السبت ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم أحمد نور الدين

ليس الماضي ببعيد

ما دام شقائي محتوما فلماذا أعيش؟ وقف السؤال في نقطة من الوعي تأبى السير إلى الماضي. فتسمرت رجلاه قرب النافذة وأحكمت يداه القبض على الحافة بقوة وحزم. هل يريد الإنتحار حقا، أم أنه يختبر الحالة فقط؟ إلتفت إلى الداخل فصد بصره ظلام ثقيل يسكن الغرفة ويتمدد عبر الباب ليبتلع ما بقي من أعضاء الشقة. صحيح أن الألم يحز في قلبه الساعة، لكن ليس الألم ما يدفع به إلى هذا الموقف الجنوني. هكذا قرر وهو يكابد شعورا قويا لا يقاوم بأنه يهوي إلى أعماق سحيقة. وتخايلت لعينيه صورعدة من الماضي. رأى وجه أمه الشاحب قبل موتها بساعات، لاح له شبح أبوه وقد احتقن به الدم وشارفت روحه على الصعود، ونزلت على وعيه بقوة صورة أخيه الذي أصيب بالإيدز وقد علته الأورام وانتخفخ وجهه كإسفنجة.

جر نفسا عميقا وأغمض عينيه محاولا جمع تركيزه المبعثر في نقطة واحدة. ولكن التركيز تأبى عليه، ولما شعر بأن محاولته تبوء بالفشل، عاد ينظر إلى فكرة الإنتحار بشيء من الإهتمام البعيد عن الخوف أو التهيب. وكأنما يتأمل قصة بطلها شخص آخر تماما. فتح عينيه ورمى ببصره إلى أسف العمارة حيث لاح له شبح ضخم لشجرة مورقة تنتصب في الرصيف بجانب العمارة. لقد مر عليه عمر طويل وهو قابع في هذا البيت! لقد قدح هيكل الشجرة زناد ذاكرته من جديد وتخايل لعينيه ذاك اليوم الذي قدم فيه مع أهله إلى هذه العمارة، حيث كانت تلك الشجرة لا تزال شتلة صغيرة لا تكاد تبين إذا نظر إليها ناظر من النافذة. إنه يوم بعيد موغل في الماضي. ولكنه قريب من مراكز الإحساس والتصوير. كيف لا وهو يكاد يسمع أصوات الفرح تصدر عن أمه المبتهجة بامتلاك بيت يخصها وحدها بعدما طال على الأسرة شقاء التشرد والتمزق بين الشقق المستأجرة. ويرى إلى أخته الصغرى وهي تتقافز في أركان البيت الخالي المرحب بهم بحفاوة الأصداء المتجاوبة في الغرف والزوايا. أما أبوه فقد كان عن كل تلك المباهج والإحساسات في شغل شاغل، فقد كان منهمكا، مع إبنيه وأحد العمال المستأجرين، بنقل الإثاث من البيت القديم إلى المستقر الجديد. كان يوما شاقا ذاك اليوم، ولا يمكن نسيانه بحال من الأحوال، وبعدما قام برمي آخر كيس من الأكياس الضخمة المحتوية على ملابسهم في غرفة نوم الأبوين جر جسده المنهك الى حجرة الجلوس حيث وجد الأسرة مجتمعة في جلسة صامتة ينير جوها شمعتان وما يتسرب من نافذة الشرفة من أضواء الليل الباهتة، كما وتظل الجلسة فرحة لا تلخو من تعب النهار الطويل. فتقدم الشاب وارتمى بجانب أخيه الأكبر مسندا ظهره إلى الحائط. يتذكر الآن تلك اللحظات بالذات لأنها تحمل معنى من المعاني التي لا تنفك تثير الألم في صدره، ذلك أنه استرق إلى أخيه بعد جلوسه بجانبه نظرة خفية عاد منها مثارا بشعور غامض بالحسد! لا يدرى علام حسد آخاه في تلك اللحظة المنهكة بأوجاع الجسد وألوان الأمل والإستشراف. صحيح أن أخاه بلغ فيما بعد ذروات من النجاح ما كان هو ليحلم بمجرد التحديق إليها، لكن ما يحيره هو ذلك الشعور بالغيرة الذي انبعث في داخله في تلك اللحظة الغريبة. وعندما يجري في خاطره ما كان لإخيه من مصير مأساوي جره عليه المرض الخبيث يندى قلبه حزنا ويشعر بأن الألم يتلوى بداخله. ويزداد ألمه حدة عندما يذكر تلك الجلسة وتلك النظرة وذلك الشعور البغيض بالحسد. إنها حال عجيبة تثير فيه حيرة عميقة طالما استعصت على وعيه وإدراكه.

عندما عقد شقيقه حسان قرانه على فتاة أحبها في الحي نفسه عادت مشاعر الغيرة لتدغدغ صدره دون أن يشعر. ومضى حسان يقطف ثمار مثابرته على الدراسة، حتى تخرج، ثم حصل على وظيفة مرموقة في شركة أجنبية. وكان هو لا يزال على عتبة التخرج من حياة الدراسة الثانوية بعدما كانت له معارك مع سنوات الدراسة قاطعا إياها بمشقة كبيرة مضطرا لإعادة بعضها إثر حالات الرسوب العديدة. كان هو باختصار يتقدم خطوة ليتراجع عشرة مقابلها، بينما حسان يقطع أشواطا وأشواطا باتجاه تحقيق طموحاته الكثيرة، ما يعني ببساطة أن حسان كان مثال الأسرة للنجاح بينما كان هو نموذجا للفشل والتعثر.لا شك لديه أنه كان يحب أخاه حبا جما، ولا يزال يحبه حتى هذه اللحظة. يستطيع أن يعثر وسط هذا الركام المخيف من الظلام والهلوسات على مشاعر نابضة مشرقة من المحبة الصافية، ليس فقط لأخيه الأكبر، بل لكل فرد من أفراد أسرته أيضا. و يجد في هذه النقطة بالذات مبعثا للعزاء ومخففا للألم الذي لم يشعر به يوما خاليا من آيات الندم والتحسر. إن الذنب يتبعه كما يتبعه ظله، ولذلك لا يزال يشعر على الدوام بأنه شخص مذنب خاطئ، وبأن أفراد أسرته جميعا مدينون له بالكثير.

لقد بلغ منذ شهر تقريبا عتبة الأربعين. وقد زار شقيقته ملبيا دعوتها إلى تناول العشاء في بيتها، حيث أقامت له حفلة صغيرة بمناسبة عيد ميلاده أصابته بدهشة حقيقية إذ جاءت كمفاجئة كان يمكن أن يتوقع أي شيء إلاها. فأجال طرفه متطلعا إلى شقيقته وزوجها وأولادها يحتفلون بعيد ميلاده، فشعر بامتنان كما انبعث في داخله شعور بالذنب والتقصير تجاه شقيقته الصغرى التي تتذكر عيد ميلاده بدقة وتنظم للإحتفال به بينما هو غافل تماما عن أي تورايخ أو مواعيد هامة في حياتها وحياة أسرتها. وقامت شقيقته، كما حدس بداهة، بطرق الموضوع المكروه إياه. متى يتزوج؟ لقد مل هذا السؤال لدرجة أنه أصبح يثير في نفسه استنكارا حقيقيا. لقد بلغ الأربعين من عمره وفي الأيام التالية يبدأ باجتياز الواحد والأربعين، فهل لا زال هذا السؤال ملائما ليطرح على شخص مثله ليس العمر بأخطر ما يحول بينه وبين الزواج؟ ولكن شقيقته لا تعرف الحقيقة كلها، كما أن شعورها الأمومي تجاهه يأبى عليها إلا أن تتعهد أخاها قليل الحظ أو عديمه بالعناية والرعاية. وتساءل في سره ترى كيف تنظر إليه شقيقته وبأي عين، كما وقد وجد نفسه يتخيل أحاديثا تدور بينها وبين زوجها يتموضع هو في محورها، فخامره شعور بالخجل لم يدر له سببا.

إن العامين اللذين قضيا على رحيل أبيه لم يكونان في مستوى المأساة التي عاشها بعد موت أمه منذ خمس سنوات. وإنه في هذه اللحظة التي يقف فيها مترددا بعتبة الموت يتساءل عما إذا كان لهذه النوازع الإنتحارية من فرصة تنفذ فيها إلى ضميره لو أن أمه المرحومة كانت لا تزال على قيد الحياة! ويجره هذا الخاطر فجأة إلى تساؤل آخر عن جدوى الحياة ومعناها. وتومض في عينيه في ثوان خاطفة حياة كاملة لأسرة قضى الفناء على أكثر أعضائها وفتت الحزن والهم الباقي منهم، على حين لم يسلم من ذلك كله إلا فتاة صغيرة كانت فرحة الأمل ونقاوة الطفولة وزهوها يطوحون بها في عوالم من البهجة الأثيرية فتتراكض وتتقافز وتلهو بنسائم المتعة بين أفراد أسرتها المنشغلين عنها بأمالهم وآلامهم. مر شريط الحياة بسرعة برقية تجل عن التفصيلات التافهة ولا تحفل إلا بالصور العامة والمعالم الكبيرة البارزة في الوجدان بروز النجوم السواطع في سماء الليل الحالك. وكم كانت صغيرة وباهتة صورته هو وسط تلك الصور الكثيرة المتزاحمة في مخيلته! كانت كل الصور مشعة كبيرة وحتى مؤلمة، إلا صورته هو، فقد لاحت له بلا ألوان، بلا روح، وغير قادرة إلى إثارة أي نوع من الأحاسيس بداخله أو على الأقل لا تثير فيه أحاسيسا قوية كتلك التي تلهبها ذكريات والديه وشقيقه الراحلون. فقد ومضت في ذهنه الحياة كلها، منذ آخر نقطة يبلغها إدراك ذاكرته المحمومة، إلى حد هذه اللحظة التي تتأهب للفظه من أحشائها إلى نظام زمنى آخر يدور خارج فلك الزمن الأرضي هذا. لقد عجب مما رأى رغم إيجاز الرؤية وسرعتها، إذ رأى وجوها تسعى في الضياء، ورأى مطامح مبهرة تثيرة أعنف الرغبات، وتلك الوجوه الهائمة وسط الضوء تلهث وراء المطامح. بيد أن النور انطفأ بغتة وتآلكت الوجوه، وخبا بريق المطامح بعد ما قطعت الوجوه أشواطا طويلة باتجاهها. ودب الموت في الوجوه فأخمد عيونها وشل ألستنها، على حين نبتت من المطامح وجوه بشرية كريهة كأنها وجوه ممسوخة، تمد بألسنة سوداء نحو الوجوه الميتة لتزرع في الهواء المكهرب سخرية لا ترحم حتى الأموات. في هذه اللحظة ضربت جسده رعشة قوية شاملة فظن لثوان أن الموت زائره وبأن القدر يشاء أن يجنبه السقوط والإرتطام والتشظي. فتهيأ للرحيل متمنيا رحمة الله القدير منتظرا نهايته بتسليم لا يخلو من رهبة وهو ينحدر نحو الأرض رويدا مسندا ظهره إلى الحائط أسفل النافذة. بيد أن الرعشة انحسرت بعد لحظات عن جمود ثقيل قاتل كهم الموت، ووجد نفسه ينكمش على ذاته تحت النافذة وقد كتم نفسه ضيق شديد في الصدر فشد الهواء إلى داخله بقوة وانتفض واقفا والعرق يتصبب منه.

وقف قرب النافذة مرة أخرى وأنفاسه تتردد بسرعة وقلبه يخفق بعنف، وأرسل بصره عبر النافذة باتجاه المباني البعيدة المشعة بأضواء ساهرة، فجرى في خاطره شعور غامض بالحنين واللهفة، وتساءل عن أنواع الحياة التي يحياها أولائك الناس الذين لا يعرفهم لكنهم يسكنون في روح الذكرى ويرتعون في ظلال الزمن المحيط به منذ جاء إلى هذا البيت أول مرة. أطلق نفسا تخالطه تنهيدة، وحاول أن يتصور الأناس الذين يعيشون في تلك المباني. حاول أن يتطلع إلى عوالم تعمر بالبهجة والدفئ الأسري السعيد. هل لا يزال البشر يعيشون أجواء الدفئ والسعادة؟ هل يضحكون كما كنا نضحك في الماضي؟ هل يبكون فرحا وألما؟ هل يتشاركون مسرات الحياة وأحزانها؟ وشعر ببرودة شاملة تلف أطراف جسده الذي أخذ يرتعش تجاوبا مع الأنسام الليلية الباردة لآخر أيلول. هل يقوى على تحمل شتاء إضافي؟ من أين يأتي بالقدرة على ذلك ولكل فرد من البشر طاقة محدودة إذا ما نضبت فقد القدرة على متابعة ما كان عليه إلى حين تتجدد تلك الطاقة أو يصير إلى حال جديدة؟ إن كل فصول السنة شتاء بالنسبة له. فصباحاته لا تعرف دفئ الشمس، وأيامه تثقلها كآبة سوداء وملل متغلغل في الأماكن والأفكار، وعندما يحين موعد النوم الهارب يستقبله مخدعه ببرودة هادئة كأنها اللامبالاة، وفراشه المبعثر شتاء دائم. إنه في حيرة من أمره يشق عليه معها التفكير الحسن والتدبير. إن ما يؤمن به بصدق وإيمان هو أن روحه ملت العيشة وعافت الحياة، ولم تعد الدنيا بقادرة على إسكات وجعه بمغرياتها التي فقدت بريقها ولم تعد تثير لديه حتى أحط الرغبات.

كيف يرد على سؤال شقيقته وبماذا يجيبها؟ ليس به رغبة في الزواج؟ لم يعثر ببنت الحلال حتى الآن؟ أم يخبرها بالحقيقة كما هي دون زيادة أو نقصان؟ هم كلهم لم يطلعوا على سره لأنه أخفاه عن الدنيا جميعا. وليس إخفاؤه للسر بدافع الخوف أو التردد، بل بدافع الحرص، إذ لم يشئ لشيء في الدنيا أن يؤثر على علاقته بحبيبته مهما كان هذا الشيء سطحيا أو تافها. المشكلة أنه يحبها، وأن الناس لن تفهم حبه لها، حتى أمه وأبوه، كونها إبنة عز وجاه. سيسارع الظن إلى أذهانهم وسيتقولون عليه الأقاوييل. ولن يلبث أن يتهم بالوصولية وينعت بالشطارة والدهاء. كل ذلك كان يخيفه ويثير في صدره غبارا يخنقه ويكدر صفوه. مضت سنوات طويلة على علاقتهما، مايقرب الأربع سنوات. كانت أياما طويلة من السعادة الكاذبة، إنتهت بصدمة عميقة أرجفت قلبه وأخمدت تدفق الحياة في شرايينه. يتذكر الآن تلك الليلة الأخيرة بينهما، والتي شهدت على مأساته التي تبعث على الضحك. لقد إعترفت له للمرة المليون بأنها تحبه، ولكنها أقسمت له بأنها لا تسطيع الإرتباط به! "للأسف الشديد، لا يمكنني الإرتباط بك يا بسام، يعلم الله أن ذلك أحب ما في الدنيا إلى قلبي، لكنه عسير علي، بل إنه مستحيل" طبعا هي لم تتركه دون مبررات كافية تشرح له حقيقة الموقف وغاومضه، لكن عقله توقف عند مقولتها الأخيرة متشبثا بها في عناد، متخلفا عما لحق بها من جمل وهمهمات وما تخللها من صمت يملؤه التفكر والتردد. هكذا إذا! إنتهى كل شيء إلى اعتذار رقيق مجمل بإبتسامة دامعة! لا تستطيع الإرتباط به؟! وعلاقة أربعة سنوات كاملات، أي تسمية يطلق عليها؟ ورحلت تاركة إياه خلفها، رحلت دون أن تلتفت إلى الوراء، وقد أتبعها نظرة ساهمة لا تشف عن معنى، فعاد بصره بمشهد إمرأة تسير منطلقة بخطوات عريضة واثقة، كأنها تشق سبيلها نحو حلم عزيز. وانتهى كل شيء.

كان ذلك حدثا بعيدا، قبل أن توافي أمه المنية بما يقرب العام. وقد مر على وفات أمه خمس سنوات أو يزيد، حتى بدأ يشعر بأنه يأوي إلى راحة نسبية، بعد أن هدأت عاصفة حزنه على فقد أبيه، وخمدت رغباته التي كانت في يوم ما متقدة مستعرة. إلى أن رآها في أحد الأسواق برفقة شاب ملمع يبرق نضارة وفتوة. أصابته بادء الأمرة دهشة أقرب إلى الشعور بالغرابة، وكأنه حلم مزعج ينطق بكل ما هو شاذ وغريب. لكن سرعان ما زايله هذا الشعور، وحل محله فراغ هادئ جعله يرنو إلى الإثنين بعينين عاديتين، كأي متفرج يتلهى بمراقبة المارة. وقد إلتقت عيناهما، فخيل إليه أنها بعثت إليه بابتسامة خفيفة. وكم أثارت هذه الإبتسامة من حيرة في أعماقه المضطربة! ماذا تعني هذه الإبتسامة يا ترى؟ لقد مر على ذلك اللقاء المشؤوم ما يقرب الستة أعوام فهل من الممكن أن تكون قد تغيرت ملامحي لدرجة أنها لم تتعرف علي؟ هل عرفتني وأرادت أن تبعث إلي بتحية ما؟ ظل أيام وليال بطولها ساهرا متفكرا، الوجوم مسيطر عليه، ويأس غريب يشبه فقدان الشهية يملئ صدره وأنفه وعينيه. فلم يعد يربطه بالعالم، وهو راكد في مخدعه المظلم فوق سريره، سوى أصوات خافتة مجهولة تتسرب إليه من تحت الباب ومن خصاص النافذة المحكمة الإقفال. كانت أياما شديدة إنقطع خلالها عن الدنيا بما فيها، أفضت به إلى خسارة وظيفته في شركة التموينات والتي حصلها له أبوه بعد جهد جهيد وهي مورد عيشه الوحيد. فها هو الآن وحيدا، مفلسا، وليس في عقله تصور لمخرج يمكن ولوجه للإنتقال من هذا الظلام المخيف نحو نور مبين ما أحوج قلبه إليه.

ما هو الحل، أين المفر، وكيف تكون النجاة؟ لقد دخل عقله في دوامة حلزونية لانهائية، وشعر بأن فراغا غريبا يسكن ذهنه وصدره. هل يرمي بي الله في ناره إن قتلت نفسي؟ لكن إستمراري في هذه الحياة هو قتل يومي مستمر لنفسي ولكل شيء جميل قد يكمن بداخلها. أليس من الحرام أن أحيا هذه الحياة بكل ما فيها من فراغ مؤلم بات جوهرها الأصيل؟ وحانت منه التفاتة نحو الداخل، باتجاه أعماق الشقة الموغلة في ظلمة لا نهاية لها، وخيل إليه أنه يسمع صوت أمه آتيا إليه من الداخل يهيب به الحضور لتناول العشاء، فشكه الألم في قلبه وأوعزت له نفسه بالهرب إذ اتضح له أنه إن لم يقدم على الفرار فإن الجنون بانتظاره وسيفترسه ثم يسلمه لعالم مهول من الهذيان والهلوسة والتهويمات العبثية. فإرتعشت شفتاه ودمعت عيناه، وشق صدره نفس عميق طويل زاده حرقة على حرقة. وحاول استنزال عطف الله الرحيم، كما لو أنه يعتذر عما ينوي الإقدام عليه. زادت كثافة الدمع في عينيه فانساب منهما دمعتين ترقرقتا على خديه ليخالطان لحيته القصيرة التي عرف الشيب إليها طرقا، وأطلق زفرة طويلة. ثم استسلم للبكاء لحظة، وقال خلال دموعه بصوت ضاع في ظلام المكان: "لتشملني رحمة الله في علياءه". ثم دنا من النافذة وأطل برأسه منها إلى الفضاء المفتوح، وأجال في العالم الظاهر له وسط الليل نظرة زائغة لا تقف عند تفصيل. ومرت به لحظة وجيزة من التردد طاب له فيها التراجع، وأغراه النوم بسبات طويل يغيب فيه عن الدنيا جميعا، ولكنه نبذ الفكرة بهزة سريعة من رأسه، ثم تلى الشهادتين، وعقد العزم على الإقدام. وحانت منه فجأة التفاتة قصيرة نحو داخل البيت كأنما يلقي عليها نظرة الوداع، وإذا بصوت أمه يترامى إلى أذنيه من جديد، صوت غاضب يلح عليه بالقدوم. "لقد برد الأكل يا بسام، إن لم تحضر في الحال جئت إليك بنفسي. يا الله ما أغربك، هل تعذيبي هواية لديك؟ لماذا لا تجيب؟" هتفت به في حدة. ثم طرق سمعه وقع أقدام تتجه نحو غرفة الجلوس التي يرتفق إفريز نافذتها، وخيل إليه أن أمه ضاقت بانتظاره ذرعا وبأنها قادمة إليه حقا كما توعدت! إنه يسمع وقع أقدامها تتجه نحو الغرفة بسرعة كبيرة. وقد ارتفع وقع الإقدام ليقرع أذنيه ورأسه بمطرقة صلبة، فوجف قلبه ودب الذعر في أوصاله، هل تظهر أمه بالباب حقا؟ زاد خفقان قلبه عنفا، وتوقفت أنفاسه عن التردد، وقبل أن تطل أمه من الباب كعادتها في الماضيات من الأيام لتصيح به وتوسعه لوما وتقريعا، قرر الفرار بنفسه من الموقف العسير فأقحم رأسه في النافذة من جديد وقفز إلى العالم المجهول بوثبة سريعة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى