الاثنين ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم محمد راضي عطا

هَمس الماء

كاد يقتله الملل ، رسم على ورقه بعثتها له الريح وربما الأقدار . . . شيئاًَ لم يعرف ماذا يعني له أو لغيره، ربما كان اسماً وربما رسماً لرجل أو طِفل ،. . . . قام وترك الرسم للأمطار تزرعُ فيه الرّوح وأحلام الخطوط التي تركها على الورقة ، خرج من الورقة على إيقاع المطر والريح شيءٌ عار، بملامِحَ جافه، وخطوطِ رصاصية، وظَهرٌ أحدب كخطوطه.

رَجَعَ إلى دارِه كما يحلو له أن يدعوها،. . . . هذِهِ الدار رسمت أرضها شقوق من كَذب، وخرائط من حلم،. . . صراعها أصله حكاية عن بَطل . . . وبُطولة بعيدة ومبتدعة، بَنت أركانَها شَجاعةُ بطل لا يطيقُ الخوفَ والذلْ، كان يسكُن الصحراء. . . لَه مائه أَمة. . . وسَبعون عبد يحيكون بإبر الوهم حكايَة حبه لامرأة لم تخلقها رمال الصحراءِ بعد، جميلةٌ كنجوم الليل، وشَعرها اسود. . . . . وشَهية كغناءِ الحساسين . . . .
فكيف قتلها حبه لها وغيرتهُ عليها. . .؟

وَصَلَ داره، أراحه اتساعها وسكونها، أغراهُ الهواء المتراقص في المكان. . . تمايلَ على إيقاع شهوة الباب وهو يحاول الولوج في إِطاره . . . . . . . . . . . . . . ونسيَ أمر ما فعل .

خرج رجل ، من رحم الورقة بطيئا من دون إذن أو شهادة ميلاد ، لم يرى في أحلامه أو في ذاكرة خطوطه المستباحة يوم ميلاده ، أو أي ذكرى من أيام الطفولة، كل الذي يذكره كيف كان يسبح في بحر أفكار ذلك الأخر، وكيف غرق مع كل فكرة ماجنة كانت تخطر على باله محاولا بها نسيان بغض ألآمه، . . . يحلو له اللهوّ، رغبة الهروب من آثامه مع الأخريين لا تماثلها رغبه.

. . . . . . . . . . . خرج من الورقة يسأل عن شارع الزهور.

ولم يكن يدرك انه يسير في الشارع عاريا. . . . . . . .!

كل الذي يريده أن يصل إلى ذلك الغريب الذي زرع بذرته الأولى ورحل ، يمشي ويتمايل. . . يتمايل ويمشي . . . عاريا. . . وفي ملامحه بلاهة. . .أو مبالغة في تمرد، لم يعرف ماذا يعني العريّ بعد، أثارَهُ تحديقُ أنثى بأعضائه فضولاً وصراخ رجل ملتحِ " أينَ الحياء . . أعوذ بالله من مصائب الدهر، هذهِ والله علامات أخر الدهر" .
وأخر يرميه بغطاء يستر الممنوعَ من جسده ، أدهشهُ الوضع وأغرته التجربة .

من ذاكرتهِ المكتسبة لم يسبق أن أثار فضولَ أحد أو حاول يوما أن يدخل بحذائه ومعطفه أحاديث الجميع، إناث المدينةِ. . و ذكورها ، ويستمتع في الحرية التي يمكن أن تكون في الكلام .

دخل السجن . . . . أخافته غلظة رجال السجن ورائحته المعتمة .

 سُئل عن اسمه. . لم يعرف !
 من أين. . . ؟ لم يُجب . . . !
 اسم أمك . . ؟ طأطأ رأسه .
 ماذا يعني أمْ . . .؟ تنهد طويلاً . . . لفوه ببطانية ورموهُ في بطنِ غرفه مظلمة .
 من أينَ جاءنا هذا؟ ( قالها مديرُ المخفر ) ، تبدوا البلاهة في عيونِه صافيه أي قرية رمته علينا ، وأي شيء سلبهُ ثيابه ؟
 ماذا نفعلْ . . . ؟ رد أحد الجنود نتركهُ ونري إلى أين يذهبْ .

العتمة . . . هواجِسها، مفتاح العقل وأداهُ الفكر، بها استطاعَ الرجوع والتغلغل في أعماق ذاكرته أو المتاح منها. . . صوتُ المطر وكيف غسلَ ما في داخله من سواد ، و من ثمَ خوف الشوارع . . . . العيون وبريقها ، الأسئلة الصعبة. . . . تراكبت في ذاكرته الصّور، لم يعد يدري أيها أحقُ أن يحمل، وأيها يمكنه سرده.

. . . جدّل يديه خلف رأسه حالما، رسمَ وردَه. . وطاولة ومقعدين، تشبه التي أحرقها في ثلج الليلة الماضية، وشمعهُ ضوءها أحمر تنيرُ الطريق لشفتين ، وعطر فرنسي كنار الموقد .

نفض الحلم عن معطفه، وقام يفتح الباب مخدرا من الوجع الذي أكل رجليه. . . يصيح : " أنا قادم، ارحموا الخشب" .
فتح ولم يعرف الطارق ، . . . ظنه شحاذ يلف نفسه ببطانية سوداء .
قال : "الله ييسر لك ويرزقني . . . المهم أخرج البرد من داخلك" ، . . لم يفهم الأخر شيئا.
ضحك وهو يضرب كف بكف. . . وقال : " لا تصدقني تعال انظر. . . . . . . "
دخل الأخر، وجلس على سرير أحلامه ، لم يشعر بشيء . . . فقط برودة ،
وكأنه لم يكن ينتظر شيء من لقائه. . نظر إليه محاولا استجداء إحساس .

شعر بضيق في صدره من ريح الشمال. . . والعيون التي تحاول قتله..." ماذا يريد مني"
دارت فكرة في رأسه : " لم اقل لك ادخل. . . اخرج. . . البرد كافر" . . .

لم يفهم مراد صاحب الباب ، فهو لم يجرب الدفء حتى يذم البرد ويلعنه. . .
ما عرفه كان بياضا عاريا من أي إحساس . . رسم في داخله نظرة أوقفت الزمن في حلقه. . .
" من يكون؟ وماذا يريد؟ . . ".

تراكمت الأحرف تلالا تغرقه بتساؤلات مبهمة عن رجل رث الثياب ، ونظرة دائرية بلهاء يسكنها خوف وتودد. . . عاطفة وحقد ، كانَ أشبه بكأس شفافة ، هذا التراكب في دواخله جعله يبدوا غريبا ليس فقط بشكله ، ولكن بما يحوي من مفردات جديدة غير قادرة على التواصل أو إذابة البرد الذي يحيط بالمكان ، والجليد كان يرتفع. . . . وهذا العلو كادَ يغلق أي شعاع للأمل في قلبه ، فهو يحاول الاقتراب منه وصاحب الباب . . . . . . كان يرفض بتعنت البلهاء .

صراع العيون كان لابد من نهاية تكشف ما وراء لغة العيون، كان صمته عاريا، وبلغة عرجاء سأله عن اسمه. . . .
" وما يعنيك اسمي " قال صاحب الغرفة .

قال رادً خوفه : "أبحث عن رجل يشبهني ، في صباح اليوم الماضي رأيته في الحلم يقول لي انه ينتظرني في هذا المكان ، كما وصف ذاته لي في أحلامي. . . . ولكن ينقص المكان طاوله ومقعدين".
عندها فقدت الدهشة حدودها لدى صاحب الغرفة ، أصبحت شيئا أكثر سيولة من ماء مزرابه، وملكت كل خليه في جسده لتتحول إلى قشعريرة تبدوا جلية على يديه ، وليعود إلى عالمه هو . . . هو لم يره من قبل . . . ولا يذكر أحداً يعرفه يشبه رسمه .

عاش ذهولاً أخر، وحقائقَ متضاربة تنسج حوله أيادٍ تحاول خنقه ، وحاله مواجهة بينه وبين المصنوع في داخل الذاكرة ، هذا التورط الذي بدأ يكبر ويشتد بعودته كان حلما، وألان ماذا يمكن أن يسميه؟ وكيف يمكن أن يحوّل هذا الابتلاء في وقت صار الحلم حقيقة ؟

وهي ليست مجرد حقيقة ، ولكنها حقيقة ، منكره، مغضوب عليها ، لأنها رفضت الخلود في عالم الأحلام ، والبقاء مجرد حبر على ورق مركون في أحد الأماكن خارج اليومي، أو المستعمل من الذاكرة .
في هذه الأوقات تذكر كيف كاد يقتله الملل ، وكيف رسم على ورقة بعثتها له الأقدار شيئا عرف الآن ما هو . . . يراه جليا يقف على رجليه، كان اسما. . . هو الآن رسم لرجل يجري في عروقه دم بلون الخجل الذي يجلل وجهه .

الآن ، وفي ذاكرته سؤال كيف قام وترك الرسم للأمطار تزرع فيه روح أحلام خطوطه التي تركها على الورقة ، وهو بعيد تفعل فعلها دون إذن منه، ليخرج منها ومن دون رأيه رجل شبه عار، بملامح جافة تذكره بأيام نحسه التي يعيشها للان . . . .وكأنه ولد فقط ليكون علامة أخرى لفشل ينتهك ذاته .

 سأل صاحب الغرفة : " هل تريد مني شيء . .؟ "
 " منك... لا أظن ، ولكن من غرفتك نعم . . . " ( قال)
 " أنا لست من هنا . . وصاحبي لم يأت . . والثلج يعلو" ( قال)

تزاحم رغبات الحياة جعلته يتيه بين خوفه و واجبه. . . .

" لا يوجد ما تخاف عليه " ، قال نصف عقله .

" أنا لا مانع لدي . ." ( قال صاحب الغرفة)

" ولكن وان كان يحفظ شيئا من غدري " ، قال نصف عقله الأخر. . .

" ولكن... إن علم صاحب البيت سننام أنا وأنت على الرصيف . . . " ( قال)

" لا تخف الليل ساتر، وأي مجنون يخرج في مثل هذا الثلج . . . "

وقال : " كن أمنا. . . فمع صوت الباعة سأخرج من عندك . . . "

" هذا الذي أرجوه ولا أخافه. ." ( قالت روحه الطيبة ). . .

قال صاحب الغرفة : " حسنا لك ذلك. . . ولكن أنا لا أطيق الشخير" .
قال : " لك ذلك. . . وأشكرك على معروفك، مثلك لا يضام، ولكن تلك الأقدار، كل موسوم بقدر يعرف به " .

لتخرج من صاحب الغرفة ابتسامه بطيئة تغلق باب أي كلام .
" كل الذي يربطنا كلمات ، لا هي دم أو لحم فقط أحرف كتبت في لحظه حلم وعادة الأحلام عندي سرعة الذوبان " قال المستكين من ذاته لتقلبات الأيام ليسّكن خوف الباقين محاولا إسكاتهم ، كي تغفل عينه أي فعل .

مسك رأسه بين راحتيه كمن يحاول أن يمنع رأسه من الدوران أو السقوط في فجوه أخرى .

" ولكنني لا أظنه يستطيع الخلاص " فالكل موسوم بقدر يعرف به الباقي من أيامه ، . . وربما ، هذه فرصته الأولى التي ينام وهو مطمئن يعرف على أي الأقدار سيصحو ، ويعرف انه ممكن أن يبدأ نهاره مع وجه يعرف معالمه .

ولذلك هو الآن نائم ، ولا يخاف من لقاء غده ، ولكنه يصر على الحلم ، عسى واقعة يصلح حلما لإنسان أخر , وهو لا يدري أيهما أحق أن يذكر الحقيقة أم السراب ، ولكن سيبقى صابرا ويحلم ، فحتى الأحلام لها شيء توسم بها .

. . . . . والله أعلم .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى