الخميس ٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
قراءة في
بقلم عمر يوسف سليمان

تحليق في الأرض

تقدم القاصة السورية ثناء سالم نموذجاً للقصة التي توائم بين الحذف والإدهاش والتقاط التفاصيل الواقعية في أسلوب فني،حريصة كل الحرص على عدم النزول إلى مستوى الخاطرة ببث اللوعة والبوح على حساب قوة السرد وحرفيته.

نستطيع من جانب آخر أن نكون محقين إذا عددنا ما تكتبه ثناء سالم تجاوزاً لما يشاع عن الكتابة النسوية من أنها لا تتعدى أن تكون شططاً وانحيازاً إلى مشكلات المرأة بسذاجة وبعدٍ عن امتلاك الأدوات الفنية،خصوصاً الجيل الشاب.

ففي قصتها –تحليق في الأرض-على سبيل المثال،تجسد بأسلوب يمزج بين المحافظة على أركان القصة وبين الانحيازات اللغوية والعمق مشكلة مجتمعية طرحت بكثرة من قبل،وهي مشكلة المفارقات والاختلافات بين الأبناء والآباء،ولكن كيف استطاعت ثناء سالم أن تعيد توليف المشكلة لتخرج من قلمها بشكل جديد ومدهش؟.

أي أديب يستطيع أن يكون جديداً في أي طرح،لأن الأدب بمفهومه الواسع يمنح الأديب احتمالات كثيرة ومفاهيم عريضة تحتمل الكثير من الأشكال،اللغة،طريقة العرض،التوهج،الحذف...وكل من هذه الأشكال يأخذ وجوهاً لا حصر لها،فاللغة وحدها عالم قائم بذاته،وهو واسع لدرجة أن أي كاتب في أي زمن يستطيع أن يكون مستقلاً ومميزاً فيه عبر انتقائه ما يريد ليصنع لغته الخاصة،وبالإضافة إلى اللغة تندرج المفاهيم الأخرى بشتىاحتمالاتها، ليقدم الأديب من خلال هذا المزج الرائع بين كل الاحتمالات الشكل النهائي الذي يميزه.

من هنا استطاعت ثناء سالم أن تصل إلى هذا الشكل،قد يستخدم الأديب موضوعاً مطروقاً،وقد تكون طريقة العرض متداولة،ولكنه عبر المزج المختلف يصل إلى الجديد،ففي قصتها (تحليق في الأرض) نجد القصة المتينة التي اعتمدت على السرد المكاني والزماني مشكِّلة في خيال المتلقي لذة المتابعة والتشويق كما نجد الاختصار الذي يترك فراغاً يكمله القارئ بتفاعله،فهي تتحدث عن فتاة راغبة في التمثيل المحرم عند الكثير من الطبقات الاجتماعية،لأسباب تخص الدين والعرف،ومع أن التمثيل حلم،فالمجتمع المتمثل بالآباء والأمهات ليسوا معه على اتفاق،هنا تقع الإشكالية،العقدة،كيف يرضي الأبناء آباءهم وأمهاتهم ولا يجرحون شعورهم ويخرجون عن مفاهيم وفي ذات الوقت يحققون ما يحلمون به!!.

بالنسبة إلى الجيل الجديد يبدو الأمر صعباً،ويحتاج إلى قرار صعب أيضاً،فهو إما على حساب الضمير أو على حساب الموهبة والحلم، (المنطق يقول يجب ألاّ أخون ثقتهم وأن أتنازل عن حلمي ,لا المنطق يقول ذلك: إنّني حرّة في خياراتي لقد تجاوزتُ سنّ الرّشد وصار بإمكاني أن أقرّر ماذا سأفعل)،إنها المفارقة المريرة،الدوامة التي يعترك فيها الفرح بالحزن،النشوة بالخيبة،والاندفاع بالرهبة،لا سيما بالنسبة إلى الفتيات في مجتمعنا.

لا تقدم القاصة حلاً للأزمة،بل تتركه للقارئ،والأديب ليس مطالباً بالحل!،لكنه مطالب بالإدهاش،والإدهاش جاء بعد عودة الفتاة/الممثلة المبتدئة إلى المنزل،لتجد سطوة الأب وعصبيته وعصاه التي ألهبت جسدها،حينها قررت التمثيل واقتنعت به،ولكن ليس في التلفاز على أية حال،بل في الواقع...(وأقنعتُ نفسي بأنّي سأمثّل،ولكن دور الهبلى والغبيّة،دور الساذجة والمتحرّرة, سأتقن الدور حتّى يلبسني وألبسه فلا نخلع بعضنا أبداً ,وسأمثّل ُ أنّي أعيش،بل سأعيش الدّور لأعيش،لأعيش وحسب).

إن ما يميز القصة الحذف،لا سيما في العبارات التي لا تخدم السياق،أعني عبارات التهويم والمبالغة،والتي تسيء إذا لم تكن في مكانها إلى العمل الفني،خصوصاً القصصي منه،هذا الحذف الذي يلائم أيضاً القارئ العربي العجول والمصاب بمرض الملل وعدم الصبر على القراءة،وبالإضافة إلى الحذف نجد الإدهاش وبساطة الأسلوب ومتابعة تفصيلات الحياة اليومية،عبر هذه النقاط استطاعت أن تجد ثناء سالم حيزاً يمثلها ضمن الكم الهائل من ما يُكتب من القصة في سورية وغيرها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى