الخميس ٢٠ آب (أغسطس) ٢٠٠٩

أجواء مفتوحة

بقلم: أسماء شهاب الدين

ربما يتوجب عليّ أن استعير من مرضى الفصام قدرتهم على النيولوجيزم، لأدلف حقا إلى قلب تجربتي، لأن ما في قاموسي ـ أو ما تبقى منه بعد هذه السنوات ـ من كلمات لا يحيط بما في صدري من طاقة. وطبقا لما أنتويه من ابتداع كلمات وتراكيب لغوية جديدة ـ مردّها ما يعتري عقلي من ارتباك، أو رغبتي في استخدام ما أذكره من مفردات بحداثة الفصاميين ـ سأحكي. أحكي عن أبي الذي كان لسنوات طوال قفازات صفراء متسخة ارتديناها في رؤوسنا فآلمتنا و أرهقت أفكارنا، أما الأمرّ بالنسبة لي ولأخي ـ لأننا من نطفته التي تحمل جينات الفصام ـ هو أننا وبنسبة تقترب من عشرة بالمائة يمكن أن نصبح قفازات صفراء متسخة وكريهة تلتصق عنوة بوجوه من نحب، فيشعرون بكل تلك المشاعر الزرنيخية!

كاد الزرنيخُ يقتلني رغمًا عني، فكوّمته مع أمي وأخي حسام، وغسلت يدي وركبت طائرة، وتطلعت إلى السحاب النظيف، وحلمت حلما لطيفا أهديته للسماء، فحلّق حول تمثال الحرية، وحطّ على كفيّ، فأكلته وذقت حلاوة عسله مرة تلو أخرى، واكتشفت بعد مرات أنني يجب أن أزيد وأطيل الرشفات لأنتشي بالحلاوة كالمرة الأولى التي كان التحليق فيها رائعًا. أخذت أعبّ وأعبّ، وفي غمرة الحلاوة المسكرة، يخبرونني بأن القدر قد خلصني من قفازات الزرنيخ للأبد. لا ليس هذا ماقالوه بالضبط. قالوا: ’أبوك انتحر‘، ففرحت للحظة ثم شعرت بطعم الزرنيخ في حلقي. كنت بالتأكيد سأصبح في تمام السعادة والرضا إذا مات في فراشه بعد أن تيأس الشيخوخة من العبث بوظائف جسمه كأي مُسِن مثالي، أو إذا صرعته جلطة مخيّة أو سكتة قلبية! فذلك يندرج تحت ما هو مثالي بالنسبة لي. حتى عندما مات وهمد جسده كان مصرّا على إهدائنا وصمة عار صغيرة، وبضعة كوابيس ستؤطر ليالي الشهر القادم كلها بطلتها جثة منفوخة باليرقات تطفو على صفحة النيل وتفوح منها رائحة زرنيخية عالية التركيز.

أمي كانت مكعبا صغيرا من الثلج يقاوم الموت في قلب الجحيم؛ لكنه في غاية الرهافة في أحايين كثيرة، فنضمه في راحاتنا كيما نقيه هوان الزرنيخ. في 1990، اختنقت أمي بالزرنيخ القاتل لأنها امرأة بلا بدائل ـ تقريبا ـ في هذه الحياة، ولأنني وحسام حلّقنا بعيدا، ولم تعد راحاتنا ملكا لها بل ملك راحات أيدي وعدتنا بالحب ونسيان عاهاتنا الاجتماعية. آخر كرنفالاتها في الفراش ـ بالطبع مع أبي لأنها كما قلت امرأة بلا بدائل ـ كانت منذ حوالي عشرين عاما بلا قبلات أبدا، ومزينة بتشكيلة لونية من الكدمات والخدوش، وبدلا من أن تنال مني بعض التعاطف، نالت قدرا لا بأس به من سخطي علي خنوعها، وأنهار الدمع المتكوّمة خلف جفونها.

حسام قطعة من جيلي الفراولة، مهزوز دائما وشحيح القيمة الغذائية، وكهلام أحمق كان عليه أن يهرب من كل الملاعق الصيّادة بعيدا.

فقط، لو مات كما كنت أتمنى، لكنت ـ بالتأكيد ـ في غاية السعادة!

تعجبني أصوات ميكروفونات التنبيه في المطارات، نداءات عالقة في الأجواء تنتظر من يلتقطها. الناس حولي يستهلكون أكسجين الهواء الخاص بي، فأكون على استعداد للعدوان الفوري عليهم. موظّفان فقط لتخليص الجوازات. لا وقت لدي للتذمّر. لا وقت لدي لاستيعاب مصر من جديد كمراقب خارجي يفصل ذاته عن هذا النسيج بتعال يسميه الحياد. رأيت بنطلونات جينز وأحذية رياضية وأطيافا من الشيفون على رؤوس البنات، وخصلات شعر هيبية على رؤوس المراهقين. الكثير من المراهقين. ضحكات شابة مجلجلة لا تكترث لأزمة الشرق الأوسط. الكوكا كولا العولمية.شيوخ يعدّون نقودهم مرات ومرات ويومئون برؤوسهم أسفا. سيارات متهالكة وسحابات سوداء، وسائق تاكسي حزين في لهفة لمشوار معي. أبرّد لهفته. عمارات متلاصقة من رائحة مصر الجديدة. أذرع طلاب الجامعة ملتفة بإصرارـ من رائحة مشاعر قديمة ـ على أذرع أخرى. فتيات ينظرن بعمق في عيون الفتيان ويراهنّ على الإخلاص.

سألني سائق التاكسي عن اسمي الكريم، ومهنتي، ومحل ميلادي، وعن أميركا التي أتيت منها، وعن عراة يتسكعون في شوارعها، الماريجوانا المتاحة على الأرصفة ويناصيب الهجرة، وعما إذا كان ممكنا أن يجد عملا هناك. منحته نظرة خاوية مخيفة خجلت من نفسي بعدها، صمت تماما، فأخبرته بأنني جرّاحة، وفي عطلتي السنوية لا أمنح أية استشارات. صمت تماما ليعلو ضجيج الشارع والكاسيت.

عندما لوحت بما في جيبي من دولارات لسائق التاكسي، أخرس صوت عدوية وأبدل شريط الكاسيت بآخر انبعثت منه نغمات راقصة أنيقة تجاوبت معها ركبتاي، ثم ما لبث صوت حليم أن غرد في الأجواء بعذوبة وصفاء عن الحلوة ذات الضحكة الحلوة التي تعده بكل الأماني الحلوة. ضبطت نفسي في مرآة السائق ابتسم تحت ظلام العدستين الشمسيّتين، وبدا الماضي أليفا وحميما، وتصالحت لبرهة مع سنوات من عمري بذلت ما في وسعي لتناسيها. اتخيّل حليما في تحالف دائم مع الشجن، وبلمعانٍ حبيبٍ ينبع من بين الأهداب السوداء الرهيفة كسامي تماما في أجمل حالاته. سامي: آخر ما اشتممت من رائحة مصر، وآخر من غضب مني ذلك الغضب المزيف الذي طالما أحببته، وآخر من عبّأ أذني عبر أسلاك الهاتف بلهجتنا المصرية، وآخر من قدم السماحة ـ من بين الرجال الذين عرفتهم ـ على كل القيم الذكورية الأخرى. لا أحد يعلم لما لم أبق إلى جوار سامي لمّا كانت سيرته ـ مجرد سيرته ـ تجلب عليّ كل هذه البهجة، وتجعلني اتقبّل زحام الطريق العشوائي بنفس راضية، وأضحك فجأة، فينكمش السائق في مقعده.

صغارا كنا ـ بكل تلك التساؤلات التي لم يجبها من أجلنا أحد ـ نقطع الطرقات المحمومة بصهد أنفاس المراهقين، ونجلس على مقاهيها العتيقة نملأ الرئات بالتبغ والشاي الحبر والقهوة المُرَّة والأسى على أم طرحة وجلابية ـ التي لا يضمر لها أحد حبا يليق بها ـ ونكتتيْن حاضرتيْن على الطاولة: الأولى بذيئة ومضحكة تقريبا، والأخرى عن الحكومة وم... تقريبا، وكلتاهما تدران الدموع التي لا تستهدف سوى إفساد تبرج العينين، وبعد كل هذا الوقت الذي استغرقنا لنكبرـ بعد أن أُجِيبت كل الأسئلة من تلقاء نفسها إجاباتٍ لم تسرنا أبدا ـ وهذي الطرقات التي مشتنا لنهرم، وإدراكي الذي لا يقبل المراجعة بأن الصلع داهم رأس سامي، وبأنه مازال يغدق الرحمة على البني آدميين حوله، أعي تماما أنه ذاكرة الضحك فيَّ، وإن كان ضحكا كالبكا. أبكي الآن بعَبَطٍ، واتمخط في منديل ورقي سحبته بلا استئذان من علبة بجانب السائق، فشعرت به يخترق اسفنج مقعده.

فقط، لو مات كما أتمنى، لكنت ـ بالتأكيد ـ في غاية السعادة!

تغيّرت معالم "مدينة نصر". أخبرني السائق أنها الآن أحد أرقى الأحياء في القاهرة والتي يحرص محدثوا النعمة على سكناها. ترى هل نال بيتنا حظا من التطور؟ كانت الإجابة لا وعلى بُعد شارعين. فقط برجان يطاولان العشر طوابق ارتفاعا، وما زال الأسمنت يطل من الشبابيك. أكرمت السائق كرما زاد من شكّه في سلامة عقلي، وبعد أن أغلقت باب السيارة طلبت منه شراء شريحة التشغيل الخاصة بهاتفه المحمول بضعف ثمنها، فلم يمانع أبدا.

انبرت درجات السلم الرخامية، ونحتت بعشوائية تحت أقدام الناس والزمن، فصار الإنزلاق أكثر سهولة من أي وقت مضى. الشمس تهب نفسها للمكان، وتكشف جراثيم الهواء التي تتراكم على ملابسي. أتباطأ في ارتقاء السلم. رائحة تقلية الملوخية تغزو أنفي وتُسَيِّل لعابي. يمنح درابزين السلم كَفّي الكثير من الغبار. أسمع خفقان قلبي، وأشعر به يؤلمني. أتعرّق ويثقل رأسي. أتخيل أبي متكوّرا وراء باب شقتنا الخشبي ذي الدرفتين يهرش في شعره، ويثرثر مع صاحبه المتخيّل.

كان الباب مفتوحا. كل الأقرباء وأنسباء الدم جاءوا واجتمعوا في الصالة ربما منذ ساعات مضت (العديد من أكواب الشاي وفناجين القهوة السادة الفارغة). كانوا متذمرين مسبقا من رفضي استقبالهم لي بالمطار. النساء أغدقن علي كل القبلات الممكنة. ليست كل الوجوه مألوفة. الرجال شدّوا على يدي وأوسعوا لي مكانا في صدارة الجلسة. كم تمنيت لو غادروني إلى ما يشغل بالهم حقا، وفقط لو مات ذلك الرجل كما تمنيت، لكنت ـ بالتأكيد ـ في غاية الارتياح. سكتت همهماتهم فجأة ليعلوا صوت القرآن. جاءت جارة تسمِّي نفسها أم أيمن. احتضنتني وسألتني إن كنت أذكرها. نظرت إليها بخواء، فقالت بخجل إنها من كان يتولى رعايتي وأخي اثناء ذهاب أمي إلى عملها. جاء رجل في هيئة رثّة انتحى بنفسه جانبا وأخذ يكلم نفسه بانفعال سلبي. عاد الكلام ليتقافز على ألسنة الجميع. مصمصات شفاه وكلمات مواساة نسيت كيف أرد عليها بطريقة لائقة. أسئلة خرقاء عن المكان الذي أتيت منه، والبشر الذين أعاشرهم، ومدى براعة صبغة شعري الشقراء، وعما أجنيه من مال سنويا، وعتاب في العيون لم تفلح الانفعالات المزيفة على الوجوه المتغضّنة في طمسه. هل أخبرهم أن سامي رغم معدنه الثمين كان رجلا التفتت الدنيا نحوه لوهلة، فبصقتْ عليه ومَضَتْ مسرعة، وأخي كانت أقصى آماله في هذه الدنيا التسكُّع مع الحسناوات، وأمي ساذجة ومنهكة، وأبي أسوأ مريض سكيتزوفرينيا سمعت عنه. دنيا ضيقة، وأحلامي عريضة. سحرتني وندهتني حتى أنه كان من المبهج بالنسبة لي أن أقضي نصف عمري في المطارات. في المطارات وعدٌ بالاتساع والتحليق، وفي التحليق وعدٌ بالارتحال، وفي الارتحال وعدٌ بالجديد، وفي الجديد نَفَسٌ يخفق لولادة حياة، وأنا كنت أريد أجواءً مفتوحة لأحيا، فلا يلومني أحد.

أسمع طنينا. كل الوجوه غريبة، وكل الأصوات بعيدة، والنوم قريب وهلاوسه كوابيس. طنين يعلو على كل طنين، و....أسقط بينهم.

قبيل أن أفتح عيني سمعت جلبة أقدام في أذني، وتخيلت أني سأفيق لأجد نفسي في وسط ميدان النيويورك تايمز. تماما في نفس المكان الذي سقطت فيه (كنت أحمل حقيبة ملأى بالكتب الثقيلة، وأتبع حمية غذائية قاسية). كل الأقدام تخطو فوق جسدي وكأني صخرة ثقيلة رغم اعتراضها طريق الجميع لا يقوى على إزاحتها أحد. حين فتحت عينيّ وركّزت حواسي، شممت رائحة كلور تنبعث من الأرضية. سرير أضيق من سريري المعتاد وسقف عال جدا وشخبطات طفولية على الجدران أكاد أذكرها. صينية طعام بجانبي مغطاة بفوطة بيضاء. صوت القرآن وحده يأتيني من الصالة. أكلت الطعام بشهية قبل أن أدرك أني في غرفتي القديمة على سريري، وأن معظم الحاضرين انصرفوا. في الصالة جلست زوجة عمي الوحيد وأم أيمن. طلبت منهما بلباقة ما أن يغادرا المكان. انسحبتا ببساطة أراحتني بعد أن سلمتني زوجة عمي مخططا زمنيا بخط يده للغد يشمل ميعاد الغسل بعد تسلم الجثة من المشرحة، مسار الجنازة، الدفن، مواقيت تلقي العزاء، والتكاليف المقترحة. أغلقت الباب برفق. كانت الشراعة مفتوحة أيضا. أغلقتها ورأيت دما على أصابعي، وعُقلة من سبابة أبي اليسرى معلّقة في زجاج الشراعة، وبركة دم صغيرة على الأرض، وسمعت أمي تصرخ، وأبي يطرق على الباب، وحسام يبكي ويختبيء وراء طرف جلباب أمي، وأنا أشم رائحة الدم لأول مرة. أنفض رأسي وأجلس على أقرب كرسي.

حين زرت برودواي لأول مرة، خلب لبي بريق الأضواء والألوان والارتعاشات الراقصة للإنارة البديعة في كل شبر منه، فتسمّرت في مكاني فجأة، وتعلّق بصري بالأعلى وكأنما هاجم السماء فوقي سربٌ من الأطباق الطائرة. كنت أحدّق في كل ما حولي ببلاهة وعبط. كان ’إد‘ بجانبي وكان مرآه لي على هذه الصورة مدهشا للغاية، فخجلت من نفسي لأنه ربما كانت آخر إمرأة انفعلت مثلي هذا الإنفعال العبيط وليدة قرنين مضيا حين أضيء هذا المكان بالكهرباء قبل أي بقعة أخرى في العالم. شعرت بيني وبين إد قرنان من الزمن على الأقل! أحتاج قرنين من الزمن كي أصنع بداخلي مثل الذي بداخله!

فيما بعد اعتادت قدماي تلمّس الشارع العريض، واختزلت مثل الجميع بعض أحلامي بالسعادات المؤقتة المتاحة مقابل بعض الدولارات، ونشوة استقبال الإبداع بصوره الحيوية المختلفة، وسكرة الجمال اللذيذة في هذا المكان. كان ’إد‘ معي في معظم الأوقات.. نتمشى سويا في الجزء الأسفل منه في أوقات المهرجانات، فتذوب هويتي ويتماهى لوني مع كل الألوان في صخب الموكب، ويسيل عرقي مع نغمات موسيقى الكانتري. أنسى من أنا حتى في مرآتي، فينفرد طولي، وأقطع المسافات بخيلاء لن يدوم طويلا كأني نيل أرمسترونج الذي مشى قبلي على نفس الأرض في احتفالية ضخمة بعد أن خطر على سطح القمر. هنا القمر بالنسبة لي حيث أخطر بثقة وأشعر بالريادة! وفي ماديسون جاردنز، ألوّن وجهي بالأصباغ الحمراء والزرقاء ولا أخجل مما أفعله حتى ولو كنت أمارس نوعا آخر من أنواع التخفي. أهلّل وأصفّق في مباريات الرجبي التي أحبها قسرا لأجل ’إد‘. في يوم الفالانتاين أخذني إلى أحد متاجر فيفث أفينو واشترى لي نظارة شمسية من برادا. اخترتها بأكبر عدستين ممكنتين لا تزالا تجاريان الموضة لتخفيا في نفس الوقت أكبر مساحة من وجهي. حين نعرج على أحد المقاهي في ميدان التايمز لنشرب الموكا أحتسيها خلف ساتر من ورق جريدة النيويورك تايمز، وأتمنى لو أحدث ثقبا صغيرا في منتصفها ليتسلل كل شيء حولي إلي بتئودة تقيني شر نوبة هلع ممكنة. أقصد نوبة هلع معرفية، وأنا لست مصابة برهاب الساحة كما كان ’إد‘ يعتقد، فقط أحب ألا تلطمني المعرفة بشكل مفاجيء.

"تُؤَنْسِنين كل شيء ثم تخافين منه. تخلقين أشباحك المرعبة بيديك" قال لي ’إد‘، ولابد أنه محق. " لكنك تعجبينني". قالها: ’I like you‘،وكنت أرغب في كلمة أعمق. "أنت مسلية في المنزل تحديدا، وهذه الفكرة تجعلني في مزاج رائق..’هاها. هل كلكم كذلك؟ funny؟. تعجبني أيضا تلك الطريقة التي تبدين بها راقية بشكل ملتبس. هي خليط من الترفع والتجاهل والاستغناء والثقافة المكتسبة من نهم القراءة، والفزع! الفزع تحديدا هو ما يقلقني حيالك لأنه في أحايين كثار يملي عليك تصرفاتك: بطاقة ائتمانية واحدة لا تفكرين بامتلاك غيرها. تسددين أقساط المنزل والسيارة قبل الموعد. تكرهين فيلدج فانجارد. تأمنين على نفسك وعقلك في الغرف المغلقة. تتناولين الكالسيوم الوقائي منذ أن كنت في الثلاثين." أقاطعك موضّحةً: "منذ أربع سنوات فقط."

"تضعين طائر القندس المحنط ـ بكل فخرـ أعلى باب منزلك، وتصلين صلاتكم أحيانا قبل الامتحانات تحديدا لأنها تميمة مجربة في مثل هذه الأوقات. بالمناسبة لما لم تحبي جلسة التدليك الفاخرة التي أهديتك إياها الصيف الماضي؟ إنها حلم نصف نساء نيويورك، ما كن ليمططن شفاههم بتلك الطريقة بعدها أبدا".

سبق وأن قدمت أعتذاري الذي لم يستوعبه ’إد‘ حتى الآن! اشتقت لانتقاداته الموجَّهة لشخصي، لأني لا أتلقاها بشكل شخصي! أنا أعلم أنه يوجهها إلى بني جنسي.. إلى جيناتنا وأفكارنا وعاداتنا وبيئاتنا، وليس لي تحديدا!

"ترووقين لي في كرنفالاتنا الحميمة، ربما بعدها أكثر. فبينما أختار أنا النوم، أراك ترفرفين حولي ضاحكة. تلقين بجسدك ـ وقد صار طوع أمرك من فرط خفته ـ إلى جواري، وتثرثرين كثيرا وأنت ناظرة إلى السقف. تواتيك الأفكار الجيدة المبتكرة بخصوص مشاكلنا المنزلية، وأجد نفسي مضطرا لأن أقول لك: "لست بحاجة لأن تشكريني أو لأن تشعري بكل هذا الامتنان، وكأنك ـ باستثناء الجميع ـ قد مُنِحْتِ هبة من العبقرية".

يستلذّ أحيانا برؤية حمرة الخجل في وجهي، يسميها ’الظاهرة‘، فأخجل من خجلي، وأتعثر في طرف ثوبي.

لم يكن ’إد‘ صورة فارس أحلامي بقدر ما كان النموذج الي رغبت أن أكونه دوما. كان الموديل الجاهز للتقليد حين لا دليل. فقط كنت أكره أن يحتسي البيرة أثناء راحة الغداء التي تقطع منتصف الدوام، أو إصراره على قضاء الأمسيات في فيلدج فانجارد بينما تعبث رائحة الكحول بوعيي، وتطرق نغمات الجاز رأسي كطبول الحرب. أنا أفضل الاستماع إلى الموسيقى في القاعات الكلاسيكية مثل كارينجي أو في المنزل. أحب المنزل خاصة حين تصدح موسيقى البلوز لروبرت جونسون أو هاولين وولف في كل الأركان، أما وينتون مارساليس، فندخره للسرير لأسباب لا يعرفها كلانا. ’إد‘ بطريقة ما يعني حياتي الجديدة التي اخترتها وهندستها ورضيتُ عنها. اشتقت لبيتي، وعملي، وأجوائي، و’إد‘ رغم غضبي منه. طوال الطريق كنت أجاهد رغبتي في الاتصال به. أتخيله بجانبي على طاولة الطعام أو على السرير يحدق فيّ، ويحدثني عني ( أهي أمنيات العشاق الخائبة،أم هلاوس فصام ورثته من أبي؟). كان دوما يجذبني حين يحدثني عني، وخاصة بكل إسهاب ممكن. لم أر ’إد‘ منذ شهر؛ لكن ضحكاته الأخيرة مازالت ترن في أذني وكأنه مازال مستغرقا فيها. كان وجهه محمرا ومتوهّجا بعد عدة كئوس من الخمر مما دعاني إلى إبعاد الزجاجة عن يديه ووضعها على طاولة القهوة البعيدة.

Who said marriage?

Me?

You said that?

ثم ضحك مشيرا إلى جسدي بسبابته اليمنى. استمر يضحك، فكان وجهه الساخر كما ثمرة طماطم ترتج في قفصها بلا سبب، وكان وجههي كما ثمرة يقطين مفرغة بعينين مثلثتين وفم كئيب يابس. بعدها كسرتُ كأسا زجاجيا وأخذت أزفر في ضيق. طردت ’إد‘ من منزلي، وامتنعت عن الرد على مكالماته الهاتفية أو إيميلاته. قال في إحدى رسائله: "كفي عن التصرف بمثل هذه السلوكيات الشرقية الحمقاء. تتقهقرون للوراء إذا أتت الرياح بالعواصف أوحتى بنذر قد تكون كاذبة. إما ماتريدون كما تريدون وإلا فلا. منطق قوة غاشمة يتبناه من هو أبعد مايكون عن أية قوة." عندها ربما بدأت أفكر. كيف تجرؤ؟ أيكون منطقك صحيحا؟ حساباتي أنا خطأ بالتأكيد. لست مستعدا لمجرد التفكير في الزواج، فكيف ستتقبل متاهة اختلاف ديانتيْنا حتى لو كنت غير متدين أصلا؟ كل ما أتمناه يا ’إد‘ ألا... نعود عدة خطوات للوراء.

للوراء. للوراء. للوراء؟!

فتحت اللاب توب، وباستخدام تلك الشريحة التي اشتريتها من السائق تركت رسالة إليكترونية لـ"إد": Come Back. ذيّلتها بأيقونة صفراء صغيرة للوجه الشهير يقبّل قدما.

كانت حقيبتي الصغيرة مغلقة، وإندفعت فكرة إلى دماغي بقوة كما تيار كهربي أضاء مصباحا. أن أعود. يجب أن أعود، وأترك كل هذا ورائي. لم أفتح باب غرفة أبي أبدا. شعرت بالخوف من مجرد التفكير في ذلك؛ ولكني توجهت نحوها بحذر. فتحت الباب. صدمتني رائحة مقبرية وكأن أبي قد دُفن بها منذ زمن. كان السرير بلا وسادة أو شرشف. كل شيء بالغرفة كان مسطحا وفقيرا ما عدا تللك الكتابة بالقلم الرصاص على الجدران. رسم أبي كرة أرضية كبيرة وقسمها نصفين. نصف شرقي للمؤمنين يحكمه جمال عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة، ونصف غربي للكفار المتحالفين ضد الإسلام لم أتبين من يحكمه. كتب فرامانات وبيانات عديدة بلغة لم أفهمها. أغنية من كل فيلم، وكوبليه من كل أغنية. سمعت طرقات على الباب. كانت حقيبتي مازالت على كتفي. أخفيتها في غرفتي مرة أخرى وأغلقت عليها الباب.

؟؟؟؟؟

حركت رأسي يمنة ويسرة، وقطبت جبيني في تساؤل.

’أنا سامي.‘

’سااااميييي‘

ابتسم في صفاء وطيبة. كان يحمل كتبا في يديه. قال بارتباك:

’عرفت بوجودك من أم أيمن. أعطي ابنتها لمياء درس خصوصي. لمياء في كلية التجا...‘

’مرحبا ياسامي. تغير شكلك. آسفة لم أعرفك.‘

كانت ملابسه بائسة وخارج دائرة الموضة. تراجع شعره كثيرا وسقط كما توقعت. برزت بطنه كرجل كرّس جميع وجبات غدائه للمحاشي أو المكرونة بالباشاميل، وأوقات فراغه للجرائد ولا شيء غير الجرائد. غاصت عيناه في جلد وجهه قليلا بينما كشفت عن المزيد من الطيبة.

’صرت أجمل كثيرا.‘

كان يجب أن أشكره بحروف الكلمات الواضحة بدلا من أن أكتفي بالابتسام. نعم أكرّس مظهري لرجل يمارس الرياضة يوميا ولثقافة تقدّر النحافة بشكل استثنائي. تنحنح وبدا أنه قد تذكر شيئا للتو:

’البقاء لله.‘

’مات منذ زمن. مات منذ طفولتي.‘

’........‘

’تفضل بالداخل.‘

صار سامي أكثر خجلا، أقل تركيزا، وأبطأ بديهة. لم تعد رفقته مبهجة بالشكل الأسطوري القديم. لذلك عندما اعتذر لم أمسك به كيما نخوض مساومة بلهاء على مقدار غلاوته عندي! مازلت أذكر أن المصريين يفعلون ذلك ويحبون أن يُفعل بهم ذلك!

كان بابي مازال مفتوحا، وأنا أسترقّ السمع لصوت خطواته الوئيدة المتخاذلة، وأنفاسه الثقيلة. عندما سمعت صرير البوابة الحديدة بعدما فتحها سامي المسكين، التقطت حقيبتي من الغرفة. تركت باب الشقة مواربا. نزلتُ الدرج، وعزمتُ أن أتحرك نحو المطار. سأسير على قدميّ قليلا لأني بحاجة للهواء النقي سالكةً الطريق المعاكس لذلك الذي مازال يتهادى فيه خطو سامي حتى ولو كان أقصر الطرق على الإطلاق.

 [1]

بقلم: أسماء شهاب الدين

[1• النيولوجيزم هو القدرة على اختلاق كلمات جديدة أو إضفاء معنى جديد ـ بشكل ذاتي جدا لا يُفهم سوى من قِبل مختلقه ـ على كلمات تقليدية وهو عَرَضٌ يسم كلام بعض مرضى الفصام.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى