السبت ١٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم حفيظة مسلك

طفلة النقاء

في هذه اللحظة أخطط ما علق بخاطري جهرًا، تلك الذكرى تبغي المكوث في ثنايا عقلي والهروب من لجّة النسيان،عجبا لا تغادر مخيلتي،تسامرني بعدما ينام الكون، فلا تترك لجفني فرصة للإنعتاق من هول جمالها، كأن الأرق وجد مرقده ليعلن استسلامه، لكن عبثا فالروعة بمكان تحصّنت في ليلة قمرية، تفيض بالولع لأقصى الحدود،هاربة من سواحل العتمة إلى الضياء، وخزة في قلبي جعلت البراءة مفرا كأرنبة حرّة.

أرهقتني ظلال الحاضر البائس واكتأبت أعماقي اكتئابا ضاربا، امتدت إليّ أيادي الحيرة الساخرة، فاقترب مني شبق الهدوء الأزلي لأرفل فيه كقطعة سكر تذوب في فنجان قهوة ساخنة، تتمايل الشمس في دلال وغنج مودعة فصلا من فصول اشراقتها، منطلقة بدلك إلى غياهب أخرى في الدنيا البعيدة،ها هو الغروب يأذن ببدء غفوة جميلة،ذلك المنظر ما يزال عالقا في ذهني ولا أملك حياله نسيانا،مشهد إقتلع من أنفاسي تلك النبتة الحنظلية،جعل مني طعما فاترا بالسعادة المباغتة التي هلت عليّ قليلا.

بين ليلة وضحاها وجدت نفسي مسؤولة عن طفلة تبلغ من العمر ستة أشهر،تركَتْها والدتُها في عهدتي لمدة قصيرة لا تتجاوز وشاح ليلة مقمرة من ليالي الصيف الجميل،وجدتُ الفراغ المقيت يجلد نفسه بقدوم الزائرة إلى بيتنا،تغمرني أشعة الدفء الحانية،تهتز فرائسي على أوتار بنفسجية من الانتعاش لرؤيتها والتأمل في وجهها الدائري،العينان الملونتان،الشفتان الورديتان الصغيرتان المستندة على تكعيبة ذقنها،الوجنتان الحمراوان، سبحان الخالق في ما خلق، خصلات من شعرها تم تجميعها أعلى هرم رأسها على شكل نخلة، إذا ما اهتزت تتمايل شعيراتها كهبات النسيم،أحسست على ضفاف وجهها المشرق قنديلا يرتشف من صفونا، يبعث الدفء في سنابل خاطرنا، نظرتها تدغدغ نبض الجداول،حركتها التلقائية تداعب شفقا يهيم في حلاوة صمتها،كلمتها عما في قلبي، كأنها تحفظ في أعماقها قصيدة ذات أجنحة،يا الله في بعض شهقة من أنفاسي يخفق الوتر الصادح،في كل بذرة أينعت جمالا،في الألق الطافح براءة طفلة وأمل منساب في تلك العيون اللامعة،

في أول الليل كانت الصغيرة هادئة، بقينا لوحدنا بعد انصراف الجميع،وضعتها على السرير، سألت نفسي كيف لي برعاية طفلة في مثل هذا السن وأنا التي لا أفهم شيئا في تربية الأطفال؟؟؟؟ جلست بقربها، أنظر إليها وهي تعبث بأحدى ساقيها،توصلها حدّ فمها بكلتا يديها، راقني المشهد في بداية الأمر،بدأت أضحك كيف نكون وكيف نصبح!!! كأنها لوحة فنية رُسمت بأنامل دهبية، تروي عطشي ببراءتها التي جعلتني في حالة من الانشراح، لا أعرف كم من الوقت بقيت بجانبها أتابع حركاتها البهلوانية والطفولية، مددت جسمي بالقرب منها ضاغطة على نفسي بالاقتراب أكثر فأكثر، رفعتها الى صدري فاحتضنتها، أصبحتْ الأحب إليّ والأقرب الى نفسي،في تلك اللحظة عرفت بأنني من المحظوظات بالنعيم، كيف لا ؟ وأنا التي أغرق في بحر من الألفة مع طفلة خالية من الشر، ها أنا أمتع عينيّ باحتضان مخلوق عزيز أثير وفرصة لملامسة النور،تذوق طعم السرور، و ربي ما شعرت بالأمان بمثل تلك اللمسة الحانية،حلاوة تجعل القلب مرتويا، أنظر إليها فابتسم،تبادلني بنفس الحلم والشعور.

فجأة...!!! بدأت بالصراخ،أطبقت عيناها،فتحت فمها،صراخها ملأ المكان، طرحتها على السرير محاولة إسكاتها، كيف لي معرفة سبب بكائها وأنا التي لا أتمالك نفسي عند رؤية كهل يبكي؟ فكيف بصغيرة لا تنطق الكلام، فكرت في أنها جائعة، هرعت مسرعة نحو الثلاجة أبحث عن الحليب، الأمواج تتخبط في جسدي،الرياح تشعت شعري، سخنته بسرعة أشرعة دواخلي، كأنني في سباق مع الزمن، ملأت الرضاعة فرجعت إليها وكلي أمل أن تتوقف عن الصراخ،حملتها الى صدري مرة ثانية فازداد بكاؤها عند رؤيتها لقارورة الرضاعة،وضعتها لها في فمها فسكتت!! تناولتها بنهم وهي تجتر صبيبها،امتزج محياها ببهاء فيروزي، تلألأت ابتسامتها بضياء جمالها، شعرت بأنها ترانيم لحن مضمخ بالبراءة،
ينحني ضلع الياسمين وقامته المأهولة، فما أسعدني بتلك الصغيرة وهي بجواري، تغسل ألمي،تتمدد كساقية،جدول يرقص على ضفاف البحيرة، خّيم الصمت على مملكتنا لنغفو سويا في رحاب البراءة، ببنك الزمن وسكون البدن، قمر من قرنفلتين واحدة في خزائن قلبينا والأخرى وردة آذار عالقة في أرواحنا، هكذا حولتني التجربة من دودة القز وهي تخيط خيط الحرير إلى شالٍ يداعبه الريح..

من الصعب نسيانها وقد ازدانت مروجي فرحا وسعادة برفقتها واحتضانها، وابتسامتها التي تضيء الكون بنورها،

لن أنساها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى