الأحد ١٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم بسام الطعان

الشافي

وجد (ياسر) نفسه فريسة سهلة لمرض غامض ومحبـــــــط، مرض زرع الخوف والأنين في جسده، يبدو أنه في عجلة من أمره، يريد أن يهوي عليه كشـــفرة المقصلة ويزيله من جغرافيا الحياة، ولم يأت وحده، وانما جاء معه اكتئاب شــــديد، لم يبق فيه ولو قيد شبر بغير احتلال، اكتئاب دخل في جسده كالســــهم، وشق روحه التي سرقها من قبل الشحوب الرمادي الداهم.

كانت زوجه تجلس إلى جانبه، تواسيه، تشــــجعه على النهوض من الفراش، تتأمل وجهه الذي يكاد يكون مفرغاً من الحياة، وتبكــي بكاءً صامتاً، وكان ذلك شبيهاً بتدفق كابوس مرعب بالنسبة لها.

حين استـــــــمر المرض في غزوه السريع، وداهمه طغيان الوجع، وظلت الأوهام تنحت في أروقة صدره العذاب، وتراخى جسده، ونقصت همته، وصــــــارت شمسه على حافة الأفول، كان من الطبيعي أن يستجيب لدعوة زوجه التي حاولت أن تطــرد المشهد الخرائبي وقالت له:

ـ تزود بقدر من بأس يا ياسر واذهب إلى الطبيب.. إن الألم صعلوك أمام الإرادة.
عاد إلى البيت وقطيع من الأوهام يتسمر عند حافة عقله، بينما رأسه مدّلى فــي أبد الصمت، والمــــــــوت كأنه يراه، ويحسـه، موجوداً معه، حضوره إلـــــى جانبه يكاد يلمسه،عيناه متعبتان، ونفسه كعادتها منطوية ومستسلمة للحزن والخمول.

في كل يوم يمر، تغرق الأشياء حول ياسر في لون رمادي، تئن الدموع في عينـيه، تسكنه الوحشة، يجري الإحباط في شرايينه، ويصبح قلبه عصفوراً يختلج في صـدره الكسيح، بينما زوجه تنظر إلى وجوده الذابل وتحاول ما بوسعها التخفيف عنه.

استشف في نظراتها التي حاولت أن تلملمها بعيداً عنه حزناً عميقاً، فقال لها:

ـ أتمنى أن أفعل ذلك لكنني لا أستطيع.

رفعت رأسها، استغاثت بالله"جل جلاله" وجميع الأنبياء والصالحين، وأجهشـــــت بحرقة والتياع، دموعها مستديرة صافية، قطرة بعد قطرة، وكل قطــرة تقيم في نفسها القلق، وتجعل الحزن يشحذ شــــــــفرته ويغرزها دون رحمة في ثناياها، كيف لا وقد أصبح قلبها مسكناً جميلاً له.

ذات يوم دافئ، نهض قبل أن ينهض الصبح من نومه، مضغ تعاســته كعلكة بائرة، اسند رأسه إلى مسند السرير وهو يشعر بالشيخوخــة تدب في كل أنحاء جسده، حاول أن يهدهد حزنه الشامل، لكن الحزن زمجر في وجهه، وظل يســــــحقه دون هوادة، حاول أن يتذكر كل تفاصــــــــيل الحلم، تجول في ردهات ذاكرته، لكنه لم يستطع أن يتذكر إلا جملة واحدة سمعها في الحلم:

"إنه الشافي".

تاه في دروب الحلم الوعرة، وأصبــــــــحت نفسه مجرد خيال، شبح، كائن يتحرك بصعوبة، وفي النهاية قال لنفسه:"هل آن الأوان أم مازالت في الروح بقية؟

مرت أيام أخـــــــــــــــرى، وظلت الجملة تعلو قلعة انكســـاره، همســت في داخله المخاوف، وطافت به الأوهام من جديد، ومع الهواجس والخيالات، الأســى واللوعة، الخوف والشجاعة، الوعي واللاوعي، لمعت في ذهنه فكرة، دفعته من الســـــــــرير دفعاً، وهدّأت خواطره المتكدرة، فلم ينتـــــــــــــظر طويلاً، أعلن بدء انتحار الخوف والصمت، وبدء نمو زهــور التحدي، لملم بعضه ليطفو على قمة الصحة، يسمو نحو الخلاص، ويحلم بالحياة، فالقلب متعب ويريد أن يقطـــــــع الدروب المعفرة بالعذاب، ارتدى الفجر والوجع قميصاً بلا أزرار وخرج كمكفوف يريد أن يخـــــرج من ظلمته الأبدية، خرج مع بؤسه وهزاله، احتســى غبش الفجر وطارد غزلان الخلاص، بينما الكآبة لا تزال تجأر في خطواته وتســـــــد باب الشفاء، وبشيء من صبر أيوب، سار على الرصيف المغســـــــول بمطر الصـــــباح المبكر الذي أعادته المدينة، الألم يملأ الفم والخاصرة ولا يهتم، فقد قرر البحث عن الشـــــــافي بعدما ضــــــاق ذرعاً بحياة الاكتئاب والعقاقير والرطوبة والظلام.

وصل المســـــــجد ووجهه شرخ يدل على انشطاره، أسند ظهره إلى الحائط، تنفس الصعداء، اغمض عينيه للحظات،ثم دخل بخطوات بطيئة، توضأ، وأمام القبلة صلى ركعتي استخارة، توسل لله"عز وجل" أن يبعث له الدواء والشفاء.

خرج من المسجد، وفي الطريق إلى البيت خفـــــــــق قلبه على نحو لم يخفق خلال الأعوام التي عاشها، وفجأة تناثرت الكآبة ومعها التعاسة والوجع والخمول والانطواء والبؤس حطاماً، وأحس أن قلبه قد أصبح سماء خضراء لا تتسـع لورقة صفراء، وأن الحياة تفجرت في عروقه في أروع شكل لها.

حمل بيدر صحته، اتجه صوب بيته شــــاهراً فرحته، تحدو به مشاعر عذبة، وأمام الباب، سمع صوت الحياة تنشد ألحانها في أعضائه، فربط قلبه بشــــريط من الفرح، وأحس بأجنحة لا يراها تحمله، فتح الباب، وعندما رأته يتأبط الفرح والراحة، وعلى شفتيه تلك الابتسامة الغائبة، بهتت زوجته وهتفت بصموت ضاحك:

ـ ما شاء الله يا ياسر، أرى الصحة تتلألأ على وجهك!

جلس أمام النافذة وهو يستمع في نشوة إلى رفيف الأجنحة، عصر رحيق الشمـــس بين يديه ومنح نفسه قطرة ضوء اشتاقت لها، طلب الطعام الذي هجره طـــويلاً بفرح طفولي:

ـ تخلصي يا زوجتي من كل تلك الأدوية، لقد اهتديت إلى الشافي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى