الاثنين ١٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٩
بقلم نوزاد جعدان جعدان

أوهام مِرآة

أفٍ.. لقد تأخر عدنان ..نحن ننتظره منذ ساعتين ولم يحضر بعد تأففتِ العائلة بعد مللها من الانتظار حتى جاء عدنان الشاب الفوضوي ذو البشرة الداكنة والأنف الأفطس والعيون الصغيرة الذابلة من حصاد السنين

 آسف يا أبي لقد اضطررت للتأخر فصاحب المطعم لم يسمح لي بالخروج إلا بعد مغادرة الزبائن وتنظيفي للمطعم، قالها عدنان بخجل.
 لا بأس يا بني، ولكن تعلم تقديس الوعود، حسنا لننطلق إلى الباص.

توجهت عائلة عدنان إلى القرية بعد قرار الأب بتقضية عطلة نهاية الأسبوع في القرية، فهي فرصة لاستنشاق الهواء النقي البعيد عن ثاني أكسيد المدينة.

وصلت العائلة إلى القرية وباشرتْ تنظيف المنزل المليء بالغبار، وبعد ساعات انتهوا من عملهم، فحضرت الأم إبريقا من الشاي الساخن مع الكعك، وعدنان يفكر بالمغارة التي تقع في المنزل والتي لمحها عند ترتيبه للأثاث وتعجب لإغلاقها بالمفتاح، و أخذت العائلة تتسامر وتتحادث حتى جاء سؤال عدنان البارد لأبيه:

 لمَ المغارة مقفلة يا أبي وأين مفتاحها؟!.

 ماذا تريد من المغارة يا عدنان؟.

 أريد أن أرى مقتنياتها وما يوجد فيها، ربما تحمل بعض الأثاث القديم.

 لا تجرب الدخول إليها قد تجد فيها الأفاعي والعقارب وقد يأكلك الضباب يا بني.

 أنا يا أبي عندما أضع قدمي على الأرض لا اسأل إن كانت موحلة أم لا.

 لا تتحدث عن المغارة مطلقاً، لقد عكرت مزاجي أيها الأبله، ابحثْ في مستقبلك ما بك تهتم بالماضي ما مضى قد انقضى.

تأففت الأم وتنهدت ثم تمتمت مع نفسها و ربتت على كتف زوجها لتهدئ سكينته.

لم يسمع عدنان كلام والده، وعند نوم الجميع توجه إلى المغارة حاول فتحها لم يستطع، وبعد عدة محاولات فتح بابها بطريقة كان صديقه في الابتدائية يستخدمها لسرقة مسجلات السيارات ثم علمها لعدنان.

دخل عدنان المغارة والظلام الدامس يغزو المكان فأشعل عدنان نبراساً وتقدم إلى الأمام، وغدا يسمع أصواتا في المغارة فيلتفت يمنة ويسرى إلى أن لمح فتاة شعرها أسود طويل تناديه ثم تختفي, فسرى الرعب في جسده حتى بدا يهاب من ظله الذي يشكله الفانوس رأى عدنان صورا لجده وجدته وعصا جده وقبعته وعلبة تبغه أيضا.

وعند وصوله لنهاية المغارة سمع صوت الباب فالتفت و لمح شخصا طبق الأصل منه وكأنه شبيهه وقبل أن يصرخ، قرب منه المصباح ليتضح له أنها مرآة قديمة جدا و كبيرة الحجم، حملها عدنان و أخذها معه والأصوات تتكاثر في المغارة وصور أناس ترتسم على الحائط عدا عن الغرق في الأصوات، أغلق عدنان أذنيه وركض خارج المغارة.

وفي اليوم التالي رجعت العائلة إلى منزلها في المدينة، وعدنان فرح بالمرآة التي علقها في خزانته ثم حدق فيها وفكر بأمرها وصار محتارا في تاريخ ميلادها ومدى قدمها وبينما كان غاطسا في التفكير بها رأى صورة أحدهم في المرآة: شخص عجوز بيده عصا كبيرة في مغارة منزلهم القروي يضرب بها رأس فتاة حسناء، يضربها حتى يقتلها ثم يلفها بكيس ويدفنها في المغارة.
فرّ عدنان هاربا من الغرفة والخوف يأكله وصرخ عاليا :

 أبي ..أبي.

 ما الأمر؟.

 لقد أحضرت مرآة من القرية وإني لأرى فيها أشياء غريبة.

 لماذا أحضرتها أيها الشقي ؟ وما الذي تراه؟ لا تنظر في المرآة كثيرا، يُحكى في قريتنا من قديم الزمان أن شاباً نظر إلى نفسه في المرآة مطولاً فبدأ بالضحك بداية ثم بكى كثيرا إلى أن فقد عقله بعدها سقط طريح الفراش حتى فارق الحياة، يا بني نحن نهرب من أنفسنا فما بالك تستمتع بالمرآة ..

 إني أجد شخصا هرما مرعب الشكل يقتل فتاة في ربيع العمر بالعصا حتى الموت .

 ما الذي تقوله أيها الغبي هل جننت ..أتهذي! وهل أصابك مس ؟!..يبدو أن ولدنا قد جن فقد عقله.. يا للعار!.. لكن دواؤك عندي سأكسر رأسك والمرآة.

 لا يا أبي أرجوك لا تفعل دعني اقبل قدميك.

لم يكسر الأب المرآة، وعاد عدنان لغرفته ووقف أمام مرآته مرة أخرى فلم يجد إلا صورته وبعد هنيهة شاهد شيئا وراءه وصورته تتلاشى شيئا فشيء، شاهد رجلا شابا وراءه يضع وسادة على رأس رجل عجوز ويعذبه حتى تتوقف قدما العجوز عن الحراك.
ارتجفت قدما عدنان من هول ما رأى وأمسى حائرا في أمر المرآة وما يفعل بها، احتفظ بالسر في فؤاده وتوجه إلى عمله وأخذ يسأل أصدقائه عن الأشباح والعالم الآخر وهل يؤمنون بالأطياف فأجابه معظم أصدقائه إنها خرافات ولا وجود لهم، هدأ جوابهم هواجس عدنان.

عند وصوله للمنزل وقف أمام المرآة مباشرة ولم يجد شيئا إلا صورته ورويدا رويدا ظهرت صورة الفتاة التي قتلها العجوز، كانت فتاة سمراء شعرها طويل يصل إلى ركبتيها وعيناها كبيرتان تشبه عيون البقر وأهدابها نجلاوين، شاهدها في المغارة مع شخص وسخ الملابس يبدو من محياه أنه راع للقطيع يتبادلان القبل و العجوز يشاهدهما من ثقب الباب، وفجأة بدأت المرآة تضخ الدماء شيئا فشي، بدأت نقطة ثم تحولت إلى نهر.

ابتعد عدنان عن المشهد مسرعا وركض وأغلق الخزانة، ثم نام والكوابيس تلاحقه مرة يرى الفتاة تناشده ليساعدها بالخروج من المغارة ومرة يرى العجوز يضحك عاليا على حشد من الجماهير ذي العيون الناعسة.

استيقظ عدنان في الصباح وجسده منهك تماما وقرر رمي المرآة، قبيل رميها نظر إليها ملياً فشاهد فيها شخصا في المغارة يجهز حبلا ثم يشنق نفسه، خاف وخارت قواه واقتحم خلوة أبيه صارخاً:

 إني يا أبي أرى امرأة مقتولة وشابا منتحرا وعجوزا قاتلا ومقتولا.

فكر الأب طويلا ثم قال له:

 جهزْ نفسك يا بني قبل أن يستيقظ إخوتك، سنذهب أنا وأنت للقرية ونعيد المرآة إلى مكانها لتتخلص من هذه الأوهام إلى الأبد سترتاح بعدها ..سترتاح.

توجه الاثنان إلى القرية وفي طريقهما صادف عدنان صور الأطياف في المرآة تلبس ظلال الأشجار وتتلاشى صور الجبال لتلبسها الظلال، وعند وصولهما إلى المغارة بانت صورة في المرآة رآها عدنان وبدت على عينيه نظرات الخيبة والتحسر، وقبل أن يتكلم عدنان طعن الأب عدنان عدة طعنات حتى رماه قتيلا ثم قام بدفن عدنان في المغارة بجانب الشابة أو فوقها أو تحتها لم يكن يدري، بيد أن الظلال بدأت تلاحق والد عدنان ومشهد الدماء لا يفارق ناظريه، فأقفل المغارة وفرّ سريعا.

ثم أخذ المرآة المنحوسة ولم يدفنها تحت التراب خشية نموها، تسلق الأب جبلا كبيرا ورماها في نهر جارٍ، بعدها عاد إلى المنزل.

كان النهر في صبيحة ذاك اليوم أهوجا مجنونا يطوف على ضفتيه فسقطت المرآة على الشاطئ والتقطها صياد سمكٍ وأخذها معه إلى غرفته التي يجهزها لعرسه القريب القادم ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى