الأحد ٢٩ آذار (مارس) ٢٠٠٩

تـحيــة

بقلم: رمضان حينوني

شيء ما أسال هذه الدموع..

موت صخر أهدر دموع الخنساء، واستشهاد البطل أبكى حنان الأم، لكن دمعتي تسربت من مقلتي دون إذن مني، وأنا واقف كالزعيم أتأمل وجوه العمارات وقمم السطوح ، وفي ذهني آلاف الأسئلة الغامضة، ومئات الصورالمختلفة كأرشيف من القصاصات القديمة.

شيء ما أسال هذه الدموع..

وأنا في هيئتي هذه.. سلاحي على كتفي، وعيناي تتجولان عبر الآفاق البعيدة كصقر جائع يبحث عن فريسة، وجدتني أدخل عالما جديدا.. تسمرت مكاني بينما كانت الطبيعة من حولي تأخذ أشكالا قديمة ليست غريبة عني، وبعد وقت قصير جدا أقنعت نفسي أن الزمن يدور إلى الخلف. ربما هنالك آلاف من البشرالطيبين ممن نقش الدهر على ذاكرتهم أصعب الأوقات قد استوقفوا الزمن، وتوسلوه أن ينصب أمام الملأ شاشته العملاقة تعيد لهم الشريط الخالد الذي لم يدع شيئا إلا سجله في حياة الفقراء والمظلومين.

شكرا أيها الزمن إذ لبيت النداء، فنحن قوم يطيب لنا أن نتذكر.. فكم من رموز للإنسانية بنينا لها تماثيل عز في قلوبنا، وكم من مشاهد خالدة جعلناها أمثلة وأعطيناها مجانا للآخرين.

وعندما بدأ العرض، كانت الأمطار غزيرة، و الدفء الرطب يداعب الأنوف والخدود، وأنا ملفوف في جلبابي البالي المرقع، أقف على بعد أمتار من رفقاء الكفاح.. كم هي حالكة هذه الليلة، وكم تشبه الأصوات التي يحدثها الطقس ضجيج الأشباح في حلقة وهمية !

لا خوف هنا إلا من الهجمات المباغتة..الأشباح والذئاب تحالفنا، ونستأنس بها.. و عندما يقترب رفيقي، و يسلمني فنجان القهوة تعلو من حنجرته نغمة حزينة. أيكون التشاؤم يغزوه؟ أيزحف إليه الظلام بتكرار الأيام الصعبة؟ إن هذا النشيد الذي يردده بصوته الخافت الحزين يعني الكثير لي ولجميع الناس في بلادي، الذين تلسعهم سياط الظلم بلا رحمة.

الموت هنا قريب من الأرواح.. لقد أصبح مقبولا عند أناس يفضلونه على العبودية.. حفاة عراة، يصارعون الطبيعة والعدو وعودهم لا ينكسر ..

(هل تدفئنا شمس جميلة ذات يوم؟
هناك أمم كثيرة مثلنا مقهورة، وجدت نفسها مكبلة بالحديد من كل جانب، منها ما ينتفض محدثا دويا عنيفا، و منها ما ينتظر التاريخ والجغرافيا وحسابات الآخرين .
يقولون إن ملفنا مطروح على طاولة النقاش، وأن شعوبا كثيرة تؤيد قضيتنا..
أخشى أن تطل علينا الشعارات بوجهها المنير، لتخفي حياتها المسمومة ساعة الحسم.. وعلى كل حال، ففي مثل وضعنا يكون العمل هو الحسنة الوحيدة التي تحسب لصاحبها.
وفي هذه الحالة يجب الالتفات إلى شيئين فينا: السواعد والقلوب.. إن الأمم الكبيرة إذا لم تجد فينا المصلحة، أو مكانا للنفوذ، لن تولينا أهمية .. فقط إرادة الشعوب المستضعفة تبدو المنفذ الرئيس إلى النجاة.. إلى سهل خصب و جميل اسمه الحرية.)

هذا النشيد العذب، وبهذه النغمة الحزينة يعجبني.. إنه ينبئنا بفجر جديد. فمن هذه الجبال البطلة التي تجمعنا سنخرج مخططا رائعا لتحرير الشعوب المغبونة من براثن القوى الظالمة...

لا شيء أفضل لحامل البندقية من رفع معنوياته.. فعندما يأخذ وضعا مناسبا ، و يوجه كل إحساسه تجاه حركة مشبوهة ما، و يضع احتمال الموت بين عينيه، يكون عندها مستعدا للبقاء الساعات المتتالية لحماية الأرض.. لحماية ملايين البشر عيونها معلقة نحو هذه الجبال الشامخات الشاهقات.

وفي غمرة التفكير في المصير يسمع الصوت.. بعيدا كأزيز الحشرات. أقف و رفيقي بسرعة، لتبدأ مراسيم الاستعداد في عرض الجبل.. أفرغ ما تبقى من قهوة باردة في جوفي لأنتقل إلى المكان المناسب.

بعد قليل من الآن، سيُرى فجر من اللهب ككل مرة يلتقي فيها الزيت بالوقود.. وعندما تبدأ المعركة لا يستطيع أي شاعر أن ينقل المشهد بإخلاص.. أين عمورية أبي تمام من حرب يرسم الرصاص أشكالها العجيبة، حيث يختلط الجنون بالعقل؟

وحين تتشبع الأرض بالدماء، وتثقل بالجثث، وتدفأ بالنيران، و تصدع بالصراخ، يهدأ كل شيء، ويجد الأسود أنفسهم أمام الغنيمة، يأخذونها ثم يغيرون المكان ونفوسهم نشوى بالنصر.

آخذ وضعي الجديد في المكان الجديد، وبندقيتي على كتفي، وفنجان القهوة إلى جانبي.. أسمع خشخشة بين الأغصان، فأوجه الماصورة نحو القادم ثم أسمع الأغنية الحزينة التي تتسرب كالنسيم إلى خلاياي.. ما أروع هذه الكلمات في هذا المكان بالذات، وفي هذا الوقت من الليل الذي أعطى الإطار الملائم لصورة أبدعها الخالق في عزيمة الإنسان.

وأظل أرددها إلى أن تنبهني قطرات مطر.. يعود المشهد الواقعي إلى ذهني، وأجد نفسي على قمة المرتفع أسمع خشخشة الأوراق تداعبها الرياح، و صوتا رتيبا لصفيحة قديمة على بعد أمتار.

هذه الدمعة التي انحدرت من شعوري تحية لدماء بلادي، وعهد لمواصلة الدرب..

بقلم: رمضان حينوني

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى