الاثنين ٣١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٥
بقلم أحمد محمد الرحبي

تحولات

دخلت زينة الأرملة منزلها وأوصدت خلفها الباب. وضعت سلة السوق على طاولة المطبخ ثم وقفت عدة دقائق تتفحص بيديها ما جلبته وفكرت: "البطاطا أفضل مما كانت عليه العام المنصرم، جيدة ونظيفة.. لو تظل هكذا دائما!". ثم تمتمت وهي عائدة إلى السلة بعد أن وضعت البطاطا في أحد الرفوف: "من يعرف.. ربما من الأفضل هكذا، موسم جيد والآخر ليس كثيرا، طعمها يصبح أشهى، من يعرف؟!". تناولت ما تبقى في السلة ووضعت كلا في مكانه المخصص معلقة على كل شيء: تارة بأنه أصغر مما يجب وتارة بأنه أغلى أو أرخص مما كان عليه حتى انتهت إلى جيب في ظهر السلة، فتحته وتحدثت بصوت واضح: "والآن دورك أيها البذر". أخرجت ثلاثة أكياس بحجم الكف ووضعت كيسين على صحن فوق البراد ثم خرجت من المطبخ بواحد.

كان صباحا ربيعيا مشرقا، وكان هواء المحيط يعبث بأفكار العجائز الجالسين على شرفات المنازل. جلست على أريكة في الشرفة الملحقة بغرفة النوم وباشرت في تقشير البذر.. بعض منه مجوف بلا لب، وهناك الذي نخره العفن، وعندما تلذعها مرارته وهي سارحة بأفكارها، يلتوي وجهها فتبصق به في إحدى زاويا الشرفة. بعد ساعة من جلوسها رفعت الورقة التي تكوّم عليها تل هرمي من القشر وفكرت" لماذا دائما وأبدا يوجد بين كومة القشر حبات غير مفتوحة؟!". في المطبخ أعدت صحن حساء وجلست ترشف منه حتى آخر قطرة، مؤكدة لنفسها عكس ما تردده برامج الصحة في التلفاز بأن البذر يقتل الشهية وقالت: "لا يقتل شيئا، وفوق ذلك يساعدني على التفكير"، ثم عادت إلى الشرفة بكوب شاي. كان بعض القشر ملقى على الأرض، وحبة واحدة غير مفلوقة في وسط الطاولة. مسكتها بين إصبعيها وفكرت مبتسمة" يدفعنا إلى التفكير لتنجو بعض حباته من الأكل.. لا يوجد شيء بلا مقابل!".

كانت نصف متعلمة، تداوم على قراءة الصحف، وهي عادة ورثتها من زوجها الراحل. لا تعير انتباها إلى أخبار السياسة فأحزانها تكفيها: ترملت في منتصف العمر ثم هاجر الابن إلى بلاد أخرى تاركا إياها في قبضة الوحدة ولوعة الشوق. كل صباح تحمل سلتها وتخرج إلى السوق وفي رأسها يقين بأن السوق، ولو كان صغيرا كسوق مدينتهم، إلا أنه يخبئ دائما ما هو جديد، ثم تقضي صفحة نهارها بين المطبخ والشرفة. وما أن يأتي المساء، حتى تقع فريسة للهواجس وثقل الزمن، وتبدو، وهي تسحب خطاها، كأنها عجوز في أرذل العمر.

على مرمى حجر من مكانها، وفوق رصيف الكورنيش الذي يفصل بين منزلها والشاطئ، انتصبت لافتة هي الأكبر من نوعها في المدينة، وقد كتب في جزئها الأعلى : المهرجان الثقافي التاسع، في الذكرى الألفية للمعري، وفي الوسط رسم تشكيلي للشعار، ثم، في الأسفل، قرأت وهي تمسح دمعتين سالتا منها: تنظيم بلدية المدينة. دخلت منكسرة إلى غرفتها وتمددت على السرير وهي تجهش في البكاء، متذكرة زوجها الذي عمل موظفا في أرشيف البلدية.

أيقظها رنين الهاتف فوثبت إليه راكضة. بيد أن الحزن هجم على قلبها وهي تسمع في الطرف الآخر صوتا غير ما كانت تتمناه .

كان المتحدث زميل زوجها في العمل، وكان اتصاله – كعادته نهاية كل شهر- ليذكرها بموعد راتبها الاجتماعي، وطلب منها، بعد مقدمة قصيرة، بأن تستضيف في بيتها صديقا له جاء زائرا للمهرجان. وشرح لها بأنه شاب طيب في عمر ابنها وبأن كل الغرف في الفنادق القليلة حجزت للزوار الرسميين. وافقت من غير أن تشعر بما تقوله، ودخلت المطبخ بخطا ثقيلة ثم خرجت بكيسي البذر وجلست أمام التلفاز مشغولة الفكر بابنها الذي تأخر اتصاله.

في المساء، جاءها زميل زوجها برفقة الضيف، واضطر بأن يعيد ما قاله في الهاتف حين وجدها تنظر باستغراب إلى الشاب. أفسحت له الطريق من غير أن تخفي اضطرابها ، وأشارت إلى الغرفة التي سيسكنها وإلى الحمام والمطبخ ثم دخلت غرفتها وأطفأت الضوء.

تقلبت كثيرا في تلك الليلة، وأصاخت سمعها إلى أية حركة، وعدا صوت صنبور الماء الذي انفتح مرتين ثم صمت، لم تلتقط أي صوت آخر. وحتى ساعة متأخرة، ظل يحز في نفسها بأن رجلا بعد زوجها ينام في البيت، وأخيرا، نامت بعد أن استقر في رأسها بأن ترد المبلغ الذي أضافه زميل زوجها، وتعتذر له عن تأجير جزءا من بيتها لغريب بأي ثمن كان.

في الصباح دخلت المطبخ وسخنت القهوة ثم جلست ترتشفها بنفس قلقة وكأن حلما عدوانيا تسلل إلى سريرها واغتصب راحتها. واكتشفت، وهي تغتسل، بأنها المرة الأولى التي تدخل فيها المطبخ قبل دورة المياه، واكتشفت أيضا أنها لا تذكر مرة بدأت إفطارها بالقهوة..

طفقت تذرع الشقة ذهابا وإيابا، وتدخل الشرفة ثم تخرج منها من غير أن تنتبه إلى المحيط المتلاطم أمامها. وتوقفت أكثر من مرة أمام باب الغرفة الموصد على الغريب وأمالت برأسها ناحيته، بيد أنها كانت تبتعد عنه خائفة وكأنها ارتكبت جرما ستعاقب عليه آجلا أم عاجلا. دخلت غرفتها ثم الشرفة وتهاوت متهالكة على الأريكة يخامرها شعور بأن حياتها تدخل طورا جديدا، وأن شيئا بحجم المحيط ليس بوسعه غسل ما أقدمت عليه. جلست حاسرة الرأس، حزينة القلب، مضطربة كشجرة هرمة تدفعها الريح من كل اتجاه، وعبرت من أمامها ذكريات مع زوجها الراحل، فأحست بدموع حارقة يكسوها العار تصعد من روحها، غير أنها تراجعت قبل أن تفيض من عينيها عندما تسلل إليها من الغرفة المجاورة لحن أغنية قديمة، سرعان ما حوّل ذكرياتها إلى جهة أخرى.. مشرقة وهواءها عليل.

كانت الأغنية عزيزة على قلب زوجها حتى نهاية عمره، فشردت بذهنها وهي تردد مقاطعها، وذهب عنها شعور الذنب ليحل محله لوم ذاهل من نفسها المتطيرة. وعندما سمعت صرير باب الغرفة المجاورة، اندفعت خارجة بخفة طير حبيس سرح إلى سبيله.

كان هو قد دخل الحمام ففكرت في تحضير إفطارا لهما، وعندما أحست بخروجه، سبقته إلى الممر ودعته إلى صالة الطعام.

في الصالة، كما في باقي الغرف، لم يكن هناك ما يشير إلى أن زوجها الراحل كان أكثر من موظف في إحدى المصالح الحكومية. فاختيار الأثاث وأماكن وضعه تعكس روحا كسولا سحقها روتين العمل اليومي وكبل عمرها أبراج الملفات الرسمية، وكان كما لو أن أية حركة منه خارج الروتين ستقوض تلك المملكة الورقية الكئيبة على رأسه هو دون سائر الخلق.

جلس قبالتها أمام طاولة الإفطار، وتمايل على الكرسي وهو يقلب عن عبارات الشكر المناسبة، بيد أنها أحست بما يعتمل في نفسه، فقررت أن تقطع عليه أفكاره، وتكشف له منذ البداية بأنها تضيق ذرعا من الكلفة.

  ما هي حكاية المهرجان؟ إن كل ما أعرفه بأنه يبدأ مع بداية الربيع.. سألته وهي تنظر من النافذة إلى لوحة الإعلان في الشارع.

أما هو فقد بدت على وجهه ملامح مستخفة بالسؤال، غير أنه استدرك نفسه وهو يرمق الأرملة بزاوية من عينه، وتحدث كمن يسر إلى نفسه:
  مهرجان عادي يقام كل عام في مدينتكم الجميلة.
  هل أنت واثق من ذلك؟.. سألته بنبرة قوية، فتبادر إليه بأنها مختلة العقل. وقال بصوت مضطرب:
  ربما .. أظن ذلك.. غير متأكد! ثم أطرق برأسه على طبق البطاطا المسلوقة أمامه.
  أنا أيضا غير واثقة من ذلك، تارة تبدو لي مدينة جميلة ومسالمة، لا سيما في موسم الربيع، وتارة أخرى تتحول إلى مدينة موحشة، قلقة، وكأنما تخشى أن يبتلعها المحيط بغتة وبدون سابق إنذار.. صمتت الأرملة خشية أن تسبقها الدموع لو أنها واصلت الكلام. بينما تحول تشكيكه في عقلها – بعد أن اكتشف سوء فهمه – إلى عاطفة أحس بها تنهمر في داخله. بعد قليل أضافت لتبدد سحابة الحزن التي تسببت فيها:
  من هو ذلك الرجل الأشيب في لوحة الإعلان بعمامته البيضاء؟
قرر حينئذ أن يخلع عنه الحذر ويتحدث معها كما لو أنه بجانب تلميذة نجيبة:
  أبو العلاء المعري.. لا شك بأنك تعرفينه. الشاعر والفيلسوف الأعمى. ألف عام مر منذ وفاته، ولكن فكره مازال....
تحدث الشاب كثيرا دون أن ينظر إلى وجه الأرملة الممتقع. وعندما توقف، ران صمت محرج بينهما، وصعد صداع خفيف إلى رأسها. ثم قالت وكأنها تعلن – بطريقة ما – عن انتهاء ساعة الإفطار:
  إنك تقول كلاما ذكيا يا ولدي .
لدى خروجه سألها إن كانت لا تمانع بزيارة بعض أصدقائه إلى البيت، فأجابته موافقة، بتلويحه خفيفة من يدها مع انحناءة جانبية برأسها.. مثلما تفعل الأميرات في السينما عند رؤيتهن للملك.

ظلت لأكثر من ساعة تنظر في سلة الخضار، وأحست بأن جدارا يحول بينها وبين الخروج إلى السوق، ثم أقنعت نفسها- أخيرا- بحقيقة أن البراد مملوء بالطعام، وبأنه لا وجود لحاجة تدعو للذهاب إلى السوق كل صباح. دخلت غرفتها وجلست على السرير. لم تكن لديها رغبة في الجلوس على الشرفة، فتمايلت في جلستها وأحست بالصداع يثقل على رأسها. تمددت على السرير واستسلمت لإغفاءة قصيرة.. حلمت بشيخ أعمى يعتمر عمامة بيضاء. كان واقفا وسط الشارع بينما المركبات تعبر مسرعة من جانبيه، وفجأة هجمت شاحنة وعبرت فوقه، فشهقت وهي ترقب المشهد من شرفتها، ولكن الشيخ ظل على وقفته وكأن شيئا لم يحدث، ثم أشاح إليها بوجه قوي صارم وقذف ناحيتها بعصا كان يتكئ عليها..

أفاقت على صوت ارتطام، وتألمت كما لو أن خنجرا تغرز في صدرها. قامت من السرير وهرعت إلى الغرفة المجاورة.. هناك، وجدت بأن الشاب قد أهمل إغلاق النافذة، فدفعتها هبة ريح قوية أطاحت بصف من الكتب كان قد جلبها معه. أغلقت النافذة وجلست تلملم الكتب وتعيد صفها على الطاولة، بينما أخذ الصداع يضغط على رأسها، ويزيد من وتيرته مع كل انحناءة لالتقاط كتاب أو ورقة. واستعادت صور الحلم فتساءلت: "من تراه يكون، ولماذا بدا غاضبا، وماذا يقصد حين رمى إلي بعصاه؟. في الوقت نفسه كانت تضع كتابا على الطاولة وتلتقط آخر قرأت عنوانه واسم المؤلف في صدر الغلاف "أبو العلاء المعري" فتذكرت ما قاله الشاب وحديثه عن الشيخ الأعمى.

وعندما جاء المساء، لم تثقل خطواتها كما يحدث دائما حين يغشاها الوله على ابنها ويتمدد شعورها بالوحدة. كان إحساسا لم تعرفه من قبل هو الذي يضغط على كيانها، قلقا يعصف بأركان نفسها كما لو أنها سفينة على وشك الغرق. وحينما سمعت جرس الباب، مضت متلهفة لتفتحه فدلف الشاب مع أصدقاءه، ثم دخلوا الغرفة وأغلقوا الباب. جهزت لهم الشاي والحلوى ثم آوت إلى غرفتها الملاصقة. لم تنم بطبيعة الحال، وبقيت على السرير مفتوحة العينين، وظل ذهنها منفعلا بأحاديث الشبان، فعرفت بأن أحدهم يزاول الرسم، والآخر كاتب، في حين قل ما سمعت صوت ثالثهم. بيد أنه قال كلاما لطيفا على السمع والنفس. وعلى طاولة الإفطار - التي نعم بها الشاب كل صباح – سألته عن مهنة صديقه قليل الكلام، فأخبرها بأنه شاعر، ولم تسمح له بالخروج قبل أن يشرح لها ما عسر من أحاديث ليلة الأمس.

توالت أيام المهرجان وأوشكت على الانقضاء، ودخل بيت الأرملة أصناف من الناس كانت تجمع بينهم أحاديثهم الذكية (كما يحلو للأرملة أن تصفها بعد كل أمسية). وفي اليوم الأخير، ودعت الأرملة زينة ضيفها وشدت بثقة على يده ثم آوت إلى فراشها.

وفي الصباح أخذت السلة وخرجت إلى السوق. عرجت على المكتبة ثم أخرجت من جيب في ظهر السلة ورقة سجل عليها عناوين لكتب ومؤلفين سمعت عنهم... وعند عودتها البيت، شاهدها معارفها من الباعة وهي تنوء تحت ثقل سلة الخضار التي امتلأت كتبا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى