الخميس ١٠ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم فراس حج محمد

أمير الشعراء والسقطات النقدية

يعد برنامج أمير الشعراء برنامجا جماهيريا بلا أدنى شك، وقد حقق شهرة واسعة بين قطاعات كبيرة من المشاهدين والمستمعين، واستطاع البرنامج أن يضبط بوصلة المثقفين والشعراء والفنانين؛ ليحظوا بفرصة الظهور فيه، وقد ساعد على هذه الشهرة وهذا المد الجماهيري ما جُند لهذا البرنامج من تنوع في الآلة الإعلامية التي تحمله من فضائيات وإذاعات ومواقع إلكترونية وصحف ومجلات، وأصبحت كلها تخدم نفسها عندما تنشر أخبارا عن البرنامج حتى المعارضة له أفادت من جماهيريته، فقد حظيت هي الأخرى بفرصة التعلق بالبرنامج فطالها شيء من المتابعة والحياة.

هذا، عدا ما حظي به البرنامج من رعاية رسمية من الدولة في الإمارات المتحدة، فالبرنامج هو أحد النشاطات الثقافية لهيئة الثقافة والتراث، ولا تكاد حلقة من حلقاته تخلو من حضور أحد رموز الدولة، وكثيرا ما أشير إلى أن البرنامج يحظى بدعم من سمو الأمير محمد بن خليفة ولي عهد الإمارات.

لقد حرص المنظمون أن يتجاوز البرنامج كثيرا من المثالب التي وقعت في نسختيه الأولى والثانية، وغدا البرنامج أكثر رسوخا، وأعمق منهجا، وأضحى النقد فيه أكثر نضجا وتخصصية، ومع ذلك يبقى الجهد البشري بحاجة إلى مراجعة وتقييم، وتندرج هذه الدراسة في هذا الباب محاولا كاتبها الإشارة إلى ما وقع في النسخة الثالثة من سقطات نقدية، كان الأجدر أن لا تكون، فثلمت بوجودها بهاء البرنامج، وشوشت عليه نقاءه، وكدرت صفاءه.

لقد كان تعلقي بحلقات البرنامج شديدا، وكنت حريصا على أن لا يفوتني منه أي لقطة أو تعليق إلى درجة أنني كنت أنعزل عن العالم الخارجي كليةً، وأرفض استقبال الزائرين، أو المكالمات الهاتفية والخلوية، وما هذا إلا لأنني وجدت في البرنامج فرصة للفائدة والاستزادة من نمير الماء، متعطشا للعيش مع كلمات الشعراء وإحساسهم وأدائهم المميز، مسجلا بعض الملحوظات الأولية حول ما قُدِّم من نقد، وحلقة وراء حلقة، وإذ بتلك الملحوظات تتجمع وتتكدس معلنة عن وجودها ومبرر تصنيفها في دراسة نقدية، لعلها تندرج في باب ما بات يعرف بنقد النقد أو الميتانقد.

وقبل أن أتناول تلك الملحوظات بالعرض والتعليق أحب أن أقف عند البرنامج بشكل عام لمعرفة بعض القضايا المتصلة فيه، ليسهل فهم سير البرنامج وآليته.

البرنامج نظرة عامة:

لقد بُذل في البرنامج جهد نقدي كبير، فقد أورد الموقع الإلكتروني لمسابقة أمير الشعراء، أن لجنة التحكيم قد قابلت 300 شاعر، من بين ما يزيد عن الألف قدموا نصوصهم للجنة المسابقة، وقامت اللجنة بدراسة ما يزيد عن 7500 نص شعري متنوع بين الشعر العمودي والشعر الحر، حتى استطاعت أن تنتقيَ أفضل خمسة وثلاثين شاعرا، وهذا بلا شك جهد مقدر عاليا لهؤلاء الجهابذة.

ويُعرّف البرنامج بأنه أكبر برنامج مسابقة في الشعر الفصيح، ويضم عدا مرحلة الانتقاء السالفة الذكر أربع مراحل، كلها تبث على الهواء مباشرة من مسرح شاطئ الراحة في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، وهذه المراحل موزعة على النحو التالي:

المرحلة الأولى:

وهي مرحلة الـ (35) شاعرا، وتتكون من خمس حلقات، يتنافس في كل حلقة سبعة من الشعراء، يقدم كل منهم قصيدة يختارها الشاعر في أي موضوع يشاء وبأي شكل يرى، لتكون المحصلة تأهل شاعر واحد في كل حلقة من الحلقات الخمسة بقرار من لجنة التحكيم يحصل على أعلى الدرجات، ويحال البقية إلى تصويت الجمهور ليتأهل اثنان في بداية الحلقة التالية، لتكون نهاية المرحلة بفرز (15) شاعرا، ينتقلون إلى المرحلة الثانية.

المرحلة الثانية:

وتتكون هذه المرحلة من ثلاث حلقات، يتبارى في كل حلقة خمسة شعراء، ويعتمد معيار التنافس هنا على أمرين: الأول أن يختار كل شاعر قصيدته التي سيلقيها حسب شروط المرحلة الأولى المُشار إليها سابقا، والثاني: أن جاري الشعراء نصا مختارا بمجموعة من الأبيات لا تتعدى (10-14) بيتا، يشترك مع النص المجارى في الوزن والقافية والموضوع، ويتأهل شاعر واحد بقرار من لجنة التحكيم في كل حلقة، ويحال البقية إلى التصويت لمدة أسبوع كامل، ليعلن عن الفائز بأعلى نسبة تصويت في أول الحلقة التالية، وهكذا حتى يصل المتسابقون الستة إلى المرحلة الثالثة.

المرحلة الثالثة:

وتتكون هذه المرحلة من حلقة واحدة فقط، يتنافس فيها الستة شعراء، حسب شروط خاصة؛ وذلك حسب معيارين كذلك، يتمثل الأول في أن يكتب كل شاعر قصيدة مقيدة الوزن والموضوع والقافية، وقد كانت القصيدة هذا العام قصيدة أبي العلاء المعري:
ألا في سبيلِ المَجْدِ ما أنا فاعلُ عَفافٌ وإقْدامٌ وحَزْمٌ ونائِلُ

والقصيدة من البحر الطويل بقافيتها اللامية المضمومة، يطلب من الشعراء أن يوظفوا كل ذلك في الكتابة عن قلعة الجاهلي، تلك القلعة التي بناها الشيخ زايد الأول، وجسدها المخرج في خلفية مسرح شاطئ الراحة.

أما المعيار الثاني فعلى كل شاعر أن يجاري واحدا من زملائه المشاركين معه، فقد تم اختيار أربعة أبيات لكل شاعر، على الشاعر الآخر أن يجاريها وزنا وقافية وموضوعا، بمدة زمنية محددة وهي ربع ساعة، وتنتهي هذه المرحلة ويحال الجميع على التصويت، ليخرج شاعر واحد فقط من المسابقة في بداية الحلقة الأخيرة، وهي الحلقة العاشرة من البرنامج، وهي تشكل المرحلة الرابعة، مرحلة تتويج الأمير.

المرحلة الرابعة: (التتويج)

وتضم خمسة شعراء، هم صفوة الصفوة كما يحلو لمقدم البرنامج الإعلامي حامد المعشني أن يصفهم، يجدّون السير نحو لقب أمير الشعراء، عبر كتابة قصيدة يتحدثون فيها عن الشعر ومكابدته ورحلة الشاعر في البرنامج ووصوله إلى هذه المرحلة، والقصيدة غير مقيدة بوزن أو قافية، وكذلك يوضع الشعراء في المعيار الثاني للتنافس تحت طائلة الارتجال الآني، فيرتجل كل شاعر من الشعراء بيتا واحدا على وزن وقافية أبيات اختارتها لجنة التحكيم، وقد كانت هذه الأبيات من مشهور الشعر العربي، موزعة على عصور مختلفة وبأوزان متنوعة، فكان أولها على البحر البسيط، وهو قول ابن زيدون في قصيدته المشهورة في محبوبته ولادة بنت المستكفي، يقول البيت:

أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا

وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا

والبيت الثاني كان من شعر أبي ذؤيب الهذلي، وهو على البحر الطويل، والبيت هو:

وانّي لَتَعْروني لذِكراكِ هزة

كَما انْتَفَضَ العُصفورُ بَلّلهُ القَطْر

وأما البيت الثالث فكان من شعر أول أمير للشعراء في عصرنا الحاضر، وهو الشاعر العربي الكبير أحمد شوقي في مدحته النبوية، والبيت هو:

وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي

وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا

هذا، وقد تركز النقد في حلقاته التسع الأولى، لتكون الحلقة الأخيرة حلقة احتفالية بالشعراء، وقد قلت فيها الملحوظات النقدية، وانهالت لجنة التحكيم بعبارات التمجيد على الشعراء لتهنئتهم بوصولهم إلى هذه المرحلة، فكل واحد منهم يستأهل أن يكون الأمير، وما هي إلا دقائق حتى يفصح القدر عن مغيباته مطلقا اسم الأمير من بين تصويت الجماهير، ليحظى الشاعر السوري حسن بعيتي بهذا التأمير، ويكون الأمير الثالث عن جدارة وحسن تقدير، بعد رحلة دامت خمسة أشهر، ربحنا فيها الشعر، وربح فيها الأمير مليون درهم وعباءة الإمارة وخاتمها.

نقد على النقد:

هذه الاحتفالية الشعرية والنقدية الفارهة التي شارك في صنعها الشعراء والنقاد واللجنة المنظمة، أنتجت كما وافرا من النقد، قدمه أساتذة أجلاء كرام لهم الباع الطويل والقدرة النقدية العالية، ومؤلفاتهم تشهد على ذلك، ولا يمنع كونهم نقادا كبارا أن نسجل بعضا من ملحوظاتنا عليهم، علما بأنني كنتُ قد كتبت مقالا نقديا بعنوان "دام صوتك شعرا" العام الماضي حول البرنامج في نسخته الثانية تحدثتُ فيه حول قضايا عامة، ومن خلال متابعتي للبرنامج هذا العام وجدت أن البرنامج قد تخلص من كثير من تلك الملحوظات، ولا أدعي أنني الوحيد من تحدث فيها، ولكنها أصوات تعاضد بعضها، لتكون النتيجة في صالح الشعر السمين والنقد الأثمن.

لقد تجمع لدي كثير من ملحوظات نقدية، كما أشرت سابقا، فعملت قدر ما أدركتُ الملحوظة وأبعادها النقدية والمعرفية أن أبوب تلك الملحوظات وأعيد صياغتها، فجاءت تلك الملحوظات في هذه المحاور:

1. المبالغة في النقد.

2. الشطط في النقد وعدم الوضوح.

3. السخرية والتهكم.

4. مواقف نقدية غير مبررة.

5. سقطات النقاد وأخطائهم.

أولا: المبالغة في النقد:

يعجب النقاد بشعر الشعراء، فينساقون إلى كيل الأحكام النقدية المبالغ فيها، هذه المبالغة تدفع د. صلاح فضل إلى أن يعلق على قصيدة وليد الصراف قائلا: "تقاوم بهذا الشعر ليس الأمريكان فقط، وإنما الفكر الجنائزي يا وليد"، وتجد أحيانا أن العجلة تصيب الناقد بنوبتها، فيصدر حكمه النقدي قبل أوانه، وهذا عينه ما أصاب د. عبد الملك مرتاض في امتداحه لقصيدة الشاعر المصري حسن شهاب الدين ، فيرى الناقد أن "صور الشاعر أجمل ما أنشدناه وسنشده في هذه الليلة"، وشبيه بهذا قول الناقد نفسه للشاعر العراقي بسام صالح مهدي "وأنت أشعر من رأيناه في هذه الأمسية"، وتتجاوز المبالغة أحيانا حدها المقبول والمعقول، وذلك عندما يرى د. علي بن تميم في الشاعر بسام تجسيدا للشعر الحقيقي، معلنا "أنه لولا الشعراء العراقيون لانقرض الشعر الحقيقي"

ولا تصح أن تصدر من اللجنة مثل هذه الأحكام، وذلك لأنها تندرج في باب الأحكام المسبقة، والتي قد تؤثر سلبيا في الشاعر الذي سيأتي بعدُ، ويتلو نصه، ولا يغيب عن الذهن أن النقاد عندهم علم بكل قصائد الحلقة التي ستبث، ولكن هذا ليس مبررا لإصدار مثل هذه الأحكام على تلك القصائد مهما بلغت درجة جودتها.

وتلاحظ أحيانا أن اللجنة قد تفرقت آراؤها في الحكم على بعض النصوص، لتصل إلى حد التناقض في النظر إلى النص بشكل عام، وليس في محاكمة بعض جوانبه، ففي الوقت الذي رأى فيه غير ناقد أن قصيدة الشاعر الإماراتي حسن النجار تتسم بالركاكة والضعف، يتصدى د. علي بن تميم لتمجيد الشاعر ممتدحا ما فيها من هشاشة وضعف، وداعيا إلى مقارنة قصيدته بقصيدة الشاعر نزار قباني "حبيبتي والمطر"، طالبا من الشاعر الاستمرار في الكتابة بالطريقة نفسها لأنها مليئة بالشاعرية.

وهنا لا بد وأن يثور التساؤل الآتي: إذا كان النقد يبنى على أسس علمية ومنهجية واضحة، لماذا يوجد مثل هذا التناقض في الحكم النقدي؟ يبدو أن النقد مهما ادعى القائمون عليه والمشتغلون به أنهم موضوعيون وعلميون لا يستطيعون الفكاك من أسر الذوقية، وهذا ما أثبته البرنامج وغيره، حتى أن النقد المكتوب في عهد هذه العلمية، لم يسلم هو الآخر من هذه الذوقية التي فرّقت آراء النقاد في المسألة الواحدة، وهذا بطبيعة الحال ليس راجعا إلى اختلاف مناهج النقاد ومدارسهم النقدية.

ثانيا: الشطط في النقد وعدم الوضوح:

قالوا قديما: "المعنى في بطن الشاعر"، وواضح أننا مضطرون إلى تغيير العبارة لتطال النقد المعاصر، ليصبح معقولا أن نقول: "النقد الواضح في بطن الناقد"، وغدا الشاعر والناقد كلاهما غير واضح الفكرة وغير مبين، هذا عدا الشطط في الحكم أو في تفسير النص بغير ما يحتمل أو العيب على الشعراء أفكارهم التي أبدعوا أشعارهم بناء عليها، ليكون النقد فكريا أحيانا مبتعدا عن محاكمة الناحية الفنية، ومن بين كل هذا برزت جملة من المواقف النقدية لتعلن بصريح العبارة عن الشطط في النقد أو عدم الوضوح فيه.

عندما يلقي الشاعر العراقي وليد الصراف قصيدته الأولى ، وهي قصيدة عن مدينة بغداد، متناولا في الحديث موقفه ممن احتلوا بلاده، وحولوا العراق إلى أرض يباب قاحلة، وما صاحب ذلك من قتل وتشريد، ينبري له الناقد نايف الرشدان بالتعليق الفكري غير النقدي، ليقول له: "إنه ليس شرفٌ أن تأكل العدو، وإنما هناك لغة جديدة هي الحوار والاحتواء وليس الاعتداء"، هكذا يكون نقد الرشدان، وبعيدا عما وقعت فيه العبارة من خطأ نحوي واضح، والذي سيكون بإمكان القارئ الكريم اكتشافه، فإنني أقف متأنيا عند الفكرة المستكنة في هذا الموقف النقدي، حيث يطالب الرشدان الشاعر وليد الصراف أن يحاور عدوه ويحتويه ولا يعتدي عليه، فهل يُعقل أن يقال مثل ذلك لشاعر عاش مأساة إنسانية كبرى، شهد القاصي والداني على بشاعة مَن ساهم في صناعتها مِن محتل غاشم لم ولن يعرف للإنسانية معنى، إنه لعمر الحق موقف تدجين وشطط في النقد، ليس له سند من منطق.

ويصطنع د. علي بن تميم موقفا نقديا بعيدا عن النص ولو من باب التأويل، فيشتط الناقد في تأويل لفظ الجنوب الوارد في قصيدة للشاعر العراقي بسام مهدي ، إذ يرى الناقد أن الشاعر يشير إلى ثنائية انقسام العالم إلى شمال وجنوب، طالبا من الشاعر تحطيم اليقين؛ لينطلق نحو الآفاق، وهو بالتالي يقحم على هامش النص ما يريده من أفكار، والتفسير بعيد كل البعد عن مقصود الشاعر، فالشاعر كان يتحدث عن جنوب العراق، قاصدا مدينة البصرة، وهذا ما أشار إليه كذلك أحد أعضاء لجنة التحكيم.

وليس هذا الموقف الوحيد للناقد علي بن تميم في التعامل مع نصوص الشعراء، إذ غالبا ما يصر على وجود تناص مع قصائد أخرى لشعراء مشهورين، وهذا ما حدث مثلا مع وقوف الناقد عند قصيدة الشاذلي القرواشي ، فقد رأى الناقد أن الشاعر قد وظف في قصيدته بعضا من عبارات الشاعر محمود درويش، مما حدا بالشاعر القرواشي أن يرد عنه التهمة بأنه نشر قصيدته في ديوان قبل أن ينشر درويش تلك القصيدة في ديوان سنة 2003.

إن مثل تلك الإحالات غير الموفقة من الناقد لم تكن أكثر من عرض للعضلات الثقافية إن جاز التعبير، ليس أكثر، وبالتالي فإن الناقد يصر على أن يزج بنفسه في دوامة لا تحمد عقباها، فليس مجرد وجود تعبير لفظي عند الشاعر معناه أنه قد اتكأ على غيره وأخذه منه، إن مثل هذه المواقف النقدية لتدل على تمحل وعدم اعتراف بإبداع الشعراء وأنهم قادرون على أن يلتقوا مع إبداع غيرهم وأن يتجاوزوهم، وإلا لماذا يكتب الشعراء بعد الشعراء الفحول؟؟

ومن غريب النقد، وما أغربه في أحايين كثيرة!، ما رآه د. عبد الملك مرتاض تعليقا على قصيدة الشاعر السوري حسن بعيتي ، في أن لفظ "الزنزلخت" الذي استخدمه الشاعر هو من لغة الجن، فهل تعرف الناقد على تلك اللغة لينسب هذه اللفظة إلى لغة عالم آخر لا يقع عليه الحس.

وفي السياق نفسه، أقف عند ملحوظة نقدية قدمها د. صلاح فضل موجها الشعراء إلى أن يتحدثوا عن منظومة قيم جديدة، معترضا من طرف خفي على حديث الشعراء وتناولهم القيم العربية الأصيلة، من فروسية وشجاعة ونحوها، وينتظر منهم أن يجددوا في منظومة تلك القيم، فيتبنونها ويبثونها في المجتمع، وأن يكون تحديث القيم هو هدفهم ذاكرا على سبيل المثال قيمة الحرية، وكـأن هذه القيمة ليست قيمة عربية أصيلة عرفها العرب قبل الإسلام وترسخت مع قدوم الإسلام وحركته الثورية العظيمة، إلا إذا كان الناقد يقصد معنى آخر للحرية، وهذا المعنى مستكن في بطن الناقد لم يفصح عنه!

ويأبى د. صلاح فضل إلا أن يضل الطريق وهو يعابث قراءة قصيدة الشاعر السعودي عبد الرحمن الحربي ، فيبتعد الناقد عن النص وشرط قراءته قراءة موضوعية نقدية، ليزج بنفسه في حمأة الصراع الفكري منتصرا لأفكاره، فيربط قصيدة الحربي وما احتوته من إشارات صوفية مع خبر مفاده أن الجزائر تحارب التطرف (الديني) بالصوفية.

ثالثا: السخرية والتهكم:

حفلت حلقات البرنامج بالكثير من المواقف الطريفة المحببة، التي أضفت جوا من المرح الظريف، ولكنها كذلك غصت بالمواقف الساخرة التي ابتعد فيها النقاد عن النقد وتجاوزوا الحد في الدعابة، لتقترب تلك الدعابة إلى حد السخرية والدعابة الممجوجة المدّعاة.

فقد تجاوز د. صلاح فضل المعقول والمقبول في التعليق على الشاعر وليد الصراف عندما سمعه لأول مرة، والبرنامج في مرحلة البحث عن الشعراء، فيدعو الناقد على الشاعر بدعوة صار لها صدى واسع فيما بعد في البرنامج، فبعد أن أنهى الشاعر إلقاءه القصيدة، وإذ بالناقد يقول له: "لعنة الله عليك"، مما يجعل الشاعر يستغرب من هذه المقولة الجارحة، والدعوة القاسية اللئيمة، ويعاد التذكير بهذا الموقف غير النقدي في أول حلقات البرنامج المذاعة على الهواء مباشرة، فيذكر نايف الرشدان بمقولة د. فضل رافضا لها ومستبدلا بها جملة أخرى: "فإذا قال لك د. صلاح لعنة الله عليك، فإني أقول لك رحمة الله عليك"، وتجرّ هذه الجملة د. عبد الملك مرتاض ليرفض التعليقين معا ومستبدلا بهما عبارة "رضي الله عليك" على اعتبار أن مقولة الرشدان تقال للأموات! ويعيد د. علي بن تميم التذكير بهذا الموقف في سياق تقديمه الملحوظات النقدية للشاعر العراقي عمر عناز مخرجا العبارة مخرجا غائما لا تدري هل هو يمدح شعراء العراق أو يذمهم فـ"لعنة د. صلاح -كما يقول د. علي- تلاحق شعراء العراق".

وتتعدى المواقف النقدية ما هو أشد وأبلى، فترى الناقد يتناول ألقاب الشعراء وأسماءهم ليعلق عليها، فلم يسلم من هذه المواقف مَن كان في اسمه أو لقبه ما يوحي بعيب ما، فهذا الشاعر الجزائري نجيب جحيش ، تطوله "لعنة" اسمه الثاني، فيخاطبه د. صلاح فضل "ألم تفكر في تغيير لقبك؟ أو لا تشعر بالحرج؟"، ويحاول د. مرتاض تعديل سلوك زميله رادا على د. فضل مزاعمه بموقف من التراث، مذكرا بقصة بني أنف الناقة، الذين كانوا يتحرجون من لقبهم حتى جاء شاعر ومدحهم بهذا اللقب، فصار لقبهم هذا محل عزة وفخار لهم، ولم يسمح الشاعر الجزائري نجيب بمرور الموقف دون أن يقول كلمته وهو المعني بكل هذا، فيوضح معنى اسمه بأنه "المتعصب لرأيه"، وبذلك يتخلص د. فضل من سوء مأزقه، وعدم لباقته ولياقته.

وتتناول سهام د. فضل الشاعر الكويتي رجا القحطاني فيجسد التعبير الشعري المراد التعليق عليه بتصوير ساخر، فعندما يوظف الشاعر ألفاظا من مثل المعراج والصعود والروح، تتحول في لغة د. فضل عبارة ساخرة: "كأنني أتصور قطة تتسلق معراج روحك".

ويخرج أحيانا التعليق النقدي الحقيقي مخرج السخرية، وذلك عندما ينشد الشاعر تركي عبد الغني قصيدته موظفا في مطلعها أربعة من أسماء الإشارة، وعلى الرغم من أن اللفتة النقدية جميلة وفي محلها، ولكن صياغتها بأسلوب ساخر متهكم يضعف جماليتها وكونها ملحوظة نقدية رصينة، يقول د. فضل: "وزع إشاراتك على ناصية الأبيات حتى نستطيع أن نتابعك يا تركي".

ويتابع الناقد علي بن تميم منزلقات التهكم النقدي، فيدلق عبارات النقد ساخرة، ليس من ورائها طائل نقدي سوى الحط من الشعراء والانتقاص من إبداعاتهم، فبعدما يلقي الشاعر الموريتاني أحمد رضوان قصيدته تجد الناقد يندفع قائلا: "لو حلبت السحاب مائة عام لن يتقاطر على شفتيك الحليب"، فمثل هذا التعليق لا يخدم معنى ولا صورة، وليس له علاقة بالقصيدة ولا يمت للنقد بأي وشيجة من وشائجه المعروفة وغير المعروفة، ومثل هذه التعليقات غير غريبة عن تصرف الناقد د. علي بن تميم، فتراه مرة أخرى يتلفظ بجمل ليس لها انتماء نقدي، كما حدث مرة أخرى مع الشاعر المصري محمد عبادة الذي تنال منه السخرية جانبا في قول علي بن تميم له تعليقا على القصيدة: " كأنك في قطار بضائع لم تر شيئا في الخارج".

رابعا: مواقف نقدية غير مبررة:

تنطلق هذه الإشكالية النقدية من مجموعة مواقف اتخذها النقاد لم تكن مبررة في تعاملهم مع النصوص أو مع الشعراء، مبتعدين في تلك المواقف عن النمط المتبع في البرنامج من حيث تقديم الملحوظة النقدية في سياق من الموضوعية في التعامل مع المتسابقين كافة، فترى وأنت المشاهد أمام التلفزيون أن تلك المواقف ثالمة لعلمية النقد وموضوعية الناقد.

فلم تتعامل لجنة التحكيم مع الشاعر البحريني محمد المرهون كما يجب أن يُتعامل معه، بل تنطلق اللجنة من قاعدة السن وتحاكمه بناء على سنه، ولم يكن هو أصغر الشعراء سنا، بل كان هناك في البرنامج من هو أصغر منه سنا، ولم يكن التعامل معه بالطريقة نفسها، مما يعني أن النقاد قدموا ملحوظات نقدية خارجة عن سياق النقد المقدم لزملائه، وهو بالتالي بعيد عن النص المقدم وتقييمه.

ويتعلل أحيانا الناقد بضيق الوقت، فيضطر إلى عدم الوقوف مطولا أمام بعض المشاركات، وهذا ما حدث مع الشاعرة اللبنانية أمل طنانة التي مر الناقد د. مرتاض على قصيدتها بسرعة متذرعا بضيق الوقت، هذا الوقت الذي لم يحسب له حسابا مع شعراء آخرين في أي حلقة من حلقات البرنامج سواء في ذلك الحلقات السابقة أو اللاحقة، إنه استعجال نقدي، وعدم منح الشاعرة فرصة الوقوف عند قصيدتها أسوة بزملائها علما بأن هذا الموقف النقدي لم يتكرر مع غير الشاعرة السورية.

ويأخذ الموقف النقدي غير المبرر نحوا آخر، عندما يضطر أ. نايف الرشدان – كما صرح هو- لحذف نصف ملحوظاته على قصيدة الشاعرة السعودية بلقيس الشمري ، وذلك بحجة تصفيق الجمهور لهذه الشاعرة، وكأن الجمهور لم يصفق لغيرها، ولم يحظ أحد من قبل بإعجاب جمهور شاطئ الراحة!!

خامساً: سقطات النقاد وأخطاؤهم:

تتغيا هذه البؤرة النقدية الكشف عن أن النقاد الذين مارسوا عملية النقد على الهواء مباشرة، وعبر الأثير، لم يسلموا من سقطات نقدية وأخطاء في التفسير، عدا الوقوع في أخطاء معرفية، لا يصح للجنة، أعضاؤها من كبار النقاد أن تقع في مثل هذه السقطات، ولكنها في نهاية المطاف إشكالية معبرة عن البعد البشري في العالِم والناقد، الذي قُدر عليه الوقوع في الخطأ والزلل، ولا مناص من ذلك.

بدا النقاد في تعليقاتهم على النصوص الشعرية مفتونين بمتابعة النصوص المستكنة في نصوص الشعراء المقدمة، وهذا أدخل بعض النقاد في أوهام القراءة النقدية، وأدخلهم في التنعت في التفسير والتمحل في الربط، فعندما يورد الشاعر السعودي حسن القرني هذا التعبير في قصيدته: "هي صبغة تعطى وتؤخذ صبغة"، يرى د. فضل أن هذا التعبير يتناص مع قوله تعالى: "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة" ، ومن الواضح أنه لا رابط بين الآية والنص سوى ذكر المفردة، فهل مجرد ذكر الفظ يحيل إلى التناص، كما سبق وأشرت في موضع سابق من هذه الدراسة.

ولم تخلُ بعض حلقات البرنامج من العصبية والتوتر، وهذا ما لاحظه المشاهد الكريم في الحلقة الثانية من المرحلة الثانية، حيث يختلف د. مرتاض ضمنيا مع بعض أعضاء اللجنة في تفسير قول الشاعر الأردني صفوان قديسات "تسعين عمرٍ"، فيتهم د. مرتاض كل شعراء الأمسية باللحن، وبأن الأمسية أمسية اللحن، وتناسى الناقد سقطات لجنة التحكيم وسقطات الشعراء قبل هذا الموقف وبعده، لتأتي الطامة الكبرى في تلك الأمسية من د. علي بن تميم ليعزز موقف د. مرتاض ويثبت صفة اللحن على تلك الأمسية، وذلك عندما يقرأ أبيات أبي فراس الحمداني، والتي سيكلف الشعراء بالنسج على منوالها، فيلحن في قراءة أحد الأبيات، وهو البيت الآتي:

تَعالَيْ تَرَيْ روحاً لَدَيَّ ضَعيفَةً

تَرَدَّدُ في جِسمٍ يُعَذِّبُ بالِ

فيقرأ الناقد يعذب بكسر الذال، وهي بالطبع بفتحها، مبنية للمجهول لا غير، وعدا هذا الخطأ في القراءة، فقد وقع معد القصيدة بخطأ عروضي بزيادة حرف في بعض كلماتها، مما أدى إلى كسر في الوزن، والبيت هو:

أَيا جارَتاه ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا

تَعالَيْ أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالَي

فقد انكسر الوزن واختل العروض في كلمة "جارتاه"، عدا مخالفة هذا النص للنص الأصلي في ديوان أبي فراس، ولم يفطن مع ذلك د. ابن تميم لهذا الكسر العروضي، وقرأ البيت كما هو مكتوب، ليقع الناقد في خطأين، ولم يعلق د. مرتاض على هذا الموقف، وكأن شيئا لم يكن.

وكثيرا ما يلفت أعضاء لجنة التحكيم الشعراء إلى استعمال الألفاظ، وضرورة أن يكون هذا الاستعمال في محله، وقد أشرت إلى شيء من هذا في المحطات النقدية السابقة، وترى أحيانا جهل الناقد بالنقد الذي يقدمه، وأنه لم يبن ملحوظته سوى على علمه القاصر، فيبدو غير ملم بالملحوظة من جوانبها كافة، أو ما أجازته المعاجم في اللفظ الواحد، فعندما ترد كلمة "رِحْم" في قصيدة للشاعر تركي عبد الغني يعتب عليه د. فضل مدعيا بأن الأصل هو "رَحِم" ، ليقع د. فضل في فخ اللغة، ولم يخلصه منه سوى مراجعة كتب المعاجم، فترى معجم الصحاح قد أيد الشاعر في استعماله، وأن الكلمة بضبطيها السابقين على درجة واحدة من الصحة اللغوية.

وما يتصل بهذا الباب كذلك، ما عابه النقاد على الشعراء من لحن وقعوا فيه، فما يلبث الناقد نفسه الذي قدم الملحوظة أن يواقع خطأ من الدائرة نفسها، فالشاعر الأردني تركي عبد الغني في القصيدة المشار إليها آنفا يقرأ الشطر الآتي هكذا:

وكان أبردُ ما في قلبي نارُها

برفع كلمتي أبرد ونارها، فيصححه د. أحمد خريس بنصب نارها على اعتبار أنها خبر كان، وما أن ينهي د. خريس حديثه النقدي حتى يواقع خطأ نحويا عندما يقول للشاعر تركي: " أضع مجاراتِك في المنزلة الأرفع" فقد ظن د. خريس أن الكلمة جمع مؤنث سالم ومن حقها أن تنصب بالكسرة، وهي بالطبع كلمة مفردة من حقها النصب بالفتحة.

ويأتي الخطأ بقراءة النص القرآني ثالثة الأثافي، عندما يستشهد د. علي بن تميم في معرض التعليق على قصيدة الشاعر التونسي الشاذلي القرواشي بالآية الكريمة: "فأواري سوءة أخي" ، فيتصرف الناقد بالآية جاعلا محل أواري كلمة أداري، وتمضي الأمور دون أن يكون هناك تصحيح للآية، فأين التثبت من العلم أيها الناقد الكبير!!

خاتمة وإجمال:

وبعد، أيها القراء، أيها الشعراء، أيها المتذوقون الشعرَ، فعلى الرغم مما سلف، فقد كثر النقد وتنوع في هذا البرنامج الطافح بالجمال، وقد حظينا جميعا نقادا وشعراء ومشاهدين بفرصة تعلم النقد ليكون ضمن المتداول اليومي وحديث المجالس، بعد أن كاد يصيبه الضمور والجفاف، فمن حق القائمين على البرنامج أن يفخروا بالنسخة الثالثة ويستعدوا للمستقبل.

ولذا، فإننا ننتظر بشوق الموسم الرابع لعلنا نحظى بشيء نقوله فيه، ولعلنا نشهد نقلة نوعية في البرنامج متجاوزة كل تلك المثالب لنقترب أكثر صوب الموضوعية والعلمية، وليكن شعارنا أن التغيير في الطريقة والأسلوب هو المحرك لكل عمل إبداعي، وصدق الفيلسوف اليوناني هيراقليطس حيث يقول: "الثابت الوحيد هو التغيير"


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى