الجمعة ٢٢ أيار (مايو) ٢٠٠٩
زمن جميل مضى
بقلم فراس حج محمد

ساعة مع كتاب

قليلة هي الكتب التي تغريك بالقراءة، وأقل منها الكتب التي تغريك بالكتابة عنها، ومن هذه الكتب كتاب الدكتور جابر عصفور "زمن جميل مضى"، وهو الكتاب الثاني والعشرون بعد الخمسمائة من سلسلة "كتاب اليوم" الصادر عن دار أخبار اليوم، ويقع الكتاب - الذي أخذ عنوانه من عنوان المقالة الخامسة عشرة- في (192) صفحة من القطع المتوسط، وينتمي الكتاب إلى فن السيرة الذاتية أو المذكرات.

والكتاب هو مجموعة مقالات صحفية بلغ عددها (ثمانيَ وعشرين) مقالة عدا مقدمة رئيس التحرير نوال مصطفى بعنوان "قبل أن تقرأ" و"تقديم" الكاتب نفسه، وسبق للكاتب نشر هذه المقالات الثماني والعشرين في جريدة "البيان" الإماراتية، واستحوذت هذه الجريدة على أربع وعشرين مقالة، وفي مجلة "العربي" الكويتية التي ضمت بين دفتيها مقالتين، ومجلة "دبي" الثقافية حظيت كذلك بمقالتين من تلك المقالات، وترواح تاريخ هذه المقالات بين 19/8/1999 وشهر مارس/ آذار عام 2009.

وقد جاءت هذه المقالات نوعا من الوفاء لزمن وصفه الكاتب بأنه جميل على الرغم من مرارة تلك الأحداث التي عاصرها الكاتب في جزء منها، إلا أنها ربما في نظره هي أجمل من حاضر مشوه يعاني من انتكاسات ليس سياسية وحسب بل وفكرية أيضا، فلم يكن "الإحباط الأول" على سبيل المثال عقبة كأداء في نظر الكاتب، بل كان- كما اتضح فيما بعد- مقدمة لعدل ظنه أنه فُقِد، وإذا به ينال ما كان يطمح إليه بعد ذلك الإحباط الذي لم يتكرر.

وأول ما يلفت الانتباه وأنت تقرأ هذه المقالات، وتنتقل بين محطات عاشها الكاتب، يلفت انتباهك تلك اللغة التي أفرغ فيها الكاتب معانيه، فقد جاءت التراكيب بسيطة جميلة جمال تلك المرحلة، منعما على أساليبه بسلاسة ضافية تستهويك بتراكيبها الأليفة منسابة إلى نفسك بكل بساطة، فتدخل إلى الذاكرة وتأخذ لها مكانا وفيرا هناك، ولعل ذلك راجع في ظني إلى عاملين: الأول متعة الحديث ببساطة عن زمن عاشه الكاتب، أراد عرضه كما هو بعيدا عن رتوش الزخرفة والبلاغة الجوفاء، والعامل الثاني هو أن لغة الكتاب تنتمي إلى تلك اللغة الصحفية القريبة إلى القارئ المفترض لتلك الجرائد والمجلات التي نشرت فيها أصلا، ولذا فإنها لا تخاطب نوعا واحدا فقط من القراء، بل كل القراء المحتملين على اختلاف في مستوياتهم الثقافية، ولذا اتخذت اللغة موقعا وسطا، لتكون النتيجة الطبيعية رضا أولئك القراء عن تلك المقالات والرغبة في متابعتها.

ولم يؤثر الكتاب سلبيا-كونه مجموعة مقالات متناثرة زمانيا- في رسم صورة ثقافية لكاتبه، فالقارئ لهذا الكتاب سيحظى بصورة مكتملة لملامح تلك الشخصية العلمية الثقافية التي أفصحت عنها المقالات، بدءا من لحظات التشكل المعرفي الأول المتمثل في زيارة جابر الفتى "لمكتبة بلدية" مدينته المحلة الكبرى، ومن ثم تورطه في عملية تأجير الكتب أو شرائها من "العم كامل" وهيامه الممتع بمكتبة "مدرسة طلعت حرب" وقراءته للكتب التي تضمها تلك المكتبة في عام دراسي واحد هو كل ما قضاه في تلك المدرسة، ومطالعاته الذاتية بعد ذلك لكل ما كتبه "طه حسين"، وحياته الجادة العلمية في كليته في جامعة القاهرة "كلية فاطمة" إلى مشاركاته في اجتماعات "الجمعية الأدبية المصرية"، وتقديمه للكثير من القراءات النقدية لأعمال أعضاء من تلك الجمعية البارزين من أمثال صلاح عبد الصبور، إلى أن استوى ناقدا أدبيا مبرزا، وأستاذا في الجامعة التي تخرج فيها، متحدثا كذلك عن وعيه السياسي وانتمائه الفكري القومي المؤيد للعهد الناصري ولشخص حمال عبد الناصر.

كل ذلك لتخرج مع آخر جملة من الكتاب، وأنت تتعرف إلى تلك الشخصية الثقافية المؤثرة في الحياة الثقافية، شخصية الناقد الدكتور جابر عصفور، تلك الشخصية التي نبتت من بين صخور المعاناة والقهر والفقر، وجالدت حتى استطاعت أن تحفر لها مكاناً مرموقاً بين ذلك الكم الهائل من المثقفين والكتاب والنقاد بأصالة أبحاثه وطزاجة أفكاره.
ولست متجاوزا للحقيقة إن قلت: إن هذا الكتاب – وقد شدني كثيرا- يتحدث عن بعض ملامح مما عانيته في بعض مراحل حياتي، وما زلت أعانيه، مما يعني أنه يقدم بصورة أو بأخرى جانبا إنسانيا يتقاطع كثيرا مع حيوات كثير منا، وهذا بالضبط ما يجعل الكتاب قريبا إلى نفسك، فتقرأ عن الدكتور جابر عصفور، فتتسلل صورتك إلى الكلمات لترى نفسك قابعا خلف السطور والمعنى كأن الكاتب يقصدك أنت لا يتحدث عن نفسه فقط.

أجد نفسي ذلك الفتى الذي اتسمت شخصيته بالجدية من أيام المدرسة متحديا الصعاب، متشحا بوشاح من الخجل، رأيت نفسي في شخص الطالب النهم، وهو مقبل على قراءة الكتب وشرائها منذ سن مبكرة، حارما نفسه المصروف اليومي ليشتري كتابا، واضعا هدفا أمام عينيه أن يبني ذاته معرفيا، ويقتني مكتبة تضم أسفارا متنوعة المعارف، أجد نفسي في صورة ذلك الفتى الذي عاني في فترة الدراسة الجامعية شأنه في ذلك شأن الكثيرين من أبناء الفقراء الذين ذاقوا مرارة الحرمان، فتحدوا ظروفهم واستطاعوا تحقيق بعض أمانيهم على المستوى الفردي.

إنني لست أنسى ما كتبه الناقد جابر عصفور عن عمله كمعلم، أحبه طلبته حبا جما، أو حديثه عن ذلك المفتش، مفتش اللغة العربية الذي دفعته تصرفاته معه إلى أن ينفجر أخيرا في وجهه ليترك عالم المدارس، وينتقل إلى الجامعة معيدا، بعض من ذلك رأيته ماثلا أمام عيني كما حدث لي منذ سنوات، لذلك كله أرى أنه كتاب قريب إلى النفس، يحاكي ما فيها، وينكش ماضيها قبل أن ينبش ماضي كاتبها.

وعلى الرغم من ذلك فإن المرء-وهو يقرأ هذا الكتاب الممتع والمفيد- يعثر على ما يثلم جماليته، وأول تلك الملحوظات إعادة الكاتب كثيرا من أفكاره وتكرارها في غير مقال، ولعل في هذا بعض العذر في أنها مقالات كتبت في فترات متباعدة، وكمقالات مستقلة، ولأن الحديث يجب عرضه في تلك الحالة مكتملا وجدنا شيئا من هذا التكرار، فلو عدل الكاتب بعض تلك المقالات عندما عُرضت متتابعة في كتاب لتجنب مثل ذلك التكرار.

من جهة أخرى فإن الكاتب يبدي إعجابه بمصر العربية القومية الناصرية غاضا الطرف عن كل ما يشي لمصر ذات الجذور الإسلامية التي خلفت آثارا وثقافة لها أثرها في أبناء مصر في تلك الفترة وفي كل فترة، ولم يبدُ شيء من ذلك غير ذلك الكلام الخجول عن علاقته بالدين، والتي ظهرت في صلاته مع زملائه الأقباط في الكنيسة والمسجد على حد سواء، وكأنه يرسم في هذا الكتاب بعده المطلق عن كل مظاهر إسلامية مصر المتمثلة في تراث ثقافي ومادي وحضاري ثري، أثر في مصر وأبناء مصر أعظم تأثير، وهنا بإمكان القارئ أن يسجل جانبا من القصور أو البعد عن الموضوعية في هذه المقالات المنتمية إلى السيرة الذاتية، فهل يُعقل ألا يكون للكاتب أي ذكريات مع تلك الرموز الإسلامية الدينية الصرفة، بعيدا عن الكلام السياسي الذي تناول فيه الكاتب الحديث عن الإخوان المسلمين، الذين تجنب الحديث عنهم وعن آثارهم وتأثيرهم في المجتمع المصري، أو حتى دورهم في ثورة 1952، ولم يبرز إلا السمة الناصرية لمصر متحسراً على "هدم تاريخ" تلك الحقبة، وهو بذلك يقدم جزءا من الحقيقة أصابت هذه السيرة بشيء من القصور.

ومن زاوية ثالثة فإن حديث الكاتب في كل المقالات التي ترسم جزءا من حياته وخاصة الثقافية، إلا أنه قد تجنب الحديث بشفافية عن نفسه في المقال المعنون بـ "الحب الأول" مكتفيا بعرض الموضوع، وكأنه يناقش فكرة مجردة اقتربت من تحليل هذه الظاهرة ملامسا بعض الأبعاد النفسية لمن يقع في مثل ذلك، وبذلك لم يستطع الدكتور جابر عصفور الحديث بحرية حول حبه الأول، وكـأنه استشعر الرقابة المجتمعية أو حساسية وضعه كمحاضر جامعي، فاكتفى بما كتب حول الفكرة ولم يتجاوزها، وهذا أمر تعاني منه أغلب السير الأدبية في حديثها عن مثل تلك القضايا، فهو ليس أول كاتب حاول الامتناع عن الخوض في مثل هذا، ولن يكون الأخير، لاسيما الكتاب الأكاديميون، وهذا ما يلاحظ مثلا على سيرة إحسان عباس "غربة الراعي"، وهو الناقد المبرز والمنظر "لفن السيرة الأدبية".

ساعات قضيتها في قراءة هذا الكتاب فاستمتعت به، وساعة خصصتها للحديث عنه، وإنه للكتاب الحري بالقراءة والإفادة منه، واختلافُ الرأي وإبداؤه لن يفسد الرأي في أن الكتاب الأمتع من بين الكتب التي قرأتها مؤخرا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى