الأربعاء ٢٩ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم مصطفى أدمين

في المِريَشَة ْ

نونْ، الشقراء المزوّرة، ذاتُ الصدر المهترئ... سينْ، الحوراء الحقيقية، ذات الردفين المثقلين بالهموم... باءْ، الحمقاء غير العارفة بحمقها، ذاتُ الامتدادات الشحمية الكسولة... لامْ، اللطيفة الحربائية، ذاتُ العسكري الغارق في حبِّها... فاءْ، الشبيهة بالنصرانية، صاحبة ذلك الرجل الذي لم يعدْ صاحبي... كافْ، المراكُشية، بنتُ أكادير بالصدفة، ذاتُ الضفائر الاصطناعية، الزنجية الجميلة اللعوبة بالورق مع ربّ الفندق؛ ساعةً قبل افتتاح (المِرْيَشة)...وليلايْ، ذاتُ الجمال الذهبي و الصدر الذائب في الحب...

لِلَيْلايْ ثلاثة عيوب فادحة:

الأول: كونُها جميلة حدَّ الغرور،

الثاني: كونها خجولة حدَّ الجرأة المفرطة،

والثالث: كونها تثق في أيّ كلمة أقولها.

قلتُ لها ذاتَ خمرة: أحبّك. فانفجرت جمالا جديداً في لون الياقوت الأصفر. ومنذ ذلك التصريح الغارق في الكذب، لم أعدْ أراها إلاّ زائدةً جمالا على جمال، حتى أنّني أُصبتُ بالتخمة الجمالية.

وفي ليلة كذب أخرى قلتُ لها بفم سكران:

  سأتزوّجُك. فطار عقلُها من فرط الثقة، و شرعت تبدو عليها علاماتُ الحمل على الرغم من أنّني أستعمل معها (العازل الأدبي) و هي تتناول الأقراص المرقّمة المانعة للمشاكل... كان حملاً كاذبا، فأجهضتْ قطعةً من جمالِها و صارت تبدو في لون الكستنة. وأنتم تعرفون أنّ لباب الكستنة لذيذ للغاية.

لم يقلقني زوالُ بعضٍ من لونها الذهبي المعهود، واستمررتُ آكلُ مِمّا تبقّى منه ليلة بعد ليلة حتى أصبتُ بالإسْهال العاطفي فما صرتُ صالحاً إلا للكذب.

وفي ليلة كذبٍ أخرى على مشارف الصحو؛ قلتُ لها:

  أنا لا أحبُّك.

فصدّقتني على الفور وانفجرتْ غضباً جميلا وقالت لي:

  وأنا لا أهتمُّ لهرم قضّى عمرَه يُطاردُ النساء في الحانات !

كانتْ تكذب... كنتُ أكذب... كنّا نتكاذب... كان الكذبُ هو القوّةُ الاجتماعية التي تجمعُنا وتفرّقنا.

في تلك الليلة، انصرفتْ في فوضى شعرها الذهبي الثائر، وجلبابها الأسود الأسيل المنمنم، وكلماتي الكاذبة العالقة بأهداب عينيها الخضراوين المائلتين جهةَ الوهم.

انصرفتْ هي وبقيتُ أنا؛ فجاءت إليَّ بناتُ الفندق تاركاتٍ دُيوكَهِنّ و عملية ترييشِها إلى حين. جئن إليَّ ليس ليُريِّشْنَني، وإنّما لاستطلاع الأخبار.

هنَّ يعلمْن أنَّ جمالَهُنَّ المصطنع لا يرقى إلى جمال ليلايْ. هنَّ عاريات من الحِليّ و ليلايْ باذخة الجمال بشعر من ذهب حقيقي وأساور وخلاخل وسلاسل وأحجار كريمة... لِليْلايْ ترسانة حقيقية من أدوات الاستعباد وأشغال الحب الشاقّة.
بنات الفندق جئن فقط ليعرفن ما جرى بيني و بين تلك المرأة التي دوّختْ بجمالها ألفَ رجل و سوّفتْ ألفَ طلب ولكنها في النهاية وقعت في غرام رجل هرم، أديب، أحمق و كذاب.

أنا لستُ شرّيراً ولكنني لا أحبُّها... بل أحبها... بل لا أحبها... بل أحبها...

أنا شخصٌ ملولٌ فقط وهذه مشكلتي؛ المرأة عندي رواية وأنا لا أحبُّ قراءة رواية واحدة طول حياتي.

الالتزامُ بقراءة رواية واحدة مدى الحياة، جنون؛ وأنا أحمق ولكنّني لستُ مجنونا.

هي لا تعلمُ ذلك، لذا انصرفتْ وتركتني لندم مفترض.

هي ليستْ مثلي؛ فأنا هوائيٌ بُرجاً وهي ترابية... أنا رومانسي وهي واقعية... أنا متحوّلٌ وهي ثابتة... أنا أناني وهي غيرية... وهنا يكمنُ المشكلُ الحقيقي الذي يجعلني - ربّما- أحبّها بكراهية دفينة... فهي الليلةُ لي، وغدا ليلاً ستكون لغيري، وبعد غدٍ ستئول لي، وبعد بعدٍ غدٍ ستكونُ لغيري...

ربّما أنا غيور؟ !

وكونُها فتاةٌ من فتياتِ الفنادق لا يعني لي أيّ شيء؛ فهي مثل رواية جميلة تتداولُها الأيدي سواءً كانتْ هذه الأيدي عارفة بطقوس القراءة وملابساتها أمْ لا.

لِليْلايْ سيّارة جوهرةٌ وشقّة مقتضبة جميلة و أثاث مستورد من سوريا وعملٌ موسمي بشركة الطيران ورصيدٌ ماليٌ محترم وذكرى رجلٍ ماتَ في حادثة نوم... ولكن، ما ليسَ لها هو رجلٌ قادرٌ على الكذب عليها باستمرار... رجلٌ كذوبٌ مثلي.
هي تعشقني لهذه النقيصة وتكرهني بسببها؛ وأنا أعشقها وأكرهها من دون سبب.

ربّما لأنّني كرهتُ جميع الروايات التي نمتُ معها على مدى نصف قرن من الزمن.

الحبُّ، دوماً الحب...

والصراع، دوماً الصراع...

وأنا ما عدتُ ذلك القارئ الجندي الذي عليه الدفاعُ عن أوهام الوطن.

من المخدّة التي أتكئُ عليها، تطاير ريشٌ أحمر، والبناتٌ من حولي نسيْن – على ما يبدو – لماذا جئنَ إليّ؛ فشرعن يقرعن كؤوسهنّ بكأسي ويُكَرْكِرْنَ ويتغامزن حتى أزفَ الوقتُ وانتهى إلى قبره.

في الحين، وجدتُني أبحث في جيوبي عن بقيّة نقود فلمْ أجدْ سوى الهباب، فامتطيتُ رجلايَّ عبر مخاطر الشوارع الليلية والفضاءات الخالية إلاّ من الهوام وأنا أفكّر في تلك الليلى التي كان لي فيها عشقٌ وكذبٌ كبيرين...
كنتُ - على الرغم من كلّ شيءٍ - سعيداً بها وفيها؛ ولكنّني كنتُ حزيناً أيضا.

شيءٌ مّا لمْ أدركْ حقيقتَه: ليلايْ الهاربة من جحرها من دون سبب مقبول لدى ساكنة جحرها... صاحباتهاْ اللواتي لمْ يُريِّشنَني... أم أنهنّ ريّشنني وأنا لا أدري... الريشُ القاني المتطاير من المخدّة على الرغم من أنّها محكمة الخياطة... الحبُّ الكسولُ المتاخمُ لأنفاق الكراهية... المرأة بصفة عامّة... الرواية بصفة خاصّة...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى