الأحد ٢٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٩
بقلم مصطفى أدمين

انتعاش

تحت طربوشه القشّي، احتمى من لهب شهر أغسطس لكي لا يزداد وجهُه الخمسيني تفحّـُما.

وبذلته الزرقاء، امّحى عن ظهرها رمز المدينة الحمراء ، فصار يبدو كرجل آلي صدئٍ، بالكاد يقدر على إتمام مهمّتِه.
الإنعاش الوطني في مراكش له طعم العطش، والجوع، والخضوع.

ومع أن الشمس الحارقة كانت تلهبُ ظهرَه بسياطها، إلا أن غريزة العيش فرضت عليه الاصطبار. ولو أنّه ألقى بفأسه وداس على النباتات التي يغرسها ويسقيها بقليل من الماء وبكثير من عرَقِه، لجاز له أن يفتخرَ بشيءٍ من الكرامة...
ولكن العطش والجوع لا يرحمان.

منذ قديم الزمن وهما حليفا القهر والاستبداد.

لسبب نعلمُه، لم يرفع - أبدا - رأسَه المثقلة بالأحلام المتفحِّمة.

كان يثابر في عمله الشاق؛ يغرس الشتلات، يجمَع الأوراق الذابلة، يشذب الأشجار السامقة، يدجِّنُ (الجازون) الوحشي، يدود عن أغصان استعمرتها الأرقات القاتلة، يطلي سيقان الأشجار بالجير ليحفظها من أوباش النمل، يرعى أزهاراً عللا وشك الذبول...
ورئيس المجلس البلدي مِن شرفته يشاهدُه ولا يشاهده.

مراكش بلد السياحة وليس بلد النظر في شؤون المستضعفين !

مراكش باعت دُورَها و(رْيَاضَاتِ)ها للنصارى ومصيرُها بين مخالب السياسة.

والرجل القشّيُّ يُكَرْبـِلُ حديقة البلدية تحت سياط الشمس والناظرين ليجعلَ منها نزهةً للناظرين.

والناس من حوله سائرون إلى حيِّ (جيليز) (النصراني) ومنه إلى ساحة (جامع الفناء) (المسلمة) وما يعتبرون هذا الرجلَ الممتزج بالأشجار والتربة والحجارة.

الناس لا تهتمُّ لآلة بشرية تكنس وترش الماء !

الناس تُفكِّرُ في الانتعاش في صالونات الفنادق الفخمة، في أكل الحلزون المسلوق والنقانق البلدية في الساحة، وفي العثور على قلب حبيب له عدّة جيوب مليئة بالنقود.

فجأة، اندلعتْ سياط الشمس في كلّ مكان، وسارعتِ الناسُ تطلُبُ حقّـَها في الانتعاش الفوري؛ ولا منقذ سوى قطرات الماء التي في يدِ رجُلِنا المضطهد.

فتقدّمتْ سائحةُ مغربية تجرّ طفلا يكادُ يموتُ من العطش:

 رجاءً سيدي...اسق ولدي هذا ! إنه يكادُ يموت من العطش.

ثم جاءتْ أمٌّ ثانية، فثالثة، فرابعة... ثم شيخٌ بجلباب صوفي، ثم نصراني بعكّاز مُرصّع بالأحجار الكريمة، ثم شرذمة من الرياضيين الحمقى، ثم رهطٌ من الناس المختلطين، ثم شرذمة من الأطفال المشرّدين...

في فوضى عارمة...

في البداية، سقى رجُلُنا المضطهدُ الأمّهات بروح دينية، ثم ما لبث أن طالب النصراني بدهم، ومن الأطفال - طلب منهم – أن يتمسّكوا بالصف.

ولم أدر كيف أسقط الرجلُ طربوشه القشّي خلف ظهره، واستقام من انحناءتِه الذليلة، وصار يبدو مثل جبّار يسبُّ هذا وينهرُ تلك، ويأخذ من هذا ويركل تلك، ويضربُ هنا ويرفس هناك...

وأنا أنظرُ - ليس إلى التحوّل المفاجئ - الذي طرأ على عامل البلدية الهرم لعلمي ب(الطبيعة البشرية) وإنّما إلى مصير هذا الرجل لمّا (تعود المياه إلى مجاريها).

وبالفعل؛ عندما انكسرت السماء، وفترت الشمسُ، ورانت الظلال، وحدث الانتعاش، واختفى الناس؛ رأيتُ الرجُلَ المتجبّرَ يعودُ إلى ضُعفِه، إلى انكساره تحت طربوشه القشّي، إلى صورته الأولي.

فناديتـُه من شرفتي:

 سّي أحمد... تعال إليّ في الحين.

فكان أمامي في أقل من دقيقتين. فقلتُ له:

 منذ ساعات وأنا أراقبك. قل لي؛ ما الذي حملك على التجبّر على المواطنين وهم في حاجة ماسّة إلى الماء؟

فقال لي:

 إنها انتعاشة يا سيدي الرئيس... انتعاشة...شعرتُ وخرطوم الماء في يدي وكأنّني قادر على منح الحياة أو منعها عنهم...أرجوك.
لا تسرحني، فلن أكررها مرّة ثانية.

وجال بخاطري أن أسأله : (لماذا تكرهني؟) ولكنني لم أفعل وبدل ذلك قلتُ له:

 أ تعرف؟... في كل واحد منّا سيّدٌ وعبد.

فقال لي بخوف:

 أعرف ، سيّدي... في كلّ واحدٍ منّا ظالمٌ ومظلوم...

فأعجبتني حِكمتُه ولكن الرئاسة تقتضي منّي أن أقمعَه:

 عدني بأن لا تكرر ما فعلتَ ولسوف أعطيك ضِعف أجرتِك !

فارتمى على يدي يقبّلها وهو يقول:

 هذه والتوبة يا سيدي...

فسحبتُ يدي وقلت له:

 والآن انْصَرِفْ، ولك منّي عطلةُ أسبوع وهذا القدر من المال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى