الخميس ٢ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩

القطّ الأسود

بقلم: فتحي العابد

أصيب عامر بأزمة بردية حادة في البلد الذي هاجر إليه منذ سنين، مما جعل طبيبه ينصحه بأن يعود ويستقر في بلده الأصلي المعتدل المناخ حتى لا يتعرض مرة ثانية لوعكة بردية أخرى تعرض حياته للخطر، وهو الذي لم يعد يتحمل طقس تلك البلاد البارد أصلا.

حزم أمتعته وعاد إلى بلده الأصلي، وهو صاحب الأسرة العريقة والمال الوفير. كل هذا لم يلهه عن اعتلاء الفضائل، ولم يتكئ على تاريخ أسرته التليد، بل شرع ببناء وتجديد صرح مجده بيده بعد رجوعه إلى هناك.
في غداة يوم مغبر كثير الرمال، وطأ عامر من غير قصد ذيل قطّ أسود. ماء الحيوان مواءا مزعجا ثم ولى هاربا، تشائم الرجل من ذلك الحيوان، وبعد بضع ساعات وقع عامر في براثن ألم لا يطاق، فحمل إلى طبيببارع لمحاولة إعادته إلى رحاب العافية.
جلس عامر مستأنسا بثرثرة الطبيب وهو يداويه، ومع تعجبه لكثرة أسئلته عن علاقته بعالم القطط السود، وماألحقته له من أذى، فقد أجاب بعفوية أنه يتنجس من هذه الفصيلة ويستنكف منها، بل ويمقت تملقها.
فحصه الطبيب مليا ثم همس في أذنه وقال له: لولا حساسيتك من القطط السوداء لغبطتك على عافيتك!، ضحك عامر وقال: إذا كانت القطط السوداء سبب أسقامي فشفائي مؤكد بحول الله!.

نسي عامر بعضا من أوجاعه وعاد إلى حياته مخترقا عباب الصعاب، زارعا الآمال في أفئدة من حواليه. وفي يوم لاأراك الله مكروه، غريب من صبحيته، أقبلت سحابة سوداء، فاستبشر الناس وقالوا هذا عارض ممطرنا. أظلمت أرجاء الدنيا، وهطل المطر عنيفا عاصفا، كأن بحرا سماويا قد انكفأ على الأرض، فالتجأ الناس إلى مخادعهم مرعوبين فزعين بما أتاهم الله.
بعد أيام لم يروا مثلها مطرا كتلك التي نزلت، ورعود وبروق تخطف الأبصار تقهقرت الغيوم وبزغت الشمس، التي سرعان ماتوارت خلف الجبال. هرع الناس يتفقدون ببيوتهم وأملاكهم ومزارعهم، فوجدوا أفواجا من جراء القطط السوداء تملأ أفنية الدور، والأسطح والأنهج، والمزارع، فتحير الناس وتعجبوا، وطغى حديث الجراء على ما سواه، خرج عامر مستطلعا، فصدم بمنظر الجراء المنتشرة كالجراد، وكلما التقى جماعة من جيرانه سمع تفسيرا مختلفا لهذه الظاهرة، إلا أن أغلب الناس أشاروا إلى أن هناك ثمة علاقة ما بين عفس عامر ذيل القط وتلك الجراء، وأن السحابة السوداء هي التي أتت بهم إلى عالمهم. أنصت من غير تعليق ثم عاد إلى منزله مهموما حزينا. تناسى الناس أمر هذه الظاهرة، وتقبلوا الواقع من غير اكتراث، بل أن فئة منهم استحسنوها، إذ اختفت الفئران والجرذان من الأحياء والطرقات.

إلتقى عامر الطبيب الذي داواه بعد مدة في منزل أحد الشيوخ، ودار حديثهما عن حساسية عامر على تلك الحيوانات، وعلاقتها بانتشار كثرة السعال عند الناس، مما جعل العيادات والمصحات تخلوا من اللقاح المضاد. التقط الحديث شرطي يجلس قربهما، وحكى عن خطورة التجوال بعد الغروب لانتشار القطط السوداء الهائجة في ساحات المدينة وأنهجها، وذكر لهما روايات الضحايا عن شراسة وهمجية القطط المهاجمة، وكيف أنهم لم يتركوا طائرا يطير بجناحيه أو إنسان إلا وحاولوا سلبه أو قتله، كما تحدث عن خوف النساء والأطفال، وقلق الآباء المنتظرين لأولادهم.

كانت أحاديث أبناء هذه المدينة العالقة في صخب الهراء والمواء اجترار وصداع يومي، بعد أن تحطمت آمالهم، وهجرهم النوم، وجثم عليهم السهاد، إذ انحسر أغلب الناس في بيوتهم.

اعتلت عامر كوابيس وهموم جراء ماحلّ بمدينته وأهلها، فرجع إلى شيخه يستنصحه، فنصحه بأن يغلق الباب عن نفسه وينكب على إنشاء جماعة من عشاق التطهير، تجتهد في التنقيب داخل القلوب وتنقيتها، وتصحيح النوايا وتلقيح الأرواح، بعقاقير مضادة للسعال،محذرا إياه بأن فئته ستكون قليلة، وتقف ضد تحقيق غايتها مجموعتان: جماعة مستلبة، أسلموا أمرهم إلى جولة الهراء، ووقعوا تحت نير القهر والجوع، وجماعة استثمرت الشقاء فأثرت وأتُخمت...

كان عامر يعلم أن الناس لا يغادرون منازلهم نهارا، قبل تزودهم بقفة شحم وهراوة، عسى أن يحفظوا كرامتهم وشرفهم، وقد تألم كثيرا حين سمع أن الطلب قد تضاعف على دمى القطط السوداء وصورها، وأن الأسواق ملأت بالأقنعة والذيول القططية المتعددة الأشكال والأحجام. أطرق عامر صامتا مفكرا في كلام شيخه، ثم سالت دمعتان صامتتان حين أبلغه أحد أصدقائه، أن المتملقون أصيبوا بداء الجرب، وأصبحت عدواهم سريعة الإنتشار، إذ اختصوا هم ومن دار في فلكهم بتشمم الأخبار، والتقاط أي حديث أو همس يشير إلى خطر أو نجاسة القطط السوداء. وأن التملق وصل حدا جعل الخطيب يفتتح كلامه بمواء طويل، والشاعر يلقي شعره هراءا. أما الفنونفقد انقلبت إلى جنون، وأخبره كذلك أن شاعرا إقترح إجراء مسابقة لتأليف ديوان شعر في مواء القطط، حيث أشيع عن هذا الأخيرأن والديه كانا قطّين سائبين دخلا المدينة مع السحابة السوداء.

عكف الناس في المساجد مبتهلين متضرعين أن يرفع الله عنهم ماحل بهم من ويلات، وقرر عامر الرجوع إلى بلاد الغربة، وأن يموت بردا أهون له من أن يموت تملقا، بما أنه غير قادر على تغيير شيئ، خاصة بعد مارأى بعينه ماألحقته تلك الحيوانات بأملاكهم من دمار، وروائح ناتنة منبعثة منها، ولم يستنكر عليهم ذلك أحد. وبدأ بتجهيز نفسه لمغادرة بلاده،والرجوع من حيث أتى، لكن حدث أن عادت الأمطار وكثرت حتى صارت فيضانات، وجاءت معها غرابيب سود ترمي القطط بحجارة من سجّيل. غيض الماء في جوف الأرض، وغيضت معها حتى القطط، إلا القليل الذي آثر البقاء متنكرا بهيئة البشر.

احتفلت المدينة بنهاية القطط السوداء، وخرج الناس في الشوارع فرحين مهللين، وكان عامر يرقب الجموع وهي تغني وترقص في الساحات العامة، حامدة الله أن منّ عليها بمحو العصبة الظالمة، وهو يفك حقائبه بعد أن قرر البقاء..

بقلم: فتحي العابد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى