الثلاثاء ٢٤ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم بسام الطعان

أخذها الغمام

عند الفجر تحديداً، قوافل مريضة بداء الجهل والحقد، نصبت أفخاخها لك، وأعلنـت بدم بارد أن الموت قادم.. وعند الفجر بالتحديد، فتحت عينيك العسليتين يا شقراءغسلت وجهك بماء الحنين إلى أمك وأختيك، لثمت وجنة طفلك النائم إلى جانبك، وأنت ممددة على فراشك البارد تطلـعت إلى الفراغ طويلاً، ومع حزن مسحوب من الألم والأسى العميق همست لنفسك: (أرى الدنيا مليئة بالضباب).

قالوا لك ألف ألف مرة وهم يعفرون الليل والنهار بالضجيج والتهديد والوعيد: لقاؤه صعب، أصعب من المستحيل. قلت لهم بهدوء: لماذا؟ لم يأتك الجواب. فقلت لنفسك: الحب قدر كما الموت قدر. ثم قلت للزمان: لا تؤخرني عن ميعاد حبيبي. فقال: لن يموت العزم رغم الظلم.

كنت تدركين أن الموت يتربص بك ليل نهار، يبسط كفه الفولاذية فوق رأسك وقلبك،مع ذلك كالياسمين كنت،وكمهرة كنت، تركضين في منعطفات الشقاء، تفتحين أزرار المنافي برفقة من أحببت،تبحثين عن لقمة هنية حرمت منها طويـلاً،وعن عش يتيم حتى لو كان مستفيضا ًبالزمهرير، كنت مهددة بالتسول والتشرد وكسرالضلوع، لكنك أبداً، لم تعلني هزيمتك، وإنما كنت تبتكرين أغانـي للفرح وللأرض وللإنسان، بينما الحنان يغطيك من رأسك حتى قدميك.

في الصباح المزنر بالربيع الحزين.. أقصد بعد أن اكتــمل الشروق، ليته لم يكتمل، ليته بقي كما هو لأيام كثيرة، أكثر من العصافير التي كانت تزقزق علـــى خديك. أيها الحبق على ضفاف جدول، أيتها الغيوم الحبلى بالمطر، كيف تموت البريئة في عرض الطريق؟! في الصباح خرجت إلى الحقل وتركت طفلك الوحـيد في غرفة صغيرة،جدرانها من طين، وسقفها من أعواد قصب تركته ملفوفاً بقماط من بؤس، ونائماً على سرير من قش، خرجت وأنت لا تدرين أن الحمقى ينتظرونك على قارعة الحقل، بعد أن تأكدوا أن شريكك بعيد عنك، من طرف عينك التي غشاها ضوء الشمس، لمحت جسدين ضخمين، ووجهين بلا ملامح، وأربعة عيون تبرق حتــى في الليل، كانا يحتميان بشجرة كبيرة قريبة من الحقل، أشحت عن عينيك النعاس وحدقت فيهما جيداً، فانشقت مفازة قلبك عن وهاد وجبال شـاهقة، اهتز المنجل المتدلي من أصابعك المصبوغة بحناء الحرمان، التي تجمد فيها رعب سنوات عمرك القليلة، بقيت واقفة للحظات، ثم تقدمت إلى الأمام، وكان اعوجاج سيرك واضحاً كعين الشمس، سارا باتجاهك أيضا، حاصراك، وقفت أمامهما كالغزالة المحاصرة بين ذئبين كبيرين، كان أحدهما يرتجف، ربما خوفاً منك، وربما حقداً عليك وكان الآخـر ينظر إليك دون كلام، دون أي شيء على الإطلاق، تطلعت إلى الأول لأنه كان الأقرب إليك وبكيت بصمت، بالتأكيد بكيت من الفرح، اقتربت منه ونبضــك يجري عتياً كأمواج بحر، لعلك تفتحين في صدره وضميره ركنا للسلام حاولت أن تضميه إلى صدرك، لكنك كنت مربوطة بشيء خفي، ومع البسمة والدموع قلت بهدوئك المعتاد:

ـ أهلاً أخي.. كيف حالك؟

رجّه غضب مرعب، ثم زاغ ببصره عنك متشاغلاً بتأمل الحقل الذي تعملين فيــه مع زوجك لقاء أجر زهيد، تلاقت عينيك مع عيني الآخر، لم تكن عيناه كعيني بومة، وإنما مثل عيني أسير قضى سنوات طويلة في الأسر، فجأة ألقيت بالمنجل, اقتربت منه حتى صرت على بعد ثلاث خطوات، ابتسمت بكل الطيبة التي تحملينها في داخلك وقلت وأنت تمسحين دموعك بيديك الخشنتين المتشققين:

ـ أهلا أخي.. كيف أمي وأختي؟ وكيف ( روكي ) الصغيرة؟

جاءك الجواب سريعاً، أسرع من البرق، حينئذ جفل الطفل، وطارت من حنجرته آلاف العصافير، حلقت في الفضاء عالياً، وراحت تندب حظها وتضرب أجنحتها بوجوهها.

هرب الاثنان كأرنبين مذعورين، وبقيت وحدك تتخبطين برفقة دمك بين الموت والموت، ولكن لا أعرف لماذا كنت تبتسمين وتنادين شيئاً مجهولاً.

دفنك الغرباء في ارض غريبة، دون جنازة أو تابوت أو بكاء، حتى البكاء بخلت به الدنيا عليك يا شقراء، وكانت أمك المسكينة تبلع اللحظة تلو اللحظة حسرة، تندب حظك وحظها، تمزق ثوبها، تنتف شعرها وتضرب الأخماس بالأسداس.

أيتها البريئة في كل الأوقات.. ماذا تفعلين إذا حاصرتك ثعالب الفــجر؟ ماذا تفعلين وأنت لا تعرفين إلا الضحكة الحلوة وتغريدة البلبل.. نامي قريرة العين والآخرة أفضل بكثير من الدنيا.. نامي يا شهيدة فأنت لست ميتة، بل هم الميتـــون، المنبوذون، الخاسرون، السائرون نحو الندم إلى آخر العمر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى