السبت ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم علي عفيفي علي غازي

«ملامح الفكر السياسي في الإسلام» لخالد حربي

السياسة هي الإجراءات والطرق التي تؤدي إلى اتخاذ قرارات من أجل المجتمعات البشرية، بهدف تسيير أمورها وقيادتها، ومعرفة كيفية التوفيق بين التوجهات الإنسانية المختلفة والتفاعلات بين أفراد المجتمع الواحد، وهي تعني فن تحقيق الممكن في إطار الإمكانيات المتاحة، وفي إطار الواقع الموضوعي. وتعني المرونة أي الأخذ والعطاء تطبيقًا للمقولة العربية "لا تكن شديدًا فتكسر، ولا لينًا فتعصر". اشتقت من اليونانية [1] وتعني الدولة المدنية ويقصد بها "القلعة في قلب المدينة"، ومنها كانت السياسة [2] التي هي جزء من محاولة الإنسان المستمرة لفهم نفسه ومحيطه، وعلاقاته مع الآخرين الذين يتعامل معهم. وهي العلم الذي يدرس الدولة ومؤسساتها وأجهزتها والمهام التي تقوم بها هذه المؤسسات والأجهزة والغايات التي أنشئت من اجلها، وجوهر السياسة يقوم علي الفصل بين نوعين من القيم: القيم المرتبطة بالناحية الدينية، والقيم المرتبطة بالظاهرة السياسية باعتبارها ظاهرة اجتماعية وضعية. والدولة التي تقوم علي النوع الثاني من القيم يطلق عليها: الدولة القومية، الدولة القانونية، الدولة المدنية، الدولة العلمانية.

وقد عبر معاوية ابن أبي سفيان أول خلفاء بني أمية عن أهم صفات السياسي كما يراها بقوله "لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت إذ أرخوها شددتها، وإذا شدوها أرخيتها" وهو تعبير بليغ موجز يعرف السياسة لدلالته على جوهر العمل الذي يقوم به رجل الدولة المنوط به تنفيذ سياستها الداخلية والخارجية.

والفكر السياسي هو محاولة للتأمل حول الكليات الكبرى التي تحكم الوجود السياسي مثل فكرة الحق ، قيمة العدالة ، قيمة المساواة ، قيمة الحرية ، قيمة التوحيد، قيمة الشورى. والنظم السياسية وفقًا لذلك متنوعة فهناك النظم البرلمانية، النظم الرئاسية، النظم المختلطة، النظم الديموقراطية الليبرالية، النظم الاستبدادية التسلطية. وعلى هذا فإن الفكر السياسي يشمل الفئات التي تشمل بنائيًا أو هيكليًا المؤسسات الدستورية الثلاث: التنفيذية، القضائية، التشريعية إلي جانب الصحافة.

ومُؤلَف الدكتور خالد حربي "ملامح الفكر السياسي في الإسلام" الذي صدر أخيرًا في مصر عن دار الوفاء للطباعة والنشر بالإسكندرية، محاولة للبحث في مبادئ السياسة في الإسلام، تلك المبادئ التي حصرها في أربعة مبادئ رئيسية هي: الحاكمية لله، الخلافة، الشورى، والعدل، وهذه الأصول هي التي تحدد شكل الدولة ونوع الحكم في العلاقة بين الحاكم والمحكومين.

ومبدأ الحاكمية لله يعني "التسليم بأوامر الله ونواهيه وإطاعتها والانقياد بها، وذلك عن طريق تطبيق المبادئ الثلاثة الأخرى". والخلافة تعني "أن الله قد استخلف الإنسان في الأرض ... وتبعًا لذلك فإن كل المؤمنين خلفاء عن الله، وكل منهم مسئول أمام ربه من حيث كونه خليفة يعمل ويحكم بما أنزل الله تعالى". أما الشورى فهي أهم المبادئ التي تقوم عليها الدولة الإسلامية لأنها تعطي الأمة الحق في إدارة شئونها العامة، وتمثل ضمانًا رئيسًا يحول دون مخالفة القانون أو الانحراف في استعمال السلطة. والعدل الذي جعل له الإسلام مكانة سامية، فجعله الركن الأساسي في أركان الحكم لأنه حكم الله في أرضه، قال تعالى "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعًا بصيرًا". وتمثل هذه المبادئ أو الأصول الأربعة موضوع الكتاب.

وقد قسم المؤلف الكتاب إلى بابين، في الباب الأول، يتناول في فصلين مبادئ السياسة في الإسلام وأركان الدولة في الإسلام، وفي الباب الثاني يقدم نماذج من الفكر السياسي في الإسلام من خلال فصلين، في الفصل الثالث يقدم الفارابي ومدينته الفاضلة كنموذج، والرابع يقدم ابن خلدون وفكره السياسي والاجتماعي كنموذج.

ومؤلف الكتاب هو الدكتور خالد حربي، دكتوراه في الفلسفة 2002 تخصص "تاريخ ومناهج وفلسفة العلوم العربية الإسلامية" بمرتبة الشرف الأولى، وخبير المخطوطات بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، ومحاضرًا ومحققًا في فلسفة وعلوم الحضارة الإسلامية، عضو عدة جمعيات علمية وتراثية، ونائب رئيس رابطة خريجي كلية الآداب ورئيس لجنة الثقافة والإعلام، والمستشار العلمي للجمعية المصرية للمعرفة وتكوين الإنسان المعاصر، وعضو الجمعية الفلسفية المصرية، وعضو الجمعية المصرية العلمية للمخطوطات والتراث.

في الفصل الأول قدم لمبادئ السياسة في الإسلام وأصولها الأربعة: الحاكمية لله، والخلافة، والشورى، والعدل، بوصفها الأصول الرئيسية التي تحدد شكل الدولة، ونوع الحكم، والعلاقة بين الحاكم والمحكومين في الدولة الإسلامية. بتعريفها، وإيضاح آيات الذكر الحكيم التي حثت عليها، ليخلص في النهاية إلى أن تأسيس الدولة الإسلامية يقوم على القانون المشرع من عند الله مهما تغيرت الظروف والأحوال والحكومات، التي وجب عليها أن تحكم بما أنزل الله، وتنفذ أمره في خلقه، وأن بيعة الحاكم مرهونة برضاء الناس، وموافقة الشعب التي هي الأساس في بقائه في حكمه ودوامه، وأن الإسلام كفل حرية الفكر والتعبير عن الرأي، وحرية النقد والمعارضة، فالحريات في ظل مبدأ الشورى مكفولة للأفراد، حتى أنه من الواجب على كل فرد أن يبدي معارضته أو نقده لأخطاء غيره حتى ولو كان ذلك الغير هو الخليفة ذاته.

كما جعل الإسلام الشورى أساس من أسس الحكم، وأداة من أدوات وقاية المحكومين من استبداد وانفراد الحاكم بالسلطة، وهي كذلك أداة من أدوات وقاية الحاكم من الزلل والاستبداد بالرأي دون الأخذ في الاعتبار بآراء المحكومين، وعلى هذا فإن الشورى باعتبارها أهم المبادئ التي تقوم عليها الدولة الإسلامية تعطي الحق للأمة في إدارة شئونها العامة، وتمثل ضمانة من الضمانات الأساسية التي تحول دون مخالفة القانون، أو الانحراف في استعمال السلطة، والعدل هو الركن الأساسي في أركان الدولة أو الملكية، وهو حكم الله تعالى في أرضه، والدليل على شرف منزلته اتفاق الأمم عليه مع اختلاف مذاهبهم، وهو أحد أسماء الله الحسنى، وهو أساس الشريعة الإسلامية، قال تعالى "وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلاً"، فرضه الحق جلا وعلا بين الناس بعضهم بعضًا، وفيما بينهم وبين أعدائهم، فهو واجب مع العدو والصديق على السواء، ومع المؤمن والكافر أيضًا.

وفي الفصل الثاني عرف الدولة في الإسلام، بأنها "مجموعة من الأفراد يقيمون إقامة دائمة على إقليم محدد ويخضعون لسلطة سياسية مسئولة عن تسييس كل الأمور الداخلية والعلاقات الخارجية" (ص39)، ثم عرض لأركانها الثلاث: الشعب، والأرض أو الإقليم، والسلطة السياسية أو الحكومة. ثم طبق ذلك على الدولة الإسلامية الأولى التي قامت بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة المنورة، وتكاملت أركانها الثلاث فكانت المدينة بداية النظام السياسي في الإسلام بصدور أول دستور إسلامي وضعه الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بمؤاخاته بين المهاجرين والأنصار كإخوة متحابين في الله، بالإضافة إلى إعلانه المساواة بين البشر جميعًا فلا تمايز بينهم إلا بالتقوى، ليخلص في النهاية إلى أن الدولة في الإسلام كانت ذات مفهوم خاص ارتبط بالتطور التاريخي للدعوة إلى الإسلام، ثم اتضحت بشكل تدريجي حتى أصبحت قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم دولة كاملة الأركان قوية البنيان راسخة الدعائم، وذلك بفضل عالمية الإسلام كرسالة ودولة، فالإسلام ليس دين فئة معينة، أو طبقة واحدة، أو أمة بعينها، بل هو دين لكافة الناس من مشارق الأرض ومغاربها، وعلى ذلك كانت رسالته عالمية للعالمين "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".

وفي الفصل الثالث قدم نموذج لمفكري السياسة في الإسلام، وهو أبو نصر محمد بن محمد بن طرفان الفارابي، بعرض موجز لحياته وعصره، ثم مؤلفاته وفلسفته السياسية، إذ جعل للسياسة عنده أهدافها المحسوسة في أبدان المواطنين ونفوسهم ومستوى حياتهم، ليعرض لنا فكرة السياسة من خلال مؤلفه "آراء أهل المدينة الفاضلة" التي يتعاون أهلها جميعًا في سبيل تحقيق رفاهيتهم وسعادتهم، فقسم المجتمعات إلى مجتمعات كاملة، ومجتمعات غير كاملة، وقسم المدن إلى مدينة جاهلة، وضرورية، وبدالة، ومدينة الخسة والشقوة، ومدينة الكرامة، ومدينة التغلب، والمدينة الجماعية، والفاسقة، والمتبدلة، والضالة، وأخيرًا المدينة الفاضلة التي يتعاون جميع أهلها في سبيل الحياة وحفظها، برئيسها أو حاكمها الصالح، وبمعارفها التي ينبغي أن يعلمها جميع أهلها، ليخلص في النهاية إلى أن مدينة الفارابي محاولة لبناء مجتمع فاضل سعيد، يتعاون على الأشياء التي ينال بها السعادة.

وفي الفصل الرابع والأخير من الكتاب يتناول بالدراسة والتحليل فكر رائد علم الاجتماع الأول على مستوى العالم كنموذج لمفكري السياسة والاجتماع المسلمون، ألا وهو عبد الرحمن بن خلدون، وتنصب الدراسة على فكره الاجتماعي والسياسي، فبدأ الفصل بعرض لحياته، ثم دعوته إلى الحاجة إلى العمران البشري بوصف أن الاجتماع الإنساني ضرورة للإنسان لأنه مدني بطبعه يحتاج إلى الآخرين من أبناء جنسه لاكتمال وجوده، فبدأ ابن خلدون بحوثه بدراسة العوامل التي ترجع إليها نشأة الحياة الاجتماعية كالشعور الفطري لدى الفرد للاستئناس بأخية الإنسان.

وأوضح أن ابن خلدون قد قسم علم العمران على أساس تقسيمه للظواهر الاجتماعية إلى قسمين: الأول بنية المجتمع، والثاني النظم العمرانية، مهتمًا بدراسة الأحداث التاريخية لأنها من وجهة نظره تعمل على "إفهامنا الحضارة والظواهر المرتبطة بها، ومعرفة الحياة البدائية، وتهذيب الأخلاق، وروح الأسرة والقبيلة، وما يتبع ذلك من نشأة إمبراطوريات وأسر حاكمة"، فيعلمنا التاريخ جميع التغيرات التي أحدثتها طبيعة الأشياء في سلوك المجتمع.

وبين أن منهج ابن خلدون قد اعتمد على صنفين من الوقائع: اقتصادية وجغرافية، ونفسية يراها نتيجة للأولى، ولذلك استخدم المنهج العلمي لدراسة الأحداث التاريخية بصورة اجتماعية مرتبطة بالواقع من أجل تفسير الظواهر الاجتماعية التي سماها "واقعات العمران البشري"، فسبق بذلك جميع علماء الاجتماع الغربيين المحدثين بأكثر من خمسة قرون؛ في وضع الأسس العامة لدراسة الظواهر الاجتماعية التي سماها دور كايم في العصر الحديث بالمورفولوجيا الاجتماعية.

وكشف النقاب عن أن الاجتماع الإنساني لدى ابن خلدون يقوم على أساسين بارزين هما: العصبية والدين، اللذين لولاهما ما قام مجتمع إنساني سليم، فيؤكد في تفسيره للظواهر السياسية على أن جميع الناس يولدون متماثلين عقليًا فلا يتغيرون إلا بقدر ما يعطون من تربية، فهو إذن يقيم نظريته على ذلك النوع من التضامن الذي أطلق عليه اسم "العصبية"، وغايتها الملك.

واختتم الفصل بعوائق الملك كما يراها ابن خلدون في أنها "حصول الترف وانغماس القبيل في النعيم"، ليؤكد على أن ابن خلدون يرى أن الحكومات أنواع مختلفة أهمها: الحكومة الطبيعية التي يتولاها رئيس واحد مستبد، والحكومة الدينية التي تستند على القوانين الصادرة من عند الله، وهي خير ضمان لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، كما تناول سمات الحاكم التي ينبغي أن يكون عليها من إقامة حدود الله في أصحاب الجرائم، وأن يحكم بما أنزل الله فهو خليفته وظله في أرضه.

وبعد فإن هذا الكتاب يمثل بداية منظومة كبرى في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، قام على مراجع علمية رصينة، ومصادر أولية، ويستحق القراءة والاقتناء، ويحتاج إلى المزيد من البحث والتنقيب لاستكمال ملامح الفكر السياسي في الإسلام لدى مفكري السياسة في الإسلام الآخرين استكمالاً للفارابي وابن خلدون.


[1Police

[2Political


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى