الاثنين ٣ آب (أغسطس) ٢٠٠٩

هذه المدينة لا تعرفني

بقلم: سعيف علي الظريف

في الفجر خرجت جنّية كنت أراها كل يوم في لحاف جديد، ورأيت معها أربعة رجال رفعوا ستار الليل وأكلوا مكنستي. عم حمادي الكنّاس عندما سألوه لماذا أضاع المكنسة. لم أستطع النوم البارحة. ضل جوف الليل يقلبني ذات يمين وذات شمال. كانت الوساوس والجوع يمخران فيا وتقبل الهواجس كأنها اللعنة. حاولت أن أغالب كل العنف الذي يأججني ويترنح لهيبه في أوصالي، لكني لم استطع أن أظفر حتى بإغفاءة صغيرة. كنت أعود مدحورا إلى ربقة السهاد. كانت حرارة جسمي تزيد هذه اللعنة انغماسا وصلفا، كانت تارة ترتفع وتارة تنخفض كأنها تلاعبني. كنت ادفع الغطاء عني تم أعيده إلى كتلتي الأسيرة الموبوءة الليل طويل وجوفي كأنه بئر عميقة لا يتلالؤ في مائها غير سراب غريب للأنوار المزيفة. ... اى لعنة تأسرنى وأى جسد يضعني على عتبات الهاوية ويطحنني. كنت كالهوس الدامي وكنت في فراشي كان كالمرجل يستعذب فيا رائحة الحريق.

الليل طويل كأنه نفق بلا نهاية. نفق ليس فيه إلا الرحيل والوجع. كانت الضلال المرسومة على الحائط المقابل للنافذة تسمعني ترتيلا غريبا وتجوب أمامي كأنها رؤوس مقطوعة. لم يكن بإمكاني أن أغلق لوح الشباك لأنه لم يكن موجودا أصلا ولأني لم أكن أقوى على الحراك. كانت الساعة الحائطية تنخرط هي أيضا في لعبة السهاد. كانت تتوارى عني ثم تعود لتنبهني إلى انغماس الليل في طول قاتل... العاشرة... العاشرة وعشرة دقائق... العاشرة وواحد وعشرين دقيقة... العاشرة وخمسين دقيقة... الحادية عشرة.... الحادية وثلاثون دقيقة... الواحدة بعد منتصف الليل.... الواحدة والربع.... الواحدة وثماني عشر دقيقة.... الثانية بعد منتصف الليل... كان تفكيري المشوش يزيدني تشضيا. لم أكن استطيع أن اجمع فكرة واحدة تبعدني عن عقال الوساوس وتنسيني غول الوقت وزبانية الدقائق وتخرجني من الشقة.

كنت عاجزا عن الإمساك بخيط واحد أستقيم به ويشد من أزري ويستقيم بي ويبعدني عني ويوغل بي في صفاء ورتابة بسيطة تعيدني إلى النوم لكن ذاكرتي كانت بلا باب يولج. كانت كالعماء. لازالت الساعة تلاعبني وتخرج دقائقها ببطء وتمسكني. كانت تعود بلعنتها وتعود بالليل إلى طوله..... الثانية والنصف بعد منتصف اليل.... الثلاثة بعد منتصف الليل. جاء الفجر أخيرا عند شباكي.. كان نوره وضياءه الكسول مريبا. كل ما كان يفعله هوأن يتسلل في ببطء ويوارب الشباك بضوء خفيف مضطرب يزيدني إحساسا بالكارثة. لكنه يكاد بدوره أن يقتلني. ثمة حقا من يضغطني وينفخ في أوداجي ويكورني. إني أكاد أن اجن وأكاد أن امضي في البكاء بلا تردد لولا أني كنت دائما أقف عند الأعتاب والتمترس عند الحافات والوقوف على خطوط النهايات دون أن أتخطاها أوأهفوعنها.

وكانت تلك بعض من لعنتي الفجر عندي. ولا أضنني سأظفر عنده بالطمأنينة ولا بعض من النوم الذي بحثت عنه ليلة كاملة. لم يكن في لائحة النور المتثاقل مع صلف الظلمة المتبقي ولا لتلاشي تركيزي رجاء ولا أمل في أن أستريح من هذه الزلزلة وهذا التململ. كان الفجر يقرر براءة الليل من علة السهاد ويستمر في الإعلان عن خطيأتي وعن خسارتي لم يعد بإمكاني المكوث في الشقة. وضعت رأسي تحت الصنبور وجعلت أتلذذ الماء البارد وهويلامس شعري الخفيف ووجهي الجامد. كنت أود بحق أن استرجع بصقيعه بعض توازني. لم تكن في وجهي قطرة حياة واحدة أودفقت نور صغير في عيوني المتعبة. وكانت المرآة المترهلة تزيد هذا الإحساس الفاضح. كنت بحاجة إلى منبه قوى يعينني على الوقوف وربما إلى قطع من السكر تفتح ما استغلق في ذهني وشوشني. كنت بحاجة إلى أن ادفع عني الاكتئاب الذي وضعني عند قدميه وكتب ارقه في أجفاني المكتحلة بسواد التعب. وجعل أنفاسي لهاثا. كنت بحاجة أيضا لان أوقف تبرمي الدائم والمرضي وأن ابتعد عن الإحساس بالفاجعة والإحساس بالكارثة والتهمة وأن يغمسني في الحياة بالكلمات البسيطة وبالأسماء الموجودة في المعاجم. ولكني شقي في كل هذه الكتلة الدابة على الأرض والمعلقة إلى غير سماء، والى غير شيء. كيف يمكن أن تعيش داخل الفاجعة وان تضحك أوتغني بصدق وأن تصل بالحب إلى قلب يؤويك. دخلت المقهى متعبا واتجهت إلى الكنتوار.

نظرت إلى عم مصطفى ". صباح الخير. اكسبريس شديدة الضغط. فضلك. أين السكر. أريد ثلاثة طوابع. لا تنتظر أن أعطيك النقود. لقد خرجت على غير هدى. نسيت حتى حقيبتي. هل رأيتني قبل بدونها. لايمكن. لايمكن أن أكون أنا. قلي بربي أترى يكون الطقس غائما وممطرا. لا أريد أن اضطر للعودة إلى الشقة. لا أريد اضطر أن أعود إلى هذا الحي. لن أعود حتى ولوأمطرت كل السحب على رأسي. كان عم مصطفى ينظر إلي ودون أن يكلمني كعادته أوينبس بحرف واحد. كان يعمل في صمت لا يغير غير معالم سحنته ليعطيك الانطباع انه يتابع معك الحديث. دفع القهوة أمامي في حركة ميكانيكية أنيقة ودفع معها السكر كانت الشمس تشير إلى بعض الدفء الذي ينتظر المدينة. كانت الحركة قد بدأت تدب فيها.. عادت الأصوات المختلطة إلى الشارع الرئيسي بعد أن أطبق السحاب وأطبق المطر عليها لمدة أسبوع كامل أصرت النشرات الإخبارية والنشرات الجوية على فوائدها الجمة على موسم فلاحي طيب. كانت تريد أن ترفع المزاج العام وان تبرر حتى التفاؤل. كان كل شيء يبدومبللا ولامعا. كنت أسير وأنا أحاول أن أجاهد لتجنب البرك التي احتلت حتى الأرصفة فقد كان الإجهاد يمنعني حتى من محاولة القفز. جعل الوهن يراقصني والماء والترح ولا يقفز فيا إلا الجفاف. كنت امشي كسكران بلا نشوة ولا غياب ولا كلمات نسيان.

كنت أمشى على غير هدى. اطا الأرض واسمع لوجيبها إني أكاد أن اجن. احس تنتقل حركة المدينة إلى رأسي. كأن أذناي قمع لكل الخليقة التي تتجول حولي. تترادف كل الأصوات فيها وتتكاثف. أصوات السيارات وأصوات العجلات وهي تمخر البرك وتضع للماء صوتا وأصوات الباعة وأصوات التحيات الصباحية وأصوات الأحذية النسائية المدببة وصوت الصداع الذي بدأ يشتد. يكاد رأسي أن ينفجر وقد أصبح بحق مثل قوقعة تحتفظ بهدير البحر. تكاد الهواجس أن ترفسني وتربطني إلى التوجس والى الخيفة والخلط والوهم وأكاد لا اذكر غير أسماء قليلة ممن اعرفهم ويعرفون أني أصبحت أحب الصمت " لا احد يعرفني في هذه المدينة. لا يعرفني في هذه المدينة احد. صدقني يا صالح لقد أصبحت غريبا مثل كل حجارة هذه المدينة الآسنة بالأبخرة والكذب ". جذبني صالح إلى الكرسي المنثور على الطريق، بعد أن سمحت البلدية للمقاهي ان تخرج فتنة الجلوس إلى الأرصفة. ضغط على يدي وهويبدي تعاطفه مع نبرة اليأس التي كانت كل صوتي. كان يقول كلاما كثيرا وعظيما مليئا بالحكمة. كان يبرر أن القلق دليل الحياة وأن التعب واليأس هي الأكثر قسمة بين البشر". الراحة معنى، أبدي والسعادة كذلك ليست إلا غفلة عن المعنى الحقيقي للبشرية. لا تحزن وانغمس في الهيام بشيء تحبه هل تريد أن تشرب شيئا. أنا أريد أن اجلس إليك". دفعت يدي إلى كتفه وقلت شكرا وأنا انسحب في سرعة". أراك يا صالح لاحقا. قلت لك أن لا احد يعرفني في هذه المدينة. " لا يمكن أن صدق ما جرى. لا يمكن أن استوعب أني أضعت الفرصة لدخول سلك الأساتذة الجامعيين. كنت سأرضى فقط بخطة ملحق بأحد المعاهد العليا.

كان الحنق ينتابني وأنا أواجه الأساتذة المكلفين بالانتداب. لم أستطع أن أتمالك نفسي أمام استهزائهم بالنتائج التي توصلت إليها في رسالتي واتهامي بالسرقة وعدم الأمانة كان كل ذلك يحفزني أول الأمر على الإطناب في تحليل النتائج والدفاع عن أطروحتي لكن تعنت الدكتور غريب أوصلني إلى فورة من الغضب القصوى لم أعد معها قادرا على كتمه. كنت مطالبا بأمر خارق. كان على أن أتكلم وان أكظم الجموح الذي يكسوني حتى أخمصي لكني لم استطع أن شد على نفسي. كان العرق بتصبب من كل جزء في جسمي كان الأمر مستحيلا"لا يمكن لكم محاكمتي. اختلاف المنظور والتصور ليس أمرا طارئا في التحليل العلمي سيما إذا كان الأمر متعلقا بعلم إنساني كعلم الاجتماع. لقد لقنتمونا طول السنوات الأولى للطلب أن تجميع السند العلمي لا يكفي من دون تحليل كاف وان النتيجة مرهونة بعمل الترتيب والحفز العلمي لعناصر دون أخرى. وليس من صميم البحث أن يشاكل أويطابق التحاليل التي تندرج في الموضوع نفسه أوتاطره.

أنا بحق آسف لعدم مطابقة نتائجي لنتائج أستاذنا الكبير ولكني برهنت على ما توصلت إليه. وأحب أن أقول إذا أغفلت أن اذكر أطروحتا ما فلخلل في تداول المعلومات في مكتبات الجامعات التي زرتها والتي أذكركم أني زرت جلها. أنا بحق لا استطيع أن افهم.... " لم استطع أن أكمل الحديث. أبلست، وكان الصمت يقتسمنا لبرهة حتى بادرت الدكتورة سكينة "اللجنة تأسف لعدم قبولك في هذه الدورة لكن بإمكانك أن تمدنا ببحث مستقل جديد في المرة القادمة. تأكد أننا سنعتمده إذا كان جادا وعلميا" كانت أعينهم كالفراغ وكنت نارا تلظى. خرجت متبرما وغير متحسر على صفاقتي وأنا متأكد من أن اللجنة تتهكم وتسخر مني هذه المدينة لا تعرفني. تهرسني وهي تلفظني مثل علكة رخيصة بعد أن تلوكني وتزيد يقيني بالعجز. أحسست أني بحق كنت اكتب طلاسم وألغازا لا تحل منذ انخراطي في البحث الجامعي. خربشات مثل التي كتبها صبية بطبشور احمر على حائط قديم شرعت أتبول عنده وأنا انظر يمنة ويسرة. كنت بحق خائفا من يخرج احد من إحدى الدور القليلة في هذا الزقاق غير النافذ.

بقلم: سعيف علي الظريف

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى