الخميس ٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم أسامة محمود خليل

لم شمل

إرتفعت درجة الحرارة بشكل لا يطاق، وعجزت مراوح السقف وأجهزة التكييف القديمة عن تخفيف حدة حرارة الجو، فما بالك بحرارة الشوق ولهفة الانتظار للمئات من محترفي الإنتظار الذين توافدوا منذ ساعات الصباح الباكر على صالة الاستقبال في الطرف الشرقي من جسر العودة، في مشهد أصبح مملا لتكراره بشكل يومي، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك فقد حمل هذا اليوم معه نكهة خاصة، فبعد أن أصدرت سلطات الاحتلال الموافقة على لم الشمل لمئات من العائلات المتواجدة على الضفة الغربية للجسر، إنتهزت هذه العائلات فرصة بدء الإجازة المدرسية لتنهي حالة من القلق والترقب امتدت لسنوات، زاحفة نحو الجسر الذي شهد رحلات اللجوء والنزوح، ولكن ما يميز هذه الرحلة أنها رحلة باتجاهين تحمل تاريخا للعودة على عكس ما سبقها من رحلات غاب عن جدولها تاريخ واضح للعودة.

وقَفَت في منتصف الغرفة وقد فقدت للحظة القدرة على التفكير في أي شيء، الحقائب جاهزة، وملابس السفر قد وضعت على حدة مرتبة حسب الأفراد، تأكدت أن زوجها اتصل بسائق سيارة الأجرة التي ستقلهم الى الجسر للمرة العاشرة خوفا من تأخره، الأبناء في أسرتهم بعد أن أجبرتهم على النوم فأمامهم غدٌ شاق، وعلى الرغم من ذلك فلا تزال تسمع أصواتهم الخافتة من تحت الأغطية، أخيرا قد جاء اليوم الموعود وانتهت سنوات الإنتظار الطويل وحان الوقت لكي يتعرف الأبناء على أقربائهم بعد ان فصل بينهم جسر العودة وقوانين الإحتلال، لم تستطع يوما أن تلوم نفسها على قرارها بالبقاء في الوطن بعد أن انتهت الشهور الستة التي يعطيها الإحتلال لمن هم في وضعها قبل أن يصبح وجودهم غير مرغوب فيه داخل وطنهم، فكلما فاضلت ما بين ابتعادها عن الأهل وإثبات حقها في الوجود داخل الوطن، فلا مجال للتردد، فحجم التضحية لا يقارن بالمقارنة مع من يضحون بأرواحهم يوميا ليطلقوا صرخة مدوية في وجه العالم بأن الأرض لنا، والوطن لنا، وإنّا ها هنا باقون حتى وإن طال الإحتلال.

جلست الجدة على كرسيها الخشبي بمحاذاة النافذة مطلقة عنان بصرها الى آخر الطريق في محاولة لاصطياد خيال سيارة تحمل على متنها من طال غيابهم، مشغلة نفسها بحبات مسبحة تحركها بين أصابعها بلا هوادة.

  جدتي، مالي أراك شاردة؟ جائها صوت إحدى حفيداتها من بعيد.
  لا شيء. أجابت الجدة في محاولة لانهاء الحديث والعودة الى الطريق.
اقتربت منها حفيدتها وطوقتها بذراعيها هامسة:
  لا زال أمامهم الكثير، فلم تكد تمضي ساعة على ذهابهم إلى الجسر.
  أعرف ذلك. أجابت الجدة بصوت حاولت جاهدة أن تخفي ضيقه ولكنها فشلت في منع دمعة أخذت طريقها على وجه رسمت تضاريسه سنوات من الهجرة والشتات، وعادت بها الذاكرة اثنا عشرة عاما الى الوراء، إلى اليوم الذي ودعت فيه ابنتها وزوجها وابنتيهما بعد أن قررا العودة للإستقرار داخل الوطن، وغابت بعدها ابنتها في سجن من القوانين والإجراءات الفاشلة لاستصدار ورقة تعطيها الحق في العودة إلى الوطن إذا ما هي غادرته، وها هي تعود اليوم وقد كبرت ابنتاها واصبح عندها ولدين لم يعرفوا جدتهم إلا من خلال الصور وأحاديث هاتفية لا تطفيء شوق أُم على من غاب من ابنائها.

إجتاز الباص المحمل بالركاب الجسر في طريقه للضفة الشرقية ما بين صرخات الأطفال وأحاديث الكبار الجانبية عما عانوه خلال الساعات الخمس الماضية على الجانب الغربي من الجسر، ولم تخفي إحساسها بلذة الإنتصار راسمة ابتسامة عريضة على وجهها ولسان حالها يقول: ها نحن قد خرجنا، ولكننا عائدون، جاثمون على صدورهم، باقون على أرضنا، ولسانها يردد مقطعا شعريا حفظته منذ ولدت، فلسطينية العينين والوشم، فلسطينية الأحلام والهم، فلسطينية المنديل والقدمين والجسم، فلسطينية الكلمات والصمت، فلسطينية الصوت، فلسطينية الميلاد والموت.

أصبح المشهد كرنفاليا على الضفة الشرقية من الجسر عندما بدأت وفود العائدين بمغادرة البوابة الحديدية، فما بين صراخ الباعة المتجولين ونداءاتٍ على عائد خرج لتوه من البوابة متلفتا باحثا عن مستقبليه، آملا بأن تلتقط عيناه ما تبقى من ملامحهم عالقا في ثنايا الذاكرة، امتزجت دموع الفرح وحرارة اللقاء بلهفة من ينتظر عبور عائده من البوابة الحديدية.

إجتازت البوابة الحديدية هي وأبنائها متلفتة تحاول ايجاد من أتى للقائها لتفاجأ بكمٍ من القبلات والعناق من شباب تركتهم اطفالاً فاستقبلوها شبابا يملأون المكان صخبا وفرحا، بالإضافة الى إخوة وأخوات غزا الشيب ثنايا شعرهم وبانت على ملامحهم آثار السنين.
  أين امي، تسائلت بلهفة.
  لم نحضرها معنا فهي لا تستطيع تحمل الرحلة وحرارة الجو.
  هيا بنا لنذهب اليها.
قالتها برجاء، وبداخلها إحساس بأن شوقها فيما مضى من السنوات قد اختزل في ساعة من الزمن تفصلهم عن بيت العائلة، وانطلقت قافلة المستقبلين في موكب تخللته أبواق السيارات وأحاديث رحلة العودة بالإضافة الى نظرات فضولية من أطفالها في محاولة لإستيعاب اكبر كمٍ من الوجوه التى يروها لأول مرة مكتشفين أن لديهم من الأقارب ما سيكونون بحاجة الى العديد من الايام للتعرف عليهم وحفظ اسمائهم.

تركت الجدة مقعدها الخشبي ونزلت درجات المنزل واتخذت لها مكانا على باب المنزل بعد ان أتاها الخبر بان موكب العائدين في طريقه الى المنزل، ولم تستطع منع دموع انهمرت عندما تناهى الى سمعها أصوات أبواق السيارات التى دخلت أول الحي مبشرة بقدومهم، واختُزِلت سنوات الغياب في لحظة لقاء غابت عنها جميع الأصوات سوى صوت دقات قلب أم تعب من انتظار أحب الأبناء، الغائب الذي عاد، فاحتضنتها بشدة في خشية من أن تغيب عن عينيها إن هي تركتها من بين ايديها، فخورة بمن وقفت في وجه سنين البعد وقوانين الإحتلال لكي تقول لهم إننا عائدون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى