الجمعة ١٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم جمال عبدالرحيم

أهازيج لا تصمت

إنهم أهازيج لا تصمت، وشموع لا تنطفئ.

وتبقى ترانيمهم تشدنا إلى ملكوت يعبق بعطر أنفاسهم، وذكرياتهم حيث تختلط الحكاية بالحقيقة، والأمس باليوم.. وتتلون أهداب الغد بكحل لياليهم.

يروي العجوز على مسمعي حادثة كنت شاهدا على فصولها. فإذا به يحدث أنه أحد أبطالها. ويروي ما حصل ممزوجا بما تمنى. ولو كان ما تمناه لارتضيت أن أمسح الأحذية مجانا في حارات أريحا، وطرقات جنين. ولرويت أشجار اللوز والزيتون بذكريات جدي وأبي وإبن عمه فتتلألأ ثمار التين والصبار مع شروق كل يوم بحنين لم يعرف له جنس الإنسان مثيل.

إنهم آخر الرعيل...

مثل موج البحر يتضرع في لحظاته الأخيرة إلى السماء قبل أن يتفتت زبدا على الصخور، أو يعفر الرمال في غضب كسير.

نتمرد.. ويصرون أن يربطوا جيادنا بعربات ماضيهم "البهيج".. وكأن ضحكات رميمات ستتدخل البهجة على حاضر طري العود.. أو تزهر في بساتين الغد لوزا وبرتقالا وياسمين.

" من لا ماضي له لا حاضر له.. ومن لا حاضر له لا مستقبل له". هكذا كان يردد على مسامعنا مدرس اللغة العربية البليد. وصدقته طري العود ! فأمضيت عقدين من عمري أبحث في الماضي عن أساسات، وأعمدة، ودخان الحاضر حتى كدت أدرس علم الآثار، وأمتهن التنقيب عن الجرار الفخارية، وبقايا أعمدة الرخام.. ولوهلة في ذلك الحين، ظننت أن النبي شمعون يرقد في قبر على عمق سبعة أمتار في الزاوية الشرقية من صحن دارنا في مخيم اللاجئين.. ولولا زمن القتل ورحلة من سفر التشريد لبعثت من أعماق صحن تلك الدار ملوك سفر التكوين، والملك حيرام، ولأخرجت قفازات الملكة أليسار، ورداء سقراط، وثوب عشتروت !!

ولكنني تداركت مستقبلي لأصنع منه حاضري، فتعاركت أوراق الماضي مع براعم الغد.. ولم تفلح عشرون سنة من علوم الفلسفة والسياسة في شق ثلم واحد في جرود أبية تماسكت أمام الزلازل، ونائبات الزمان.

إنهم شموع تأبى أن تنطفئ..

إنهم بقايا وطن.. كانوا كل الوطن عندما تكالب علينا الفئام والأوطان.. حملوا معهم يوم الهجرة الأولى خوابي من زيت وزيتون، وصرة زعتر، وقوارير صغيرة من شمس الجليل كانت تدفئنا في زمهرير بلاد الأَرْزِ والأَرُزِّ. وتُداوِينا من رمد العيون كلما سدُّوا أفاقنا بجدران الإسمنت أو حبسوا الشمس في قماقم الجليد.

وفي سفر البحث استبدلنا عدة التنقيب بأرياش سهام، وممحاة، وريشة رسام، وأقلام تلوين.. فكانت تلك خيانةً في علم الأولين. فعن أي سور سيكون الحديث يا عمّاه ؟! أعن سور عكا وأساطير الملك الناصر صلاح الدين؟ أم عن سور مزق جذع الوطن إلى جزائر عطشى إلى مياه المحيط.. ويقاطعني بائع السمك، وهو يرفع يده معترضا على حديثي.. وكان قبل لحظات يحدثنا عن الأسماك الطازجة والأسماك المستوردة ليقول أننا جيل من الزنادقة الملحدين. جيل لم نذق طعم برتقال يافا. ولم نتمرغ على شاطئ طبريا. وبعد سرد طويل استدل به بآيات من القرآن والإنجيل، وددت لو سألته غير ساخر عن سعر سمك السردين. ولماذا يتأثر بإرتفاع سعرالدولار والبنزين.

عبرنا المحيط.. وتصر ذاكراتهم أن ترحل بهم إلى الماضي، وتأبى أن تسافر بهم إلى الحاضر والغد. ففي الحاضر لن يجرؤ الباشا الجزار أن يضع في " الدكة" صبية قمراء لأنها مرت به فتاة عذراء، وآبت بعد أن تدنّست بالخطيئة.. ورجعت تمر به إمرأة غير بتول..

وأما الغد، فلغيرنا معه مصير..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى