السبت ٢٥ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم زياد يوسف صيدم

أمنيات رجل مختلف (5)

أفاق من نومه متأخرا كعادته .. توجه للمرآة يطمئن على وقع تجاعيد الزمن على محياه، أو كأنه يتفحص ساعات نومه من تقاسيم وجهه ، سأله الشخص المقابل في المرآة قائلا:

 ألم يحن بعد ميعاد عودتك!، لقد طال سفرك و ترحالك، ألا من تذكرة عودة بلا إياب؟..

وهل اشتكيت لك يا هذا، لكي تصبحني بهذه السيمفونية الفاشلة، والتي لم تكتمل حروفها بعد!

 أنا أسف يا صديقي، لم يكن قصدي إزعاجك ولكن... قاطعه أحمد عابسا وقد أدار له ظهره متجها صوب المطبخ، طالبا لنفسه فنجانا من قهوته المفضلة، وقطع من بسكويت كعادته اليومية، فقد اعتاد منذ سنوات على رجيم صحي معين ، حيث يكتفي بوجبتين أساسيتين خلال اليوم ..

أشعل سيجارته الثانية فور انتهائه من تناول قهوته، والتي يفوح منها رائحة الهيل ، ولا تقربها بضع ذبابات تحوم على رزقها، فهي قهوة بلا سكر، اعتاد تناولها في فناء المنزل الجانبي، بجانب شجرة الليمون وارفة الظلال، ثم انطلق احمد على موتوره ، تلك الهواية القديمة المتجددة، في نزهته اليومية، عبر طرق جانبية تحفها الأشجار وبانوراما من الطبيعة الخضراء، رائعة في سحرها وعبقها، تقود إلى شاطئ البحر متنفسه وملهمه عبر سنوات حياته، فيتنفس نسيمه ورائحته المنعشة، فيمكث بعضا من الوقت، ثم يعود راجعا إن لم يصادفه احدا من أصدقائه، أو معارفه.. يدخل بيته، فتقوده قدماه حتما فينظر إلى صديقه في المرآة مرة ثانية، فيجده فرحا،منتشيا، منشرح الوجه، هادئ المزاج، مبتسما، فيشير له بإبهامه: والآن يا صديقي ماذا بعد ؟ يجيبه مستهزأ :

 آه.. نسيت أن أعلمك أمرا قد يكون سقط سهوا عليك ! أو لم يخطر ببالك ؟ من كثرة ما يجوب بفكرك هذه الأيام..

ما هو ؟وكيف هذا ؟ نعم، صدقت يا صديقي، فحتى ذاكرتي مؤخرا لا تساعدني كثيرا.. فهل أعلمتني به ؟..

 أراك عجولا ..لاباس، هل تعلم بان سناء سألت عنك كثيرا، وأن جوالك المحمول الذي تتناساه متعمدا عندما تخرج في نزهتك بعد استيقاظك، كاد أن يتفجر من الرنين والاهتزاز ..

سناء .. لا لا، باعتقادي أن هناك خطئا ما، فقد اختفت سناء فجأة، ولم تعد تنير شرفتها، أو أنها تختار أوقات لا أستطيع أن أكون فيها حاضرا ..أو أنها...؟

 لا تكمل يا صديقي .. لن أتناقش معك حول امرأة قررت الهروب أو الاختفاء.. أتبعها بصرامة بدت على وجهه وحزن في عينيه ، يستذكر حبيبته سناء التي كانت تعشق الياسمين، بينما هو يبحث عن عقده المفقود، الذي نسجه من ورود الياسمين والجورى فتجسد مع حبيبة، أحلام المستحيل التي حطمت القيود والمسافات !.. التفت إليه قائلا:

أراك شامتا يا صديقي أهكذا هم الأصدقاء ..

 لا أسخر منك ، ولا أنا بشامت ،ولكنى ما زلت أجهلك حقا،لا أفهمك حتى الآن !، فأنت لا تبدى ندما، أو حتى أسى، ولم أر منك ما يوحى بحزن وكآبه، ولم أشاهدك منزويا متكدرا عابسا، تتلاحق أنفاسك ضجرا.!

يرمقه احمد بنظرة جادة، لم تعجبه طريقة صاحبه بالكلام.. ويمضى فورا صوب جواله المحمول، يلتقطه بعصبية، يفتش عن اسمها بلهفة، فقد فطن إلى أن وفاء اليوم ستدخل المستشفى لإجراء كشف طبي بالمنظار، سترقد لثلاثة أيام متوالية ليقرر الأطباء لاحقا ما يلزمها .. فتش بعناية ، كان يكرر النظر متفرسا أي أثر لها ..لم يجد أي رسالة أو مكالمة منها ليطمئن قلبه وفكره عليها.. يبدأ في إرسال رسائله القصيرة للاطمئنان عليها، وفى نفسه يتوسل متضرعا إلى لله أن يرحمها ويخفف عنها .. فهو حبيس في سجن كبير غريب وعجيب، محكم إغلاقه .. مقيد بالمسافات البعيدة والظروف القاهرة في بيئتيهما التي تشابهت!، انتظر ساعة على أحر من الجمر، لم يأت رد منها أو إشارة .. توتر، اضطرب توازنه، شعر بضيق في أنفاسه، لا يكاد يبتلع ريقه فقد أحس بتصلب في حنجرته، وباختناق يطبق على صدره.. وهو الذي قبل قليل كان يتنفس نسيم البحر وهوائه العليل .. أدار رقمها .. لا إشارة فيه ولا رجاء، صامت كالأموات في القبور.. وما أن تذكر القبور حتى اصفر وجهه، وتلعثمت خطواته، أحس بثمالة في رأسه وثقل مستهجن !.. انتقل إلى صندوق العجب ينقر أزراره الكثيرة .. يبحث عن إشارة أو أي شيء يبلج صدره الملتهب، و خوفه المتصاعد، و هواجسه المتزايدة التي ذهبت به بعيدا.. حتى تخيل أن وفاء حبيبته قد تذهب في تلك الزيارة ولا تعود ثانيه ؟.. نعم يتخطفها الموت وهو حق على كل إنسان، لكنه يرفضه بكل جوارحه وكيانه لها .. يريد لها الخير والسعادة، لا الموت وألا عودة.. بينما هو في اضطراب يعصف بجوارحه، فيقتلع تركيزه ويهوى بصبره على غير عادته .. وإذ بسيمفونية كانت قد أُعدت خصيصا للألعاب الاولمبية الألمانية، والتي تحولت لتصبح لاحقا شعارا للشبيبة الهتلرية.. تقرع أذانه بصخب محبب إلى قلبه، تبشر برسالة جديدة .. يتهلل وجهه .. يبتسم .. يقهقه بغبطة وحبور..ينظر إلى السماء،تسقط من عينيه دموع الفرح والرجاء والشكر...

كانت رسالتها المقتضبة: أنا بخير تم إرجاء الجراحة .. ألقاك الليلة..

كانت ساعة الحائط تعلن عن نصف ساعة بعد انتصاف الليل .. ليلتق الحبيبان في شجن و عناق متجدد، يلوح الأمل واللقاء من جديد، ليستمرا معا.. فيمضى الوقت سريعا كعادته ، حتى بدأت عصافير الدوري تزقزق ألحانها على سمعهما ؟، هذا ما علمه مؤخرا منها باختلاف نوعية الأشجار التي بنت عليها أعشاشها..

عادت وفاء، وعادت الروح لأحمد تسبح في فضاء لا ينتهي، يشتم من خلالها عطرها بعبق الياسمين والجورى، بعقد نسجته بحنانها ورقتها وعطائها وسحر حضورها، مضيفة له شذى عبق، بعطر الليمون. !!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى