الأحد ١٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم فؤاد اليزيد السني

الرّاوي والفَلاّح ومُدير البَنك

وقدم الصيف من الجنوب. قدم بالأوادم، من محبي التصيف، والتجوال الليلي والمُوّال اللاّ مُجدي وابتلاع أطنان مُطَنّنَة من (البيتزا) و(الكالينتي)، ورمي الأزبال على درجات الدور المحاذية لهم، وعلى الأرصفة والحدائق العمومية والانسياب في مجرى مياه لا تساؤل تاريخي لها ولا قلق وجودي.

قدم الصيف عندنا إلى ربوع الشمال الطنجاوي.. الأوروبي. قدم إلى حدود بحر الاحتمال، احتمال التصيف والعبور بالمناسبة إلى ديار بني آدم. قدم محملا بثقل العولمات الغذائية والنكاحية التحررية، الثقيلة (جُبّاتها المُقَصّرة) الخارجة أخلاقيا على قياس مدونتنا الشرعية.

وبدوري نزلت يومها في اتجاه محطة القطار، وكان الليل الطنجاوي جميلا. وكانت السكينة عند موعدها بي، في اتجاه هذا الأفق الإفريقي الأرجواني، وكان الانتظار، وتأخر القطار، وبقي الانتظار.. الإنتظار.. الإنتظار الحضاري، الغائب عن كل محطات الحداثة إلا ما تعلق بالبطن والفرج والعين البلهاء !
وانتظرت صديقي(الموشافي) القادم من الدار البيضاء على مثن القطار الوطني السريع والثقيل في الوقت نفسه، وذلك حسب مزاج السكة الوطنية الوحيدة الاتجاه، وأحوال أمزجة الطقس العصبي، وموظفين أشباه عاملين وأشباه عاطلين.

والقطار المفترض فيه أن يصل على الساعة الحادية عشرة ليلا، لم يأت بعد، إلا.. ! إلاّ.. ! وكان ما كان مما لست أذكره وظُنّ خيرا ولا تسأل عن الخبر.

وتأخر القطار، ووجدتني صدفة، بقرب مواطن ينتظر القطار نفسه. وحصل كما عادتنا في هذا البلد، أن كلمني وكلمته عن سبب تأخر القطار، وتجاوزنا الحديث إلى أشياء أخرى. وفجأة عاد مكلمي إلى موضوع (أوروبا) ونطق بها تلك الكلمة قائلا:(ما بقي لهم أولئك، إلا شهادة (لا إله إلاّ الله)، فكل أقوالهم كما أفعالهم، مطابقة للإيمان بعقيدتهم، وما لدينا نحن سوى النفاق والتّلفاق، والغش المستباح، ونكاح القريب والغريب). وتفرس في وجهي وانفجر مقهقها، وحين خلته بأنه قد فارق صوابه، تماسك نفسه وعاد إلى متسائلا:

 هل عندكم في باريس مدراء أبناك يتسولون؟

وأجبته غير فاهما قصده:

 ماذا تعني بهذا؟

ونظر إلي، وسحب من جيبه علبة سجائر "مارلبورو" وعرض علي سيجارة، لكني رفضت بأدب، حينها أولع سيجارته وسحب ما فيها من نيكوتيل وقذف بحلقات دخانها في وجهي معتذرا، وقال لي:

  أنا رجل فلاح ومزارع، بما معناه، ملاك لبضعة حقول وأراضي زراعية. وحصل لي، كما قد يحصل لأي أحد في أيام الأزمة هذه، أن توجهت إلى البنك المحلي من أجل قرض فلاحي. إلى هنا كانت الأمور عادية. وحين قابلت مدير البنك المسئول عن إجراءات القرض حصل التفاعل.

نعم قال لي.. حصل التفاعل المغربي المنافق، وتابع كلامه:

  استقبلني مدير البنك وسألني عن ممتلكاتي. وحين علم بأني ملاك لحقول متواضعة لزراعة الفواكه، بما فيها التفاح والإجاص والبنان، استسألني وهوكله ذكاء وشجع وحب استلاب المال، وقد بدأ لعابه يسيل على إنسانه المزيف:

 والله إني كالحامل، بي شهوة غريبة لتذوق خيراتك !
وفهمت جشعه وفهمت نفسه الطماعة وفهمت إنسانه السّعاي، وبادرته قائلا:

 غدا إن شاء الله !

وابتلع أنفاسه الطمّاعة، وكاد يبكي من فرح النفاق، وإنسانه الخبيث والبليد، يفوح من حوله خبثا:

 إذا عد عندي غدا لتسوية ملف الطلب " بإذن اللّ.....ه "
وطلع الصباح عندنا مشرقا بعد ليلة قضيتها في انتظار السهل الممتنع. وكنت صبيحة اليوم التالي، أول من تسمر أمام باب مكتبه. واستقبلني بل قفة الفواكه التي كانت بيدي أولا، ومن بعدها تفرس في وجهي قائلا في سره" أنت العبد وأنا السيد " وفهمت قصده ودخلت من وراءه أجرجر في روحي سلاسل الذل، وبمعنى آخر، ذل جمهور لا يغني ولا يسمن من جوع. وحين تواجدنا وجها لوجه في مكتبه، أمرني بالجلوس وخابر ما خابر مجانا، على حمّاله النقال كل معارفه وأقاربه. وحين شعر بأن نفسي قد بدأ يضيق به، بل وبنفسي، غيّر الخط والأسلوب مستديرا في:

 ملفك لا ينقصه سوى توقيع بسيط.. غير أنني في ضائقة مادية لا يعلمها إلا الله. أنظر.. ! وأخرج علبة سجائر فارغة من جيبه وعاد متابعا:

 تصور نهاية الشهر وليس في جيبي ثمن علبة سجائر.. !
وفهمت قصده، واستدركت حالة ملفي المكبل بالطلبات قائلا:
 كم:

وأجابني "مائتا درهم" وقد أصبح إنسانه المُديري أمامي في أقصى درجات البهدلة البشرية، وكدت أطير عليه بمخالبي المغربية القبلية، الساكنة في تربيتي، إلا أنني لم أفعل، لكوني مسكونا بكل الهزائم العربية، ومسكونا بإنساننا الذي لا قيمة له، لا في بلدانه العربية ولا في غيرها. ونهضت واقفا وأنا في أمس الحاجة ولولدرهم لأقطع لسانه وانصرفت. وجئت عند زوجتي وأخبرتها. طافت زوجتي وطوفت ما شاء لها من الطواف بالحي وبالأحياء المجاورة، جامعة للمبلغ المطلوب من هنا وهناك، وقد فاجأها مجيء الليل الحامل للهموم والأفكار والطلاق والغضب الفجائي. وعقبه صباح أمل مؤقت ومن جديد، وجدتني أول من يطرق على باب مكتب مدير البنك. ويا للمفاجئة، حين استقبلني بالأحضان داعيا لي بالصحة والجرأة والعافية المغربية. وما كاد يبلع ريقه من بعد ما تناول الرشوة المقصودة حتى كانت كل الأوراق قد وقعت، وعدت من حيث أتيت بدين جديد وأنا غيري. أي عدت بخلاف ذاك الذي ذهب. عدت منحطا وقادرا على ارتكاب أكبر الجرائم اللاّ أخلاقية. إلا أنني عدت مهزوما نحوواقع اجتماعي مهزوم ونحومخلوقات همها الوحيد أن تعبر هذا البحر الذي ترى:

وأشار نحوالمضيق بيده اليمنى والمحيط الأطلسي بيده اليسرى وقال:

 إلى بلدان "البنوآدم.. "!

وحين أوشك على نفث آخر أنفاسه، صفر القطار ثلاثة مرات متتالية، فتدارك نفسه قائلا لي:

 لقد وصل الحمار وإياك ثم إياك ! أن تعود لهذا البلد المنحوس، اليوم أمر وغدا قبر ولسوف ترى ! ومْشي آسدي الله يبعدك من هاذ البشر، إنها ابنتي لقد وصلت.

وبالفعل قدمت ابنته وقدم من ورائها صديقي " الموشافي " وتبادلنا القبلات الحارة وتبادلنا اللقاء ومضى كل إلى غايته، وفي أعماق لا شعوري، ظلت تدور أسطوانة أم كلثوم : " أعطني حريتي أطلق يدي، إنني أعطيت ما استبقيت شيئا.."
وقال لي صديقي:

 ما أجملُ السماء نجومَها!

وأجبت مصححا:

 نجومُها!

وجاء " الطاكسي " بعد لأي كما قال الشاعر. وقال لنا السائق:

 إلى أين؟

وأجبته:

 حومة المُصَلّى.

وأقلعت السيارة في قلب الليل الممتلئ بالأوادم ومضى كل إلى غايته واختفينا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى