الاثنين ٢٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم كاظم الشويلي

ضحكت وضحك معي ظلي

كنت امشي وحدي في تلك الظهيرة القاسية، حيث الشمس تكاد تحتضن الأرض، هاربا من حرارة الشمس، متجها نحو داري، ليس لي علاقة بأي مخلوق، من البيت إلى الدائرة ومن الدائرة إلى البيت.... عمر وينتهي، لا يهمني أي شيء..... فلتحترق الدنيا.............
يالحرارة الصيف اخذ جبيني يتصبب عرقا وفجأة... حصل ما هو اغرب من الخيال... من يصدقني إذا قلت:

.... انفصل عني ظلي........... نعم انفصل وصرنا اثنين، أصبت بالدهشة والحيرة.....
وهل ينفصل ظل الإنسان عنه ؟!! نعم: ينفصل أو يتواري في حالة الظلام ويختفي وهو داخل البنايات، لكن الذي حدث في تلك الظهيرة أثار عجبي واندهاشي، لم اسمع ولم أر أن ظل الإنسان ينفصل عن صاحبه، والأدهى من ذلك انه يحدثك وهذا ما جرى في تلك الظهيرة اللاهبة عندما كنت اجتاز الشارع المؤدي إلى دارنا بين أزقة بغداد العتيقة، أصدقكم القول ولن أبالغ أبدا، اخذ ظلي يمشي أمامي بخطوات متسرعة......... توقفت أنا، بينما طفق ظلي المتمرد يواصل مسيره سارع في خطواته.........

هرول كجندي هارب من المعركة. ركضت خلفه، لكنه مال إلى جهة المتنزه، ناديته:
 توقف يا هذا... عد إلى مكانك......

التفت إلي.......... مط شفتيه في ذهول.... وفكر شارد ا.... أسرعت نحوه، أسدل أجفانه كمن يمضغ حصى، نطق بصوت حزين: -

ابتعد عني، اتبعتك سنوات مثل كلب أمين وها انذا أفارقك بلا رجعة.......
صعقت...... وهل يتكلم الظل، يتمنطق ويتفلسف ؟ صدقوني لم أشاهد أبدا ماشاهدته في ظهيرة بغداد الحارقة......

أردف قائلا وكأنه قرأ شريط أفكاري:-

 منذ ولادتي وأنا صامت، أحيا في دهاليز من الصمت.

سألته مستغربا:

 وماذا حدث حتى تتركني أيها الظل العزيز دون وداع ؟ أنا لم اخدش مشاعر أي مخلوق في الدنيا, عد لرشدك.....

مد يده اليسرى واتكأ بها على شجرة رمان فارعة الطول وطفق يحدثني بأسى، ونشيجه يرتفع كطفل بريء: -

 مللتك، كرهتك......... أنا يا سيدي ثورة، وهدير أمواج ثورتي تجرفني للتمرد عليك,، أنا لا ادعي ذلك عبثا أو غرورا فأنا أحمل هما يكبر عمري بعشرات العصور، أنت خاو يا سيدي لا أسمع منك سوى عويل الرياح وصمت الأموات......

ثم توقف الظل عن الحركة واطرق برأسه إلى الأرض فرأيت دموعه تتساقط لتنبت في الأرض سنابل وورودا ثم انشأ يقول بهمس وكأنه يحدثني شعرا: -

 من يعزف لي على أوتار الثورة ؟ من يرتل لي موشحات الفتوحات الأولى فتطرب الدنيا من حولي وتفوح صدى الأغنيات، وكأنني أصغي لضحكة الجبل ودندنة السماء، والمح رقصة الوادي وابتسامة الحياة ؟ والجرح الأندلسي مازال ينزف في صدري وقرطبة وغرناطة ما زالتا تغوران في الأفول، دعني أصغ لتغريد البلابل، دعني ارسم أمنياتي على بياض الثلج واستنشق عبير الورود واسأل النرجس والسوسن عن سر خجله ونسيم الصباح عن سر عذوبته،
ثم قفز ظلي الى غصن الشجرة ممسكا بيديه ويلوح بقدميه، قائلا:

 دعني انطلق واكتشف أسرار ثورتي العارمة، ها أنا ذقت طعم الحرية، سأخلع عن رقبتي طوق الذل المكسور، وارفع في سماء ثورتي قصورا من ياقوت ولولؤ ومحار لكل فقراء الله، وسأنطلق أعدو نحو مملكة الرجال مترنما بأناشيد الحب.

ترجل ظلي واقفا على أرضية المنتزه وهو يمسح عرق جبينه، وقد أردف بصوت مبحوح:
 ها أنا أودعك يا سيدي، أيها الثمل دون خمره، أيها النائم دون صحوة، هل نددت يوما بالحكومة الفاسدة ؟ هل لصقت منشورا يطالب بسقوط الأقزام من العروش البائدة ؟ هل تظاهرت يوما مع الجموع الحاشدة ؟ أنت يا سيدي غياب وعذاب و.... وسبات إلى الظهيرة............
نفد صبري وأنا أصغي لهرطقات ظلي المتمرد، وانفجرت غضبا وحاولت أن امسك بكتفه...........

تحول فجأة إلى سطل أحمر... ورشقني بما يحمله من ماء... صرخت... ابتل جسدي... ارتعشت... فتحت عيوني.....

وجدت نفسي مازلت أمام الشارع المؤدي إلى دارنا وفي تلك الظهيرة القاسية، متمددا على الشارع الإسفلتي بعد أن ضربتني الشمس بحرارتها وقد تجمع الناس من حولي ورشقوني بسطل ماء احمر وسمعت لغطا وأحاديث متناثرة: -

 اخبروا زوجته... أمه...

 كفى... لا ترشوا عليه الماء فهذا السطل الثالث...

 يبدو انه فاق من الإغماء.....
 إنها ضربة شمس قوية... آب اللهاب.. يدق المسمار بالباب...

 كان يهذي... وياله من هذيان يكسر الرقاب.... لقد شتم الحكومة...

 لالا... انه شتم المعارضة.......

استيقظت من الإغماء وعندما فتحت عيوني، بحثت عن ظلي... وجدته بقربي، وأنا مازلت بين أزقة بغداد الحبيبة، ضحكت وضحك معي ظلي..........


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى