الثلاثاء ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم زكية خيرهم

اعتذار

حلقت في تلك الآفاق البعيدة عن عاصفة الصمت وغيوم الابهام، ومازالت تعلو بعيدا في ذلك المدى، هاربة بغربتها التي يمزقها صقيع الكلمات المتلعثمة بكل ثقة. كلمات أبت أن تنبس بلب الأشياء وتعترف بحقيقة الأحداث، مكتفية باصطفاف متناسق، مشكلة مجموعات من الأمثال والعبرات، متغاضية عن جمالية الأشياء وواقعها باستعمال كل انواع الألوان"الباردة"في تهذيب وانسياب. فتراها أحيانا بلون الحر المحرق والصقيع الدافئ وأحيانا أخرى بلون البركان الهادئ والرعد الصامت. لم تكن تريد إلا سلام الروح وشفافية الأشياء. اختنق الصمت بين زركشة الكلمات المثرثرة في تأنق عن قيم الانسان وصلب الإيمان. عن قسوة الزمان، عن رحمة ورأفة وغفران، عن أمراض وأحقاد سببتها علل العقد، عن بهتان صادق وصدق كاذب، عن خوف وضياع في رحم الأزمان.

كلما تعلو بعيدا محاولة أن تسبح بروحها في ذلك الفضاء بعيدة عن كل أنواع الحر، تتمايل بها نسمات الشرود في سكون الصمت. تنظر من ذلك البعد المحلق أحيانا تختفي بين الغيوم وأحيانا تتيه بين تلك المجرات. فجأة يدوي صوت كالرعد فتفقد توازنها فلم تلبث إلا أن تجد نفسها تجلس على قارعة الطريق. التفتت يمنة ويسرة. سكون مخيف وصمت مميت واشواك مترامية هنا وهناك.... اختلطت عليها الفصول فأصيبت بزكام التيه فاختنق البكاء في ارتعاش وخوف من منظر تلك الأشياء.

يظهر ضوء على مرأى تلك الرياح، ورغم العواصف وغبار الرمال من كل الجهات التي تحجب الرؤية، ينبعث صوت هادئ من اللامكان ويتجه في شوق مفتعل للاقتراب من الغموض وفك طلاسم الألغاز. تستقبله بهدوء متجاوزة جبن كلماته رغم وقوف روحها بعيدا في فرح مفتعل وبكاء مبتهج. لا شيء أجمل من ساعات الصفاء. لم تكن تر إلا نظرات تتوسد الشرود، وأحيانا تخترق المكان. اصطكت رعشة على تلك الاريكة المسكونة بالخوف والقلب يتململ في حزن على تلك المساحات التي تفترش السراب. تعبر الماضي والماضي يعبرها وحاضرها يشهق بتلك الحكاية. حكاية روح قلقة منذ الأزل، ومازالت تنزف أشباحا في كل خطوة مجرجرة كآبتها الآثمة.

يقترب الضوء رويدا رويدا إليها. تتوقف عن توترها. يلثم يدها ويبتسم. وبين المسافات والأحلام المهتزة في ساعات حبلى من العقد المزيفة بالكذب، المنمقة بالافتعال وغطرسة تلك"الشاهقة"إلا من الكلمات المسنة بشيخوخة الكوابيس في الليل وفي النهار ولا ترتاح إلا بعد فحيح الحروف التي تنقلها عبر الأثير لتلسع بها كل شيء ما عدا واحد واثنين وثلاثة والباقي تبيعه في سوق النخاسة بأصفار من القذف التي تدور في حلقاتها اليومية الفارغة.

فراغ يركض حافيا بين الأشواك والحفر، ممارسا هواية الغيبة"الإيتيكيتية"يترنح باستنكار ويخطو بتشدق على سجاد من حرير وفي يده ساطور خاص لتحطيم كل أنواع الجدار حتى وإن كان من حديد. نجح الفراغ رغم فراغه ورغم ذلك لم يشفى من عقده. بل مازال يتمادى يحرّف ويحرق ويجرف معه كل شيء جميل... لم يبق شيئ... كل شيء راح واندثر. فلم يبق إلا الصمت الذي يرتقب الاعتراف.

جلست مقرفصة تحيطها صدى الكلمات الملونة بإيقاعات ورنات، ترقص في ظلام منغلق بالسواد. وفيما هي تتمايل مع إيقاع الهروب من الحروف تمتد تلك اليد من ذلك الضوء فلم يكن بوسعها إلا الاعتراف.

أنا الجرح الآثم يعتذر لتلك السكينة التي غرزت جلدي فبللها دمي...انا تلك الدمغة الآثمة تعتذر لتلك الحجرة اللقيطة التي انهالت على جبهتي... انا ذلك العشاء الذي مازل يطحن في بطن ذلك القرش الذي لاكني بدون اسنان. أعتذر عن الارض التي زلزلت وعن أثقالها التي سالت وعن وديانها التي طفحت ومازالت....وخطواتي في غفلة لا علم لها ولا خبر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى