الخميس ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٩
بقلم مجدي علي السماك

لا بد أن تنتهي

صديقي علاء

ها أنا اكتب إليك الآن بالذات بعد يوم واحد فقط من انتهاء الحرب.. وغزة كلها منكوبة. وأنت، أو بالأحرى جثتك لا زالت في ثلاجة الموتى. ريثما يعثروا على أي أحد من أقاربك ليستلمها. وأنا أيضا في شغف لاذع أنتظر كي أمشي في جنازتك.. وقد تسمح لي صحتي، التي تدهورت بسبب قنابل الفسفور في آخر أيام الحرب، أن أشارك في حمل نعشك.

قلت لكبير الأطباء أنك صديق عمري.. لكنه رفض أن أستلمك. لم استطع العثور على أي شخص من أقاربك لأنهم مدفونون مع عفش بيوتهم تحت الركام.. ولم يتم انتشالهم بعد.. ولا أعرف إذا كان لا يزال أي شخص منهم على قيد الحياة.. وكل ما سمح به لي كبير الأطباء هو أن انظر إلى رأسك في الثلاجة.. كان وجهك يضحك ضحكة لا محالة سيحسدك عليها الأحياء أمثالي لو رأوك، شاهدت منظرك كأنك تأخذ قسطا من الموت.. الغريب أنني لا أعرف ما الذي يضحكك وأنت ميت؟ وأشلاؤك ملفوفة بقماش ملطخ بدمك تبرع به فاعل خير من أثرياء العرب، بإمكانك أن تشكره كي لا يقولوا أنك ناكر للجميل. شعرت وأنا أنظر إلى وجهك أنك تسخر مني.. أو ربما أنك تعيرني مازحا كعادتك، لأنني لا أزال على قيد الحياة. هل نسيت كيف كنت تعيرني وتسخر مني عندما كنّا نتراهن على حل مسألة عويصة من مسائل الشطرنج، وحين كنت أنا أفشل في حل مسألة ما وتنجح أنت في حلها.. كنت تفرح كأنك حللت لغز الموت أو أدركت سر الحياة.. ها أنا أحس الآن أنك مت لتزيد من قيمة حياتك، فهذه رغبتك.. أنتم الموتى فريدون في عاداتكم وتفكيركم.. كل شيء عندكم تزيد قيمته وأهميته عندما تموتون. حتى عندما كنت أنجح أنا في حل مسألة عويصة جدا في الشطرنج فأكسب الرهان.. وتفشل أنت في حلها.. كنت أيضا تعيرني على نجاحي وتسخر مني، ثم تغرق بعد هذا في ضحك يتفجر به صدرك، بعدها تفتخر بفشلك وتعتز.. كأنك بموتك الآن تسخر من حياتي ومن قدري.. بل من الأقدار.

لكن بعد هذا أقول أن موتك في كل لحظة يكسرني ويقصم قلبي.. كم مرة قلت لك لا تحارب في هذه الظروف وأنت لا تملك سوى سلاح خفيف؟ وأنت قد أمضيت في سجون الاحتلال خمسة عشر عاما من عمرك.. كانت تكفي لأن تعيش في كرامة ومرفوع الرأس بين الناس، كأنك تملك أعمارا أخرى غير عمرك.. لكنك صممت على رأيك.. أعرف عنادك.. كم كنت دائما تكرر كلّما تناقشنا أن المشكلة لا تكمن في موت إنسان.. ولكن المشكلة تكمن في موت قضية.. وانكسار فكرة، وانهزام مبدأ. ورضخت أنا لعنادك.. وتركتك تذهب إلى الحرب، ورحت بجسدك الذي هو كتلة من اللحم الآدمي تواجه به كتلة هائلة الكبر من الحديد المشبع بغريزة القتل. ألا زلت تذكر قولي بأن القضية دائما بحاجة إلى إنسان يحملها.. أقصد يا عزيزي إنسانا آدميا.

اكتب إليك من المستشفي.. قابلت هنا صديقا قديما لي.. إنه صحفي وزميل دراستي أيام الجامعة.. أخذت منه ورقة وقلم، وجلست اكتب لأول مرة في حياتي بلا قهوة أو شاي، وهي أول مرة اكتب إليك فيها بعد موتك.. وسوف يتدخل صديقي من أجلي كي أستلمك.. لأن كبير الأطباء يكون زوج أخت صديقي الصحفي.

في بداية الخبر.. خبر موتك.. لم أبك.. ولكن بعد مرور نصف ساعة قرّحت الدموع وجهي. أما ابنك الصغير فهو لا يعي شيئا.. لكنه بكى بتأثير من حوله من الأصدقاء والجيران.. ألهمني الله أن أكذب عليه وقلت له أنك مسافر وسوف تعود بعد عدة أيام.. في رأيك هل صدق الصغير كذبتي؟ لا اعلم.. ربما. يبدو لي أنه الوحيد الباقي من أهلك. كانت نظراته شفرات تشرّح ضلوعي.

كم أتمنى أن تكتب لي لتحدثني عن الموت.. عن مذاقه ونكهته.. كنت استلذ به ونحن نلعب الشطرنج.. تموت القطع.. نلقي بها إلى خارج الرقعة.. ثم نبعثها لنعيدها من جديد.. فنقتلها..ونبعثها.. ونقتلها.. في الشطرنج دائما كان الموت لذيذا إلى أحدنا، كنّا معا قدرين متخاصمين.. هل مرارة موتك لذيذة لك؟سأنتظر منك إجابة.. لا تتناسى يا عزيزي.. الله يرحمك ويرحم أمواتك.. القدماء منهم والطازجين.

لا اعرف لماذا كنت في كل لعبة شطرنج بعد أن يقتل أحدنا ملك الآخر.. كان يتملكني إحساس عميق بأن نصف الدنيا تضحك من نصفها الآخر.. والنصفان حمقى. ربما هو غرور المنتصر.. أو استكانة المهزوم.. وكلاهما ينطبق علية القول بأن لا فائدة للسمك في بركة بلا ماء.

في آخر لعبة اذكر أنني عرضت عليك التعادل.. لكنك رفضت.. و قامت الحرب الحقيقية ولم نكملها وبقيت الجنود كما هي إلى الآن على الرقعة الخشبية.. لم يجرؤ أحدنا على المجازفة ليحسم الموقف. لماذا في رأيك؟ ربما لأن البطن الفارغ أكثر تهورا من الرأس الملآن.. ربما.

لهذا كنت أقول في نفسي ماذا سيحصل لو أنك قفزت بحصانك إلى دفاعي واقتربت كثيرا من الملك لتهدده، كم كنت أخشى أن تفعلها وأنا انظر إلى يدك المرتعشة.. لأنك خفت أن أقتله بالفيل الذي كان يقف على أهبة الاستعداد.. كان الخوف واضحا عليك!.. ربما لأنك في لعبة الشطرنج لم تكن بطلا كي تدافع عن قضية.. كما في الحرب على غزة.. الحرب التي لم تخيفك أبدا.. والموت الذي لم يرعش يدك.

بإمكاني الآن يا علاء أن اسأل لماذا تموت الملوك والجنود في لعبة الشطرنج؟ فكر معي يا صديقي.. كم لوّعني هذا السؤال وقرح عقلي.. يبدو لي أنها تموت لأننا نحن الذين نحركها..بإرادتنا.. وشهوتنا. تصور لو أنها تحركت من تلقاء نفسها بإرادتها؟ حينها من المؤكد أنها ستهزمنا.. وتسحقنا.. وتلقي بنا بعيدا عن الرقعة الخشبية.. وسوف تفرض علينا شروط المنتصر.

عاد صديقي الصحفي.. أبلغني أنني سأستلمك بعد ساعة. وانتابته دهشة عظمى عندما أخبرته أنني اكتب إليك.. تصور أنه سألني ببلاهة هل الموتى يستطيعون القراءة. مسكين.. لا يعرف أنكم تجيدون القراءة والكتابة.. وقلت له أنكم فوق هذا تسمعون وتبصرون.

سأتركك الآن.. كي أهيئ نفسي لاستلامك.. وسأكمل لعبة الشطرنج وحدي.. حتي تنتهي.. لا بد أن تنتهي، طالما أنها بدأت.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى