الخميس ٣٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم ياسمين مجدي

قدس الرواية الفلسطينية

الحنين إلى حلم المدينة المستعادة

شغلت أطلانطس - تلك المدينة الساحرة المفقودة تحت الماء- أذهان الجميع، لأن للمدن حضارات وحياوات تطاردنا إلى أبد الوجود، كما أن للأماكن المفقودة طعمًا خاصًا. القدس هي مدينة أخرى مفقودة، صحيح أنها موجودة، جغرافيًا، فوق الأرض، إلا أن العربي الفلسطيني لا يصل إليها، لأن هوِّيته المكانية مقموعة، لذا فاختيار القدس كعاصمة للثقافة العربية، لعام 2009، أكد على مقاومتها من أجل البقاء في الوجدان العربي.

أحد سبل الوصول المستحيل للمدينة هو الإبداع، لتصبح الروايات المكان الذي يستعيد فيه الفلسطينيون أوطانهم، بعيدًا عن كل معاناتهم معه، لأنه، كما تقول الفيلسوفة وعالمة الجمال الأمريكية؛ سوزان لانجران: "الرموز تستدعي تصوراتنا الخاصة عن الأشياء... ويساعد الرمز على تحرير التفكير من المنغصات المباشرة الخاصة بالعالم الطبيعي المباشر"([1]). كما أن الفن، كما ذكر فرويد، وسيلة لتحقيق الرغبات في الخيال، تلك الرغبات التي أحبطها الواقع. والتي منها حاجات الحب والانتماء، التي أكد عليها إبراهام ماسلو، عالم النفس والاجتماع([2]). ليصر الأدباء على إبراز الهوِّية في رواياتهم، بعد أن ضاعت أو كادت تضيع الهوية المكانية([3]).

مثلت القدس أهمية خاصة في كتابات الأدباء الفلسطينيين، نظرًا لأنها العاصمة التي حملت أحلامهم، هم قاطنو المدن الفلسطينية المختلفة. كما أن للقدس مكانة أدبية خاصة، حيث شهدت صدور أول رواية فلسطينية، وهي "الوريث"، للكاتب خليل بيدس (1920). ليعيش الأدباء بذلك في روايتهم قدسًا خاصة، قدس الرومانسية، والحب، والذكريات الجميلة، خاصة بعد عام 1967، إذ "إن المشهد الروائي الفلسطيني، حتى سنة 1947، لم يكن سوى محاولات سردية مبعثرة"([4]). أما بعد النكبة، فقد ضاعت المكتبة الفلسطينية بشقيها؛ العام والخاص، إلى أن كانت هزيمة 1967، فأدت إلى تصاعد مذهل في معدّل الروايات، الذي وصل، بعد النكسة، إلى ثمانية أمثال العدد، في الفترة السابقة عليها([5]). لتتنوع القدس داخل الروايات، ما بين ظهورها كمحور للأحداث، أو هامش جوهري.

القدس محور الأحداث
استمدت عدد من الروايات عالمها من عالم القدس، ومن أوائل تلك الروايات، "الكابوس" لأمين شنَّار (1968)، "التي رمز فيها إلى فلسطين كقرية، وإلى القدس بالبيت الكبير، الذي يحاول الغرباء الاستيلاء عليه بمزاعم أن لهم الحق بالقرية والبيت الكبير!" ([6]).

لتصبح القدس فضاء، تدور فيه أحداث روايات كثيرة، وإن اختلفت طريقة طرحها من كاتب لآخر، وفقًا لظروف نشأته. ليتناول الكتاب المقدسيون - الذين يعيشون في القدس- المدينة بطريقة تختلف عن المقدسيين المنفيين، وحتى عن المنفيين من أبناء المدن الفلسطينية الأخرى.

أ‌- الكتاب المقدسيون المقيمون في القدس
افتقد هؤلاء الكتاب حقيقة القدس، وتاريخها العربيين، رغم بقائهم داخلها، مما دفعهم لاستلهام التاريخ في أعمالهم، كأنهم يعودون إليه، ليستخدموا وقائعه في سبيل إثبات عروبة مدينتهم. بدا ذلك في رواية "برج اللقلق"، للأديبة المقدسية ديمة السمان (2005)، التي تدور أحداثها في القدس القديمة، في برج اللقلق، تلك المنطقة المرتفعة، التي تُشرف على المسجد الأقصى. ويمتد زمن الرواية من أواخر العهد العثماني حتى نهاية القرن العشرين، من خلال عائلة "آل عبد الجبار"، التي تقطن باب اللقلق. ويتأكد حرص الكاتبة المقدسية على استغلال التاريخ لتأكيد عروبة القدس، من خلال سردها لطبيعة حياة المقدسيين، وعاداتهم، وتقاليدهم، وإصرارهم على مكافحة المحتل من أتراك، وبريطانيين، وصهاينة. وكان لأسرة "آل عبد الجبار" دورًا رئيسيًا في المقاومة، فتنتهي الرواية بعملية تفجيرية، يقوم بها أحد أبناء العائلة.

في المنطقة التاريخية نفسها جادت رواية "صبري"، للكاتب المقدسي عزام أبو السعود (2008)، بعالم مشابه عن القدس، في فترة الانتداب البريطاني والهجرات الصهيونية، ما بين 1914 و1929. وطرحت الرواية لعادات وتقاليد ومستجدات القدس آنذاك، مثل انتشار الفقر، في أواخر العهد العثماني، وتوزيع تكايا القدس لحساء الفريك، مجانًا، على المحتاجين، ومن بينهم أبناء العائلات المعروفة.

ب‌- المقدسيون المنفيون
أما المقدسيون المنفيون خارج فلسطين، فكتب بعضهم روايات تدور داخل فلسطين، كأنهم بهذه الطريقة يستعيدونها، في عالم روائي افتراضي، من خلال ما يكتبونه من حكايات تدور في أزقتها، وحواريها، ومساجدها، وكنائسها، مثل خليل السواحري أو "قمر القدس الحزين"(])، المنفي من القدس، عام 1969، والعائد إليها، رغمًا عن الاحتلال، بقصص تدور في فلك مدينة القدس، لعل قصصه عن القدس تجعله كالحمام، الذي "له التصاقًا عجيبًا بالمكان، فهو حين يغادره إلى السماء، لا يلبث أن يعود إليه... حتى وهو يعلم أن مصيره أو مصير فراخه الذبح"([7]).

فظهرت مجموعة "مقهى الباشورة" (1975) للسواحري، لتصور الريف المحيط بالقدس، بعد عام 1967، من خلال أوضاع القرويين تحت الاحتلال. وتلتها مجموعته "تحولات سلمان التايه" (1996)، متناولة القدس من المناطق المحيطة بها من الشمال، حيث يحتشد الفلسطينيون، بعد أن حرمتهم إسرائيل من إقامة أي مبانٍ في القدس الجديدة خارج الأسوار، كما صادرت بيوتهم في الداخل.

تدور أعمال الروائي المنفي نبيل خوري، أيضًا، في فلك حارته؛ حارة النصارى، في القدس القديمة، التي كانت بطل الأحداث في "الثلاثية". تحدث الجزء الأول؛ "حارة النّصارى" (1969) عن شاب مقاوم سقط شهيدًا في عدوان حزيران 1967، لتعيش زوجته معاناة نفسية، بعد موته، وهي ترى الخونة يرثون القدس: "الجبناء ينامون الآن بجانب زوجاتهم وأطفالهم... إنني أراهم كل يوم يمشون في الشارع بلا خوف... القدس لا تستأهل. ولا حتى حارة النصارى"([8])! لكن سرعان ما تفيق البطلة، تستعيد نفسها، ومدينتها، حينما تشتعل الثورة، فتقول: "أمس نزعت السواد المحيط بصورتك... أنت لم تمت، كل فدائي هو أنت"([9]). فربما يكون هذا هو حلم الروائي نفسه، ليستعيد صورة حارته، وينزع عنها الشريط الأسود. فالقدس حاضرة لديه، حتى وهو يكتب في الجزء الثالث من الثلاثية؛ "القناع"، عن بطل من القدس، يعيش في باريس، ورغم أنه لا يشعر حنينًا قويًا، فإنه لا يمكنه الهروب من مدينته.

لتظل حارة النصارى، الحارة الخصبة، التي دفعت رشاد أبو شاور، ليختارها مقرًا لعلاقة حب في قصة "عودة الغريب"، حيث العاشقان يرتبطان ببعضهما وبالحارة، التي يفارقاها ويفترقان، لكنهما يعودان إليها، مرة أخرى، من أجل العمل الفدائي، لكنهما لا يلتقيان، فيقول: "آه يا قمري... ها هي أقدامنا تعانق أرضنا بعد غياب طال.. ها هو الغريب يعود حاملاً النار، والحقد، والتحدي، أتستطيعين رؤيتي؟!"([10]).

يصبح بذلك نبيل خوري، وخليل السواحري نموذجين على الكتابة عن مناطق بعينها في القدس، وذلك على سبيل الحنين لمناطق النشأة والطفولة، ليختلف ذلك مع محمود شقير، الذي دفعته سنوات المنفى الطويلة، إلى الكتابة عن أماكن القدس كلها، التي عاد إليها، أخيرًا، ليعيش بذلك عمرين؛ واحد في العالم الحقيقي في شوارع القدس العائد إليها؛ والآخر على الورق، يستعيد، من خلاله سنواته الضائعة، التي لم يعشها في القدس، فامتلأت أعماله بحياة تلك المدينة وناسها، كما ظهر جليًا، في مجموعته القصصية "خبز للآخرين وقصص أخرى" (1990)، فيحلم بطل قصة "البلدة القديمة" أن يصلي ركعتين في القدس، لكن جند الاحتلال يمنعونه، فيقرر أن يعترف بهزيمته، حين يجمع أهل بلدته، "ولسوف يضحكون، حينما يبصرونني ألبس ثوب مرتي.. ولكنني، سأبصق في وجوههم، وأقول لهم قصوا لحاكم وشواربكم"([11])!، ذلك الانكسار الذي يشعره شقير تجاه مدينته، بدا بقوة في "ظل آخر للمدينة" (1998)(**)، التي تحدث فيها، عن ذكرياته مع أماكن القدس، قبل أن يُنفى عنها، وعن محاولاته لاسترجاعها عند عودته، لكنه يكتشف أن اليهود أبادوا جغرافية ذكرياته المكانية، لكنه ظل محتفظًا بها في قلبه، "تلك المدينة التي نادتني ذات فجر بعيد، فبقيت مشدودًا إليها، كأنها أمي التي ولدتني"([12]). ويظل شقير في حالة استعادة دائمة لأيام وشخوص قدس صباه، فيخرج مؤخرًا بكتاب "مرايا الغياب: يوميات الحزن والسياسة" (2007)، حول شخصيات عرفها في القدس.

عائدة أخرى، هي المقدسية المولد؛ ليانة بدر، التي عادت بعد "اتفاق أوسلو"، لتقطن رام الله. والتي، لتنقُّلها في صباها بين أكثر من مدينة فلسطينية، بدا صوت القدس خافتًا في كتاباتها، إلا أن بعض كتاباتها دارت في المدينة، مثل قصتين من مجموعتها: "سماء واحدة" (2007)، هما قصة "طريق رقم واحد" التي دارت في القدس الشرقية، قبل احتلالها عام 1967، حول حياة الأطفال الصعبة، آنذاك، وهم يبيعون الحلوى للسيارات، ليحصلوا على نقود يتعيشون بها. وقصة "منتزه ديناصورات"، حيث العم مهدد منزله بالهدم في القدس، لأنه لم يتبع القواعد الإسرائيلية في البناء. ليظل المكان الأصلي بالنسبة لليانة في مخيلتها: "مثل ضوء منارة تبثّ إشارتها للسفن البعيدة، هكذا أحسّ كلما تذكرت القدس مسقط رأسي، والخليل بلد أهلي، وأريحا، حيث عشت طفولتي وصباي"([13]).

بهذا كتب المقدسيون المنفيون عن مدنهم، فدارت أجواء رواياتهم في المدينة الأم القدس، أو في مناطق بعينها داخل القدس.

ت‌- المنفيون من أبناء المدن الفلسطينية الأخرى
نوع آخر من المنفيين، تدور رواياتهم في القدس، رغم أنهم ينتمون إلى مدن أخرى. فلعل ذلك من قبيل الحنين إلى العاصمة، باعتبارها بوتقة حلمهم. وهم يرون القدس في مكانة خاصة، كالجنة، أو كالقنطرة، التي تنتظر فيها الأرواح، وذلك بدا في قصة "بئر الأرواح"، للكاتب اليافاوي عدنان كنفاني، المقيم في سوريا، والتي تحكي عن بئر عميق، يقع تحت صخرة عظيمة في ساحة الحرم في مدينة القدس، يُحبس فيه أرواح الناس، حتى يوم النشور، وسارة التقية، زوجة إبراهيم، حارسة على بئر الأرواح، حتى يوم الحشر، تسألهم عن أمنياتهم الأخيرة.

سبب آخر يجعل الأدباء غير المقدسيين المنفيين يكتبون روايات تدور في القدس، مثل سحر خليفة، التي ذكرت في رواية "الميراث" (1997): "البيك ابن القدس، الذي جاب العالم، بحثًا عن المجد والتجارب، وجد، في نهاية الأمر، أن القدس هي الأروع". لذا لم يكن غريبًا ارتباط خليفة بالقدس، هي المولودة في نابلس، لأنها ترثو نابلس، من خلال رثائها للقدس، كما قالت: "كتاباتي كلّها عن نابلس، مسقط رأسي... حتى حينما كتبت عن مدينة القدس في روايتي (صورة وأيقونة وعهد قديم)... فإن أوصاف البلدة القديمة في القدس تكاد تكون صورة مكبَّرة عمّا اعتدت عليه في بلدة نابلس القديمة"([14]).

لتدور أحداث روايـة خليفة "صورة وأيقونة وعهد قديم"(*)(2002)، في القدس، حول إبراهيم، الشاب المسلم، الذي يقع في حب مريم الفتاة المسيحيّة، في إحدى قرى القدس، وفي رحلة لهما إلى مدينة القدس يقضيان ليلة معًا، فتحمل بصبي، بعدها يهرب إبراهيم. لتبدو مريم كأنها رمز للقدس، وابنها هو التاريخ الشاهد الوحيد على هرب أبيه إبراهيم، إثر احتلال الضفة الغربية عام 1967، ليعود إبراهيم، بعد سنوات قضاها في الخارج، غنيًا وتعيسًا، يبحث عن ابنه، أو "تاريخه، وتاريخ القدس"، فيرفضه ابنه، ومريم، التي اختارت الرهبنة في دير نوتردام في القدس، ترفض الاستماع إليه، فمريم هي المدينة الضحية، التي تعيش في الدير، لا تجد شيئًا يعوِّضها سوى الالتجاء إلى الرب، والدين، ملجأها الوحيد هي العاجزة، بعد تخلي إبراهيم عنها. لتصبح بذلك "الرواية مرثية لمدينة الراوي الحبيبة؛ مدينة القدس، التى هجرها أنبياؤها الجدد سعيًا وراء أموال الخليج"([15]).

في هذا السياق الرمزي، يكون مشهد النهاية، حين يقع إبراهيم وسط معركة في ساحة المسجد الأقصى، بين جند الاحتلال الاسرائيلي والمصلين، ولم يُنقذه من الموت إلا امرأة كانت على علاقة بمريم، وقد يشير ذلك إلى أنه، رغم كل شيء، فإن القدس لا تتخلى عن أبنائها.
جاءت هذه التيمة لتشبيه المرأة بالقدس مكررة، بعد رواية "غزل الذاكرة" (1997) للكاتب يوسف العيلة، المولود في قلقيلية، حيث تخلى نبيل عن عايدة، أو "القدس"، التي قاومت إغراء تاش الأمريكي، وكوك الإنجليزي. ولدى غياب نبيل تقع نبيلة فريسة لغواية اليهودي؛ بن نفتالي ديفيد، الذي يغتصبها، بعد سلسلة محاولات، قاومته خلالها، فتحمل بطفل، تسميه "جاد"، وتلقي باللوم على نبيل، الذي تركها لذلك المصير. أما رمزية عايدة، فتبدو من خلال حديث الراوي عنها، حيث تتجلى بتسميتها وطنًا تارة، وقلادة عسملية، طورًا، مع تأكيد رمز القلادة إلى الدول العربية، تحديدًا فلسطين. يصور الكاتب عايدة، في نهاية الرواية، وقد راحت تزور ابنها جاد، وتلتقي مع تاش وكوك، وتعقد اتفاقات معهم، فيظن بأنها تتآمر ضده، معهم، ويبقى مصيرها معلقًا، دون تحديد([16]).
يظهر بشدة اختلاف رواية سحر خليفة عن رواية زكي العيلة، فكلاهما استخدم امرأة داخل قصة حب، كرمز للقدس، إلا أن خليفة تعاطفت مع المرأة، أو القدس، بينما أدانها العيلة. ويرجع ذلك إلى أن خليفة، بطبيعتها متعاطفة مع المرأة، في كل كتاباتها، وتعبر عن قهر الرجل لها، لذا رمزت للقدس بالمرأة الضحية. أما العيلة فقد رمز للقدس بامرأة تحوم شكوك حول خيانتها، وذلك لطبيعة الفترة التي كتب فيها روايته (تسعينيات القرن الماضي)، وهي الفترة التي شهدت التفاوض الفلسطيني ــ الإسرائيلي، وجهًا لوجه، والذي أثبت فشله في تحقيق حلم فلسطين (الدولة المستقلة)، مما أدى لكتابة العيلة الناقدة الحادة، الحاملة لملمح التخوين.
دار عدد آخر من الروايات والقصص في القدس، وكان موضوعها الانتفاضة، الحافلة بالأمل، مثل قصص جمال جنيد، المولود في دمشق (1949)، حول انتفاضة الأقصى. فقدمت قصة "الزهرات الثلاث"، صورة جميلة للانتفاضة، عن طريق الشيخ، الذي يلقي حجارته من مكانه في المأذنة العالية، المطلة على بوابة المهدي، في القدس الشرقية. وفي قصة "مازال بيننا"، مات طفل شهيد، وهو يلقي بحجره في القدس، وبعد فترة يولد صبي آخر، فيسمونه على اسمه.

***
يمكن القول إن عددًا من الروايات دارت أحداثها داخل مدينة القدس، فاهتم المقدسيون، الذين لا يزالون يقيمون في القدس، باستعادة التاريخ العربي للمدينة، عبر عدد من الروايات التاريخية، ليؤكدوا هوية مدينتهم. أما المقدسيون المنفيون، فكتبوا أعمالاً دارت داخل مدينة القدس، لعلها تنجح في منحهم شعورًا بأنهم عادوا، ولو في الخيال، فكتب هؤلاء الروائيين عن القدس كلها، أو عن الأماكن التي نشأوا فيها في طفولتهم . نوع آخر، هم الأدباء المولودون في مدن فلسطينية أخرى، لكنهم كتبوا روايات دارت في القدس، باعتبارها المكان صاحب القيمة الخاصة في وجدانهم، العاصمة الضائعة، التي حملت، يومًا ما، بريق صباهم، والتي حين ضاعت، أحبطت آمالهم، فجاءت أعمالهم معبرة عن ذلك الإحباط الكبير.

على حدود القدس
نوافذ على القدس كثيرة، أطل منها أدباء فلسطينيون، كانوا يقطنون مدنًا مجاورة لها، فرسموا القدس في أعمالهم، من خلال تلك المدينة الجارة. جاءت بوابات القدس في مقدمة كتاباتهم، تلك التي تقف بينهم وبين القدس، أهمهم بوابة مندلبوم،(*) التي ظهرت خلال ما كتبته سميرة عزام، المولودة في عكا، عن أشخاص ينتظرون يوم الزيارة على بوابة مندلبوم، ليستعيدوا شيئًا من عالمهم "اسألوا قبل أن تأتي الساعة. اسـألوا كيف يبدو شكل المدينة، هل كبرت الدالية؟. هل امتدت يد آثمة إلى أغراس الزيتون؟... اسألوا، وتملوَّا مما تسمعون، فذخيرة الذكريات التي تحملون هي الشيء الوحيد الذي لا تجور عليه العاديات"([17]).

البوابة نفسها كتب عنها إميل حبيبي، عام 1954، فعبَّر عنها في شخوص تتحرك بدرامية عنيفة، عبر انتقال والدة البطل الراوي من الناصرة إلى القدس، من خلال بوابة مندلبوم، تلك المنطقة الحرام الفاصلة بين الإسرائيليين والأردنيين، بين شرطيين، أحدهما إسرائيلي والآخر أدرني، والطفلة الصغيرة لا تعرف الفرق بين جندي يضع عقال، وآخر حاسر الرأس([18]).

إذا ابتعدنا قليلاً، فسنرى القدس، من خلال القرى المجاورة، التي كان منها المالحة، قرية رواية "الطريق إلى بيت لحم" للروائي رسمي أبو علي. إنها "واحدة من هذه القرى التي تحيط بالقدس، إحاطة السوار بالمعصم، والتي يقال إن صلاح الدين أنشأها، لتكون سوارًا أمينًا للقدس"([19]). وتأتي النكبة، لينفصل السوار عن المعصم، حين يسقط أول شهيد من بينهم، بسبب رصاصة تأتيه من قطار قادم من القدس، فتبدو كأنها بشارة، أرسلتها القدس، لتخبر القرويين بأن اليهود سيعبرونها وسيسقطوهم شهداء، أو منفيين. ليهربوا من القرية، وبعيدًا عن مكانهم قرب مدينة القدس يتألمون، حيث الراوي الطفل تعرض لتحرشات جنسية يبكيها قائلاً: "لو كان هذا الحادث وقع في المالحة، لكانت سالت دماء كثيرة"([20]). لكن طالما السوار انفصل عن المعصم، "فثمة طريق وحيد يربط بيت لحم بالقدس، ولكنه الآن مقطوع"([21]). كخيط أملهم المتدلي، في إحباط.

"بير الشوم" رواية أخرى لفيصل الحوراني، ترصد أحداث النكبة، في قرية "بيت دراس"، القريبة من القدس، والتي انتظرت النجدة من القدس، لكنها لم تصلها، فيذهب "مبعوث القرية إلى القيادة العليا في القدس، ليحصل على موافقتها في القيام بإحدى عمليات المقاومة... فحصل، في النتيجة، على توقيع شخص يعمل حارسًا، أو بوابًا في مبنى القيادة العليا الغائبة، التي أراد الكاتب أن يقول إنها غير موجودة، أصلاً"([22]). فقيادة القدس تحوي "ضابط مرهق من كثرة العمل، ومن الفوضى... ينهض، وفي نيته أن يزور زميلاً في حجرة أخرى، ويشكو له ضيقه بالعمل المتراكم طيلة اليوم"!([23])، لتعكس الرواية إحساس الألم المرتبط بالقدس في وجدان الحوراني، لأنها المدينة الحلم، الذي تعلق به، فشعر بأنها تخلت عن قريته.

قرية أخرى مجاورة للقدس، في رواية "زمن الخيول البيضاء"(2008)، للروائي إبراهيم نصر الله، المولود في عمان، عام 1954، لوالدين فلسطينيين من قرية الولجة، قرب القدس، فكأنه يستحضر في تلك الرواية، ملامح قريته، حيث تدور الأحداث، من الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى عام النكبة (1948)، في قرية متخيلة، تسمى "الهادية"، بالقرب من القدس، حيث خالد، يحب ابنة تاجر في القدس، ويتزوجها، لكن الموت يخطفها منه، فيوجِّه خالد مشاعره إلى فرسة بيضاء. ليرمز نصر الله بذلك إلى أن الحب الجميل بين القدس وقراها المجاورة يموت مبكرًا، لكن أملاً ما يظل موجودًا بوجود الفرسة البيضاء.

تظل القدس روائيًا مصبًا لساكني المدن الأخرى، يلتقون فيها، للحظات تحدد فيها مصيرهم، ثم ينطلقون، ليواجهوا ما كُتب لهم، كرواية "دائرة الموت" (*)، للكاتب رجب عطا أبو سرية (1992)، التي خرج فيها صبي من مدينته؛ بئر السبع، ليزور القدس، وهناك يتركه أبيه، ليذهب في عملية فدائية، فيتحول حلم الصبي بالقدس، إلى كابوس، خوفًا من أن يفقد أباه، ويصبح يتيمًا. وسيواجه الصبي لحظة هامة أخرى في القدس، وهي لقاءه بصديقه ابن عمه؛ فارس، ولعبهم لعبة الحرب، يفترقان بعدها، ويرتب القدر لهما رحلة مصير واحدة، فيقول الراوي: "في اليوم التالي لليوم الذي اعتقلت فيه أنا، شرقي النهر، خرج هو ]فارس[ من المعتقل إلى القبر، وخرجت أنا إلى المنفى"([24])! وكأنهما التقيا وهم صغار في القدس، ليحملهما ذلك إلى نهايات متشابهة، هم أبناء القرى، الذين عاشوا حلم القدس، فجنوا الهزائم.

تلعب مدينة القدس، بذلك، دور مركز الأقدار، حيث أحداث بسيطة داخل القدس، تغير مصائر مدن أخرى، برز ذلك في رواية "على جانبي الطريق"، لكمال كاشور (1969)، حيث ساري اليهودية، التي تغوي الجميع، لتحقق أطماعها، تهرب مع البطل إلى القدس الجديدة، وتغير هويته باسم يهودي، إذ بذهابها إلى القدس، تتمكن من السيطرة على البطل العربي، وتحول اسمه إلى آخر يهودي، وهي إشارة إلى أن القدس هي المدينة المركز، التي بسقوطها يضيع جزء كبير من الهوية الفلسطينية، وتضيع بقية المدن..

مبرر ارتباط فلسطينيى المدن الأخرى بالقدس، هو أنها مركز التعليم، الذي حلم أبو علي بطل قصة "ذكرى الأيام الماضية" للروائي رشاد أبو شاور، ببيع أرضه، وتعليم ابنه بثمنها في القدس، فدافع عن أرضه، حتى استشهد. مبرر آخر، ذكره أبو شاور، هو أن الطريق بين تلك المدن هو خط الحياة، كما بدا في قصة "ممنوع التدخين"، حيث نكتشف بأن السائق على خط أريحا/ القدس، الذي تدور حوله شائعات كثيرة، ليس إلا فدائي، نكتشف ذلك حين يقتل مجنَّد يهودي على الطريق، وبهذا فالطريق الذي شقه من المدن الأخرى إلى القدس هو طريق حياة، ورزق، وبطولة([25]). ويبدو من ذلك أهمية رمز القدس في حكايات رشاد أبو شاور، الذي يغازلها، رغم اهتمامه الأساسي بأريحا، فيقول بطل روايته "العشاق": "أنا لا أشعر بالغربة في القدس، ولكنني أشعر بالقهر. القدس عاصمة وطني"([26]).

ويظهر قهر للقدس بوضوح في قصة حسن حميد "في المطعم البلوري"، حين يسأل الصحفي الفرنسي دليله عما تفعله الطائرات الحوامَّة في القدس؟! "فيجيبه: "إنها ترش مادة الكبريت فوق حقول الخضراوات ياسيدي"، دون أن يخبره أن الطائرة كانت ترش الغازات الخانقة، والمسيلة للدموع فوق المخيمات الفلسطينية!
***

بوجود القدس الجغرافي، قرب عدد من المدن الفلسطينية، جعل حضورها الوجداني وثيق الصلة بعدد من المدن، فكتب الأدباء الفلسطينيين عن دورها في حياتهم، بينما عكس آخرون حنقهم على القدس، تلك العاصمة التي انتظروا أن تحميهم، وتستجيب لاستغاثاتهم، لكنهم لم يجدوا، سوى النكبة، والمنفى، وسقوط المدن، بشكل متتابع، إثر سقوط القدس.

القدس الحنين

أدباء آخرون لم يستطيعوا تجاوز ألمهم، فكتبوا عن افتقادهم للقدس، وتنوعت كتاباتهم، فمنهم من كان في الخارج، لظروف عمله، وبالتالي لم تكن القدس محجوبة عنه، قسرًا، مما جعل كتاباتهم أشبه بالرثاء، مثل إبراهيم الصوص(**)، في روايته، المكتوبة بالفرنسية "بعيدًا عن القدس"(***)، والتي عرضت تجربة طرد أسرة من بيتها في القدس، عام 1935([27]). كما تحوي تلك الأعمال طعم الغربة، كرواية عيسى بُلاطة "عائد إلى القدس"(1998)، وهو الكاتب المقدسي، المهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، الذي دارت روايته حول حبيبين في المنفى، وحين توشك المرأة على العودة إلى القدس، تموت، ليقول لها البطل: "لك أقدم لوحة هذا الخريف الأخير، الذي أقضيه في هذه البلاد، وفي المستقبل القريب، بعده أنا عائد إلى الوطن، أنا عائد إلى القدس، ولذكراك يا وداد، بقية حياتي".

صورة أكثر ألمًا تظهر في أعمال الأدباء العاجزين عن العودة، كأعمال ليلى الأطرش، المولودة في قرية بيت ساحور، قرب القدس، حيث صوت حنين الأطرش عالٍ جدًا في رواياتها، هي التي تقطن الأردن. إذ أن أغلب أعمالها تدور حول فلسطينيين ناجحين في الخارج، لكنهم يحنون إلى بلدتهم؛ القدس، كما بدا في أولى رواياتها "وتشرق غربًا" (عام 1988)، التي قالت عنها: "أنا لم أعرف كم كانت القدس لي .. بي ومعي .. حتى كتبت روايتي الأولى (وتشرق غربًا)، عام 1986... فتندحر (بيت أمان) - المكان المتخيل والموازي لمدينة مغروسة في أعماقي - وتحتل القدس روايتي .. باسمها، وبكل تفاصيلها الإنسانية، والعمرانية، والاجتماعية"([28]).

استمر الحنين في روايتها "مرافئ الوهم" (2005)، عبر قصة الحب، التي بدأت في القدس، ولم تستطع أن تكتمل في المنفى، لأنه هكذا بعيدًا عن مدينتك الحقيقية كل المدن مرافئ وهم.

جبرا إبراهيم جبرا، بوتقة حنين كبري، افتقد وطنه؛ القدس، عبر كل ما كتبه، متأثرًَا بسيرته الذاتية، لـ"يكتب عن شخصيات اختزنها من تجربته، التي عاشها، خاصة في الطفولة في أرض اضطر أن يرحل عنها... خاصة عندما تعرض إلى منع قسري من الامتداد في المكان"([29]). فبدأ برواية "صيادون في شارع ضيق" (1960)، بطلها؛ جميل فران، سافر عام 1949 إلى بغداد، ليعمل في التدريس، سافر بجرحين؛ جرح سقوط القدس؛ وجرح قصة حبه. ليتألم قائلاً: "ما عدت أستطيع أن أذكر ملامح أية مدينة في العالم، سوى مدينة واحدة. مدينة واحدة أذكرها، أذكرها طيلة الوقت. تركت جزءًا من حياتي مدفونًا تحت أنقاضها، تحت أشجارها المجرَّحة، وسقوفها المهدمة". بهذا يكون البطل عاجز عن التعبير عن رغبته في العودة إلى القدس، وهي الرغبة التي ظهرت بقوة في الرواية التالية لجبرا.

القدس هي الذاكرة المفقودة المجسدة في شخصية المسافر في روايات جبرا، تتداخل الذاكرة مع الحلم، وتنتظر شخوص جبرا أن تحقق ذلك الحلم، يومًا، ويبرز ذلك، بقوة، عن طريق وديع عساف، بطل رواية "السفينة" (1970)، الرواية التي تدور حول مجموعة أشخاص على متن سفينة، ووديع وسطهم غارق في ذكريات طفولته في القدس، وحبه الأول لابنة العطار، فوديع أقسم أنه سيعود إلى القدس، "بشكل ما، غازيًا، أو متلصصًا، أو قاتلاً، حتى لو قتيلاً على صخرة"([30]).

تتطور أحلام جبرا بالعودة، فيكتب روايته "البحث عن وليد مسعود" (1978)، وهو أنضج وأجرأ شخصيات جبرا، إذ يعود إلى القدس، بالفعل، لا يعود هو بشخصه، بل يسجل ذكرياته على شريط، ويختفي، وكأنه بذلك يمنح كل معارفه وأصدقائه الفرصة ليعودوا إلى القدس من خلال استماعهم إلى الشريط، إلى تلك الأيام، وتلك المدينة، ليستعيدوا روح صباهم، عن طريق حكايات القدس القديمة. وبهذا، ففي تلك الرواية تتحول الذاكرة من ذاكرة مفقودة إلى ذاكرة حية، ورغم اختفاء وليد، فإنهم همسوا، في النهاية، أنه سيعود. فوليد هو الشخص الخاص الذي يحمل عبق الوطن، القنطرة التي عبرها الآخرون، ليصلوا إلى مدينتهم.

ليعيش جبرا حنينًا لدرجة أتعبته، وجعلته يتبع تلك الروايات الثلاث برواية "الغرف الأخرى"(1986)، عن بطل فقد هوِّيته، وتاه في مكان لا يعرفه، حتى اسمه لا نصل إليه.

تتشابه مع شخصيات جبرا رواية "الوناس عطية"(2006) للكاتب حسن حميد، الذي يعيش في سوريا. فبطلنا "الوناس" موجود خارج فلسطين، إلا أنه ممتلئ بحنين خاص إلى القدس، حتى أنه اقترح على المرأة التي أحبها أن يقوما بزيارة إلى القدس، بعد الزواج، واختلفت مواقف شخوص الرواية من هذه الرغبة. فرأى بعضهم أن زيارة القدس قد "ترمم جراحنا"، أو "نموت مرة أخرى". أما حبيبته فرأت: "لأجلهما معا.. وأشياء أخرى". لتظل خريطة فلسطين، المنسوجة على قطعة خيش كاكية اللون، مع الوناس عطية، بعد أن أهدتها إليه طفلة صغيرة ذكرى للحلم.

ويعيش الكاتب الفلسطيني طلال حمَّاد هذا الحنين بنفسه، وهو المولود بالقدس القديمة، والذي لجأ إلى الجزائر، إلى أن سمح وزير داخليّة تونس عام 1977 له بالعمل في دائرة الثقافة والاستقرار بتونس، ومنذ ذلك الوقت بث حماد حنينه في كتاباته بادئًا، بشهادات على باب القدس (1985). فيقول عبر نثرياته، تحت عنوان "لن يُغلق باب مدينتنا": "وها أنذا ما زلت حيّاً.. ولم أمت منذ ستين عامًا.. أو تزيد في دفاتر وكالة غوث اللاجئين.. وأكياس الطحين..والبقج الغريبة.. من شعب الولايات الهجينة.. وفي سجلات الحدود المسيّجة تترصّد العابرين

الحنين إلى حلم المدينة المستعادة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى