الاثنين ٢١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥
بقلم خولة محمد مروان

القاتل البرئ

نظر في المرآة ليجد وجهاً مرهقاً أتعبه السهر و رسم خطوطه الزرقاء تحت عينيه ، رأى وجهاً بذقن غير حليقة على عكس العادة، فهو تعود على الإهتمام بمظهره و أناقته قبل ذلك اليوم اللعين، منذ ذلك اليوم لم يذق طعماً للنوم سوى للحظات متقطعة تخللتها الكوابيس !.

كان يعيش في نار حارقة من عذاب الضمير ، كان يشعر بالغصة في حلقه كلما إبتلع ريقه ، و كأن لعابه سم زعاف يقتله كل لحظة ، كان يشعر بإنه لم يشم إلا رائحة الوجع و الآلم منذ دهور، كلما أكل شيئاُ أحس أنه يتحول سكيناً ُيغرس في أحشاءه و يقطعها ، كلما شرب جرعة مياه تراودت الأفكار إلى رأسه : كيف أشرب أنا براحة و فرح و غيري لا يشرب إلا العذاب مذ قتلت طفله ؟ ، حتى عندما يمشي كان يحس بالجمر تحت قدميه ! . نعم نار محرقة و عذاب مستمر من ضمير لا يكل و لايمل .
قرر أن يضع حداً لمعاناته بأن يعاود الذهاب إليها لطلب السماح ، لم يكن يريد شيئاً سوى أن تسامحه ، سوى أن تقول له : سامحتك !. لعل ذلك يخفف من عذابه النفسي و تأنيب ضميره الذي كاد يقتله ، قام فغسل وجهه و غير ملابسه و أستعد للذهاب .

و عندما هم بالخروج نظر إلى مفاتيح سيارته المعلقة جانب المدخل ، مد يده و أخذها نظر إليها ثم سرح بنظره بعيداً ، تذكر ذلك الحادث ، يومها كان عائداً من العمل يقود سيارته عندما ظهر أمامه طفل صغير ، حاول التوقف و لكن السرعة الهائلة التي كان يقود بها حالت دون ذلك ، فصدم الطفل الذي طار في الهواء ثم هوى على الأرض لتسيل دماؤه على الإسفلت ، تذكر المشهد ببطء و تذكر الصرخة المدوية التي صدرت من امرأة على الرصيف ، إنها أمه ، أصابتها حالة من الهيستريا و أخذت تصرخ بجنون : ابني ، ابني ، كيف أفلت من يدي ؟ ابني مات ، ابني مات! ثم وقعت مغشياً عليها ، أما هو فقد تجمد في مكانه من هول الصدمة.
ثم ذهب بذاكرته إلى زيارته لها في المستشفى ، إكتشف أن المرأة كانت حاملاً في الشهر الثالث و أسقطت جنينها بسبب الإنهيار العصبي الذي أصيبت به عندما رأت ابنها يدهس أمامها ، تذكر كيف أشاحت بوجهها عنه واصفة إياه بقاتل ابنيها ، تذكر توسلاته لها بأن تسامحه دون جدوى فهي لم تكلف نفسها عناء الرد عليه ، صامةً أذنيها عن إعتذارته ! . من يومها و حاله ليس بحال، حاول أن يقنع نفسه أنه لم يكن مذنباً فالطفل ظهر أمامه فجأة و قد برأه القانون فلما يلوم نفسه ؟ و لكنه كان مقتنعاً أن سرعته الزائدة هي السبب و لم تجدِ الأعذار التي وجدها لنفسه نفعاً مع ضميره الذي ما أنفك يؤنبه ! .

عاد بفكره إلى المفاتيح ، أعادها إلى مكانها و قرر أن يأخذ سيارة أجرة و يذهب ، ثم خرج إلى الشارع و أوقف واحدة ، فتح الباب الأمامي ثم عاد فأغلقه مفضلاً الجلوس في المقعد الخلفي فهو لم يعد يحتمل حتى منظر الزجاج الأمامي أمام وجهه ! ، إستغرب السائق من تصرفه الغريب و بدا على وجهه أنه لم يرق له ، ثم إلتفت إليه و سأله : إلى أين يا أخ ؟ . و هنا تذكر صاحبنا أنه لا يعرف عنوانها ! و لكن لا بد أنهم يعرفونه في المستشفى – قال لنفسه ، ثم وجه حديثه للسائق قائلاً : إلى مشفى المدينة يا أخي . فإنطلق السائق بالسيارة.

و في الطريق توقف السائق فجأة ليسمح لطفل بالعبور ، تألم صاحبنا و قال لنفسه : ماذا لو توقفت أنا أيضاً و سمحتت للطفل بالعبور ؟ ، شعر بالمرارة و هو يتذكر أنه ما كان ليتمكن من ذلك بسبب السرعة ، شعر بالحسرة و هو يتذكر أنه بدهسه للطفل تسبب في موت أخيه الجنين و كاد يقتل أمه أيضاً . لم يستطع كبت نفسه فانهمرت الدموع من عينيه ، إلتفت إليه السائق و هاله أن يرى الرجل يبكي فسأله قائلاً : مابك يا سيدي ؟ هل هنالك شئ ؟ . كلا ما من شئ ، كل مافي الأمر أني أعاني من حساسية تجاه الغبار . قال ذلك و هو يمسح دموعه دون أن ينظر إليه ثم رفع رأسه و نظر إلى السائق قائلاً : أشكرك على الإهتمام . إبتسم السائق و تابع طريقه !.

وصل الرجل إلى المستشفى ، نزل من السيارة بعد أن دفع الأجرة ، ثم وقف أمام البوابة و تذكر زوج المرأة - الذي هو والد الطفل - عندما خرج وراءه بعد زيارته لزوجته ليطيب خاطره . يومها أعطاه منديلاً ليمسح الدموع التي ترقرقت في عينيه طالباُ منه أن يصبر فزوجته مريضة ، و هي ستسامحه بكل تأكيد عندما تتعافى كما سامحه هو . تذكر فرحته لسماع أن والد الطفلين الذين تسبب بموتهما سامحه بل و تمنى أن تسامحه أمهما أيضاً.

دخل صاحبنا إلى المستشفى و اتجه مباشرةً إلى موظفة الإستقبال قائلاً : مساء الخير ، لو سمحت يا أنسة أريد عنوان مريضة دخلت إلى هذا المستشفى قبل و نصف. سألته الموظفة : ما هو إسم المريضة ؟ . في الحقيقة لا أذكر لكني أعرف إسم زوجها ، محمود عيسى . أجابها و هو يحك رأسه ، إلتفتت الموظفة إلى جهاز الكمبيوتر و ما هي إلا لحظات- مرت على الرجل كأنها دهر – حتى رفعت رأسها قائلةً : وجدت العنوان يا سيدي . ثم إستدركت : و لكن هل لي أن أعرف ماذا تريد من عنوانها ؟، قالتها و هي تنظر إليه متفحصة هندامه. في الحقيقة أنا لا أريد عنوان زوجها و ليس عنوانها هي ، فلدي أمانة أريد أن أوصلها له ، رد كاذباً و هو يحاول أن يخفي توتره . أحست الموظفة بالشك يراودها فما كان منها إلا أن طلبت منه منه أن يريها هويته قائلة : هل من الممكن أن أرى هويتك يا سيدي ؟ إجراءات أمنية شكلية فقط كما تعرف ! . أعطاها صاحبنا الهوية ، ناولها إياها دون أن ينبس بحرف ، دونت الموظفة اسمه ثم أعادت له الهوية مع ورقة تحمل عنوان المرأة . أخذها منها شاكراً و خرج من المشفى . نظر إلى العنوان و يالحظ ! . كان المنزل قريباً من المستشفى و هو لن يحتاج لركوب سيارة بل أنه لن يحتاج لأن يقطع شارعاً من أصله ! . وضع الورقة في جيبه و إتجه إلى ذلك العنوان مباشرةً .

وصل إلى باب المنزل ، و تعالت دقات قلبه حتى وصلت عنان السماء أو هكذا خيل إليه ! . كاد أن يتراجع و يعود من حيث أتى فهو لم يكن قادراً أن يتحمل وصفه بالقاتل ، و ماذا ستيوقع منها ؟؟ مؤكد أنها ستطرده شر طردة و لن تسامحه ! منذ شهر و نصف فقط قتل طفليها و ها هو يعود ليذكرها بآلامها، هل تستطيع أن تسامحه ؟ أتملك هي القدرة على العفو عن من حرمها طفلها الصغير و تسبب في إجهاض جنينها و إعتلال صحتها ؟، هل سيكون قلبها كبيراً لتلك الدرجة ؟ . تضاربت به الأفكار و أخذته يميناًَ و شمالاً . و أخيراً، و بعد جهد تمالك نفسه و جمع كل ذرة شجاعة بقيت لديه و دق الجرس .

فُتح الباب و كانت هي من فتحه ! . كاد يغمى على صاحبنا من هول المفاجأة التي ألجمت لسانه فلم يستطع الكلام . نظرت المرأة إليه بإستغراب قائلةً : أنت ؟!. أجاب متلعثماً : نعم أنا يا سيدتي ، هل السيد محمود موجود ؟ . أجابت المرأة : نعم موجود ، تفضل بالدخول ! . أدخلته للصالة قائلة له أن يتفضل بالجلوس ثم ذهبت لتنادي زوجها ، جاء الزوج فوقف الرجل و صافحه ، رحب به الزوج و دعاه للجلوس ، جلس الإثنان ثم طلب محمود من زوجته أن تعد لهما فنجاني قهوة . و لكن الرجل قاطعه قائلاً : أشكرك يا سيدي و لكني لم آت لأشرب القهوة ! ، أنا جئت لأطلب من زوجتك الصفح بعد إذنك طبعاً!.

نظر الزوج إلى زوجته و قال: إجلسي يا سعاد و اسمعي ما يريد السيد أن يقوله ! . جلست سعاد قائلةً : حسناً ، تفضل يا سيدي ها أنا ذا أسمعك .

أطرق الرجل رأسه و بدأ الحديث دون أن يرفعه فقال : سيدتي ، أنا أخطئت فعلاً ، أنا أعترف لك بأني مذنب !. أنا دهست طفلك بسيارتي وقتلته ، و أنا سببت لك صدمةً قتلت جنينك و كادت تقتلك أنت أيضاً ، نعم أنا أخطئت و لكنه كان قدري و قدرك و ليس بوسعنا أن نغير منه شيئاً الآن . أنا لا أتهرب من المسئولية فقد اعترفت بأني مذنب ، و لكني أطلب منك أن تسامحيني فربما أعود لأعيش !. حياتي لم تعد حياةً منذ منذ ذلك اليوم ، أنا أعيش في جحيم ، شعوري بالذنب أثقل روحي و دمر حياتي فلم أعد أعتبر نفسي حياً رغم أني لم أمت بعد !. لو شئت أن أدفع لك ديةً فأنا موافق و أنا تحت أمرك إطلبي ما تشائين ، و لكن أرجوك سامحيني ، أنا جئت اليوم لأعتذر ثانية و أطلب السماح منك . سكت الرجل قليلاً ثم تابع قائلاً : سألتك بحق الله العلي القدير عليك أن تسامحيني!.

رفع رأسه و نظر إليها منتظراً الإجابة ، و لكن المرأة لم تجب ، ظلت صامتةً لبرهة مرت كأنها دهرٌ على صاحبنا ، نظر الرجل إلى الزوج مستنجداً و لكن الزوج آثر الصمت مفضلاً ألا يتدخل !. عاد ببصره إلى المرأة مرة آخرى ، وجدها مطرقة تفكر ، مرت دقائق قليلة ، و لكنها مرت على صاحبنا كأنها قرون، رفعت المرأة رأسها ، ها هي تهم بالإجابة – زادت سرعة دقات قلبه، شعر أنها كالقنابل !. فتحت سعاد فمها لتتكلم ، و الثواني تمر على صاحبنا كأنها عصور ، شعر أنه يشاهدها تفتح فمها بالصورة البطيئة كما في برامج التلفاز ، لم يعد يقو على الإحتمال ، أخيراً تكلمت المرأة و قالت : إذهب سامحك الله يا أخي ! .عندما سمع ذلك لم يستطع أن يتمالك نفسه من فرحه بالمفاجأة السارة فسقط مغشياً عليه ! .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى