عن كل هذا أن أدى الواقع المنهار بالمدرسة التربوية إلى الفشل والإفلاس اللازمين، حيث صارت المدرسة عند الكثير من الملاحظين مؤسسة الخيبة والمأساة والصراع الجدلي والتناقضات الصارخة. بيد أن هناك من يعارض هذا الطرح الصراعي، فيعتبر المقاربة الصراعية ذات أبعاد سياسية وحزبية ضيقة تنطلق من تصورات ماركسية أو هيجيلية أو منطلقات ڤيبيرية أو ألتوسيرية، ومن ثم تفتقد هذه التصورات خاصية الموضوعية والحياد والتحليل العلمي المنطقي ومصداقية التحليل المعقلن.

وعليه، فليس من الضروري أن تكون المدرسة فضاء للصراع والتطاحن العرقي واللغوي والثقافي وانعدام تكافؤ الفرص، بل يمكن أن تكون مدرسة ديمقراطية وفضاء للحرية والابتكار ومكانا لإذابة الفوارق الاجتماعية وتعايش الطبقات وتوحيد الرؤى والتطلعات بين المتعلمين.
ومن ثم، على المؤسسة التربوية أن تذيب كل الخلافات الموجودة بين التلاميذ على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي واللغوي، وتحرير المتعلمين المنحدرين من الفئة الدنيا من عقدهم الطبقية الشعورية واللاشعورية وتخليصهم من مركب النقص عن طريق تنفيذ المشاريع المؤسساتية وتقديم الأنشطة للترفيه عن التلاميذ وتكوينهم تكوينا ذاتيا يمحي كل الفوارق التي يمكن أن توجد بين المتمدرسين داخل المدرسة الواحدة. ومن أهم الوظائف الأساسية للمدرسة " إيجاد حالة من التوازن بين عناصر البيئة الاجتماعية، وذلك بأن تتبع المدرسة لكل فرد الفرصة لتحريره من قيود طبقته الاجتماعية التي ولد فيها وأن يكون أكثر اتصالا وتفاعلا مع بيئته الاجتماعية والمذاهب الدينية.".

و لابد أن تساهم المدرسة في خلق علاقات إيجابية مثمرة بين التلاميذ فيما بينهم، وبين المتعلمين وأطر التربية والإدارة، تكون مبنية على التعاون والأخوة والتسامح والتواصل والتآلف والمشاركة الوجدانية والتكامل الإدراكي، ونبذ كل علاقة قائمة على الصراع الجدلي والعدوان والكراهية والإقصاء والتهميش والتنافر والكراهية والتغريب والجمود والتطرف والإرهاب.

ولابد للمدرسة من الاحتكام إلى منطق المساواة وتوفير العدالة والعمل على تحقيق تكافؤ الفرص ودمقرطة التعليم من أجل تكوين مواطن صالح ينفع وطنه وأمته، ويحافظ على ثوابت المجتمع، ويعمل جاهدا من أجل تحديث البلد وتغييره إيجابيا والرفع من مستواه التنموي والسير به نحو آفاق أرحب من الازدهار والرفاهية. كما تعمل المدرسة على تغيير المستوى الاجتماعي والاقتصادي للمتعلمين الذين ينحدرون من منطقة فقيرة، فعن طريق التعلم والحصول على الشواهد والدبلومات يستطيع ابن البيئة الفقيرة تغيير مستوى معيشته والمستوى الاقتصادي لأسرته كما هو الحال في المغرب، حيث تصبح الوظيفة العمومية التي يحصل عليها الطالب الناجح مسلكا للثراء والسلطة والترقي والتسلق الطبقي واكتساب قيم طبقة اجتماعية أخرى. أي تعمل المدرسة على تحسين الظروف الاقتصادية للمتعلم وتغيير طبقته الاجتماعية عن طريق التحلل من ثقافة بيئته الأصلية عن طريق تمثل ثقافة الطبقة الجديدة. وبالتالي، يجرنا هذا التصور إلى رفض ماتذهب إليه المقاربة الصراعية التي لاترى في المدرسة سوى فضاء للصراع الطبقي والتناحر العرقي وحلبة للتطويع الإيديولوجي وتبليغ قيم الطبقة الحاكمة أو السائدة. وهكذا لايجب:" أن يوقعنا هذا الطرح الصراعي في خطى الاعتقاد بتصور ميكانيكي وقدحي لدور المدرسة، أي اعتبارها دوما الجهاز الإيديولوجي للدولة البرجوازية أو الطبقة السائدة بمعنى أنها مؤسسة طبقية ذات وظيفة إيديولوجية. فلا بد من تجاوز هذا التصور الضيق لوظيفة المدرسة الاجتماعية، نظرا لكونها تتمتع باستقلالية نسبية عن قيود وتحديدات المحيط العام الذي تتفاعل معه وفيه، كما تتمتع بنظامها الداخلي الخاص بها، ومنطقها المتميز الذي تشتغل فيه وبه بنيانها".

وما نلاحظه عن المدرسة المغربية من تبعية للمدرسة الفرنسية منذ الحماية إلا دليل على "الانفصامية" التي تعيشها المدرسة المغربية،ومن المؤشرات الحقيقية كذلك على التناقضات الصارخة التي تبرز داخل المؤسسات التعليمية والتربوية، و" يجب مراعاة وظيفة المدرسة في البلدان المتخلفة من حيث إنها تتحدد في سياق التبعية، وهذا مايترتب عنه طبيعة الأوضاع المزرية التي يشهدها التعليم في هذه البلدان، من انعدام العقلانية لافي التفسير ولا في التوجيه ولا في التأطير. وخير دليل على هذا ما يعرفه التعليم ببلادنا من غياب منظور شامل وعام يصوغ الأهداف المعرفية والتربوية ويحدد الوسائل البيداغوجية، وذلك لأننا ورثنا ذلك من الاستعمار وبقي مستمرا دون إعادة النظر الشامل في البنية التعليمية، وكذا في جميع البنيات الأساسية في المجتمع المغربي.

هذا عكس ماتم بالغرب حيث تمكنت المؤسسة من تحقيق نوع من الانسجام والتكامل مع المحيط الثقافي والمجتمعي الذي تندرج فيه، أما بالمغرب فإن " الفصامية" عندنا ماتزال قائمة بين الثقافة المدرسية ككل، وبين الإطار الاجتماعي والثقافي الذي تنخرط فيه. زيادة على هذا، تبقى المدرسة- حسب مصطفى محسن- بمثابة" صندوق أسود" لانمسك علميا بميكانيزمات وظائفها واشتغالها، وتحركها، ولا بالبرامج والنماذج المعرفية والسلوكية السائدة فيها."

وعلى الرغم من كون المدرسة فضاء للتعدد الثقافي واللغوي والتفاوت الاجتماعي والطبقي، إلا أنها تعتبر" عامل توحيد، عامل لم وجمع مختلف الطبقات الاجتماعية وصهر أفكارها وبلورتها بقدر الإمكان عبر خطابها التربوي."

ومن أهم الاقتراحات التي تسعفنا لتحقيق مجتمع تربوي ديمقراطي التركيز على تنفيذ التوصيات التالية:

• تشجيع المبادرات الفردية التي فيها مصلحة للجماعة والوطن والأمة، يقول كلاباريد في هذا الصدد:" علينا في المجتمع الديمقراطي السليم أن نفسح أوسع مجال ممكن للمبادرات الفردية، بحيث تبقى وتستمر وحدها، تلك المبادرات التي يثبت بالتجربة أنها نافعة للجماعة. إن أي قيد نقيد به النشاط الفردي الحر يضعف فرص الاكتشاف الخصيب.وهاهنا أيضا تبين الأفكار التي أتى بها داروين الترابط بين الفرد وبين المجتمع. وقيمة الأول)الفرد) مفيدة مباشرة لحياة الثاني (المجتمع) وعافيته".

• ضرورة الانطلاق من تربية عقلانية فلا يكفي:" أن نجعل هدفا لنا تحقيق الديمقراطية الحقيقية في التعليم. ففي غياب تربية عقلانية تستخدم كل الوسائل من أجل إبطال عمل العوامل الاجتماعية التي تؤدي إلى عدم المساواة الثقافية، لاتستطيع الإرادة السياسية الهادفة إلى تحقيق الفرص المتكافئة أن تقضي على ضروب اللامساواة القائمة في الواقع، و تسلحت بكل الوسائل المؤسسية والاقتصادية. وعلى العكس، تستطيع أن تدخل في كيان الواقع إلا إذا توافرت من قبل جميع الشروط اللازمة لتحقيق الديمقراطية في اختيار المعلمين والطلاب، بدءا من إقامة تربية عقلانية".

• تفعيل ثقافة حقوق الإنسان و المواطنة الصالحة عن طريق تدريس المواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان الدولية والإسلامية لمتعلمينا في المدارس التربوية؛

• نشر ثقافة التعايش والتسامح ونبذ التطرف والإرهاب والإقصاء، ويعني هذا أنه لابد من تعويد ناشئتنا على تقبل الآخر وتجنب العدوان والكراهية والصراع الجدلي وإقامة علاقات تواصلية مع الآخر قوامها المحبة والتعاون والتعايش والصداقة والتكامل الإدراكي؛

• دمقرطة السياسة والمجتمع على حد سواء، وذلك باختيار شرعية الاختلاف ومنطق التعددية الحزبية والالتجاء إلى صناديق الاقتراع لاختيار من يمثل الأغلبية بطريقة نزيهة وشفافة وعادلة؛

• تطبيق البيداغوجيا الإبداعية، وذلك من خلال اتباع ثلاث مراحل أساسية في مجال التربية والتعليم، وهي: المحاكاة والتجريب والإبداع من أجل بناء مجتمع ديمقراطي مبدع ومنتج ومثمر؛

• تطبيق الشريعة الإسلامية والأخذ بمبدإ الشورى؛ لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يساهم في تخليق الديمقراطية وتعديل سلوكيات البشر من الأسوإ إلى الأحسن، فبدون الدين الإسلامي يصعب تمثل الديمقراطية سلوكا وأخلاقا وعملا؛

• توفير الحريات الخاصة والعامة لكل المواطنين؛ فلا ديمقراطية بدون حرية ولا حرية بدون ديمقراطية، ولا تربية بدون حرية وديمقراطية، ولا حرية ولا ديمقراطية بدون تربية سوية متكاملة؛

• تشجيع البحث العلمي والكفاءات القادرة على التطوير والاختراع؛ لأن أساس التقدم واحتلال المكانة المتميزة بين مصاف الدول المزدهرة لايكون أبدا سوى بالعلم والمعرفة وإنتاج المعلومات، فرأس المال الحقيقي لكل الدول في يومنا هذا ليس هو المنتوج الفلاحي ولا كثرة الأموال ولا كثرة البشر، بل هو إنتاج المعارف والعلوم والفنون والتحكم في التكنولوجيا المتطورة.

خاتمـــــة:

وخلاصة القول: يتبين لنا من كل هذا أن التربية ترتبط ارتباطا جدليا بالديمقراطية، فلا يمكن الحديث عن تربية حقيقية إلا في مجتمع ديمقراطي يؤمن بحقوق الإنسان وحرياته الخاصة والعامة، ويؤمن أيضا بالتعدد اللغوي والطائفي والحزبي والعرقي.

ولا تتحقق الديمقراطية في المجتمع إلا إذا لقنت ثقافة التحرر والاعتراف بالآخر للمتعلمين في مدارسهم على ضوء مختلف المقاربات سواء أكانت قانونية أم ثقافية أم اجتماعية أم أدبية أم علمية....

ومن هنا، لابد أن يتعود الطفل على السلوك الديمقراطي في أسرته منذ نعومة أظافره ليرتمي في أحضان المدرسة في جو مفعم بالحرية والسعادة والأمل والتفاؤل ريثما ينتقل إلى أحضان المجتمع ليطبق ما تشربه من قيم ديمقراطية عادلة سلوكا وتمثلا وعملا.

وقد توصلنا كذلك إلى أن ثمة أنواع ثلاثة من الديمقراطية التربوية: ديمقراطية التعلم، وديمقراطية التعليم، وتعليم الديمقراطية.

وقد أبرزنا أيضا أن هناك مجموعة من الآليات لتطبيق الديمقراطية الحقيقية في نظامنا التربوي والتعليمي، فقد حصرناها إجمالا في التفكير التعاوني والعمل الجماعي، واستعمال تقنيات التنشيط، وتمثل البيداغوجيا الإبداعية، والأخذ بالشراكة والجودة بله عن تطبيق الطرق الفعالة، والإيمان بمبادئ حقوق الإنسان وزرع المواطنة الحقيقية في نفوس المتعلمين وناشئة المستقبل، دون أن ننسى دمقرطة المدرسة والمجتمع على حد سواء.

بيد أن تطبيق الديمقراطية في نظامنا التربوي والتعليمي يواجه صعوبات جمة مثل: التخلف والبيروقراطية والجهل وغياب حقوق الإنسان وغياب المواطنة الحقيقية وإقصاء الكفاءات العاملة ناهيك عن التعامل بالغش من أجل تحقيق المصالح الشخصية والمآرب النفعية، والتفريط في مقوماتنا الحضارية ومبادئنا الدينية، وتبديد ثرواتنا سفها وتبذيرا، وتهجير طاقاتنا العلمية والأدمغة المتنورة إلى الخارج أو التخلص منها عن طريق تعطيلها أو تفقيرها أو تجويعها أو إزهاق أرواحها إذا كانت مناوئة أو معارضة للسلطة الحاكمة....

أما الحلول لتحقيق الديمقراطية الناجعة في نظامنا التربوي والتعليمي فيكون بالقضاء على الصعوبات والمشاكل والعراقيل التي ذكرناها سالفا مع التسلح بالإيمان والتقوى والصبر والتجلد، والتحلي بروح العمل والمواطنة الصالحة، والتعايش مع الآخرين انفتاحا وتعاونا وتعايشا وتسامحا.

مصادر ومراجع: [1]


[1

1- الدكتور أحمد أوزي: المعجم الموسوعي لعلوم التربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 2006م؛
2- أمحمد عليلوش: التربية والتعليم من أجل التنمية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 2007م؛
3- الدكتور جميل حمداوي: من قضايا التربية والتعليم، سلسلة شرفات رقم:19، الطبعة الأولى سنة 2006م؛
4- الدكتور جميل حمداوي: من مستجدات التربية الحديثة والمعاصرة، منشورات الزمن، سلسلة شرفات رقم:23، الطبعة الأولى سنة 2008م؛
5- الدكتور جميل حمداوي وعبد الله حرش: الكفايات والجودة التربوية، مطبعة المقدم، الناظور، الطبعة الأولى سنة 2005م
6- جون ديوي: الديمقراطية والتربية، ترجمة لجنه التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، مصر، الطبعة الثانية،سنة 1954م؛
7- جان بياجي: التوجهات الجديدة للتربية، ترجمة: محمد الحبيب بلكوش، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة1998م؛
8- العربي سليمان ورشيد الخديمي: قضايا تربوية، منشورات عالم التربية، الطبعة الأولى سنة2005م
9-غي افانزيني: الجمود والتجديد في التربية المدرسية، ترجمة: عبد الله عبد الدائم، بيروت، لبنان، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى سنة 1981م؛
10- الدكتور محمد مصطفى القباج: (التربية على المواطنة والحوار وقبول الآخر في التعليم الثانوي: تحليلات واتجاهات)، مجلة علوم التربية، المغرب، العدد:32، أكتوبر 2006م؛
11- الدكتور محمد لبيب النجيحي: مقدمة في فلسفة التربية، دار النهضة العربي للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة1992م، ص:240؛
12- مصطفى محسن: الخطاب الإصلاحي التربوي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1999م،
13- مارسيل بوستيك: العلاقة التربوية، ترجمة: محمد بشير النحاس،المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 1986،
14- وزارة التربية الوطنية: المدونة القانونية للتربية والتكوين، إشراف: المهدي بنمير، المطبعة والوراقة الوطنية،مراكش، الطبعة الأولى 2000م؛
15- وزارة التربية الوطنية: دليل الحياة المدرسية، شتنبر 2003م،
المراجع الأجنبية:
16- John Dewey:Démocratie et éducation, Paris, Armand, Colin, 1975,
17 - Micheline Milot et Fernand Ouellet: Religion, éducation et démocratie.Montréal, 1977, 257 pages.

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى