الثلاثاء ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٢
مذكرات الاسيرة اللبنانية المحررة سهى بشارة
بقلم سهى بشارة

الحلقة التاسعة - التوقيف

ماتراه يحدث لي الآن؟
منذ أن قررت القيام بالعملية الى ختامها، لم أكف عن طرح التساؤل على نفسي، ألف مرة ومرة، من دون أن ألقى الجواب الشافي. في مخططاتنا لم يكن متوقعاً أن أنجو بنفسي أو أن يأتي أحد لنجدتي. كان ذلك الأمر بالغ الخطورة. ذلك أن منزل أنطوان لحد كان بمثابة معسكر معنزل. ولئن تسنى لي، مرة ثانية، إلهاء الحراس للدخول الى المنزل، ولزمني ساعة بالكاد حتى أطلق النار على قائد الميليشيا التابعة لإسرائيل، فإن الطلقتين عممتا الإنذار على السامعين.

وغدا توقيفي أمراً محتوماً.

ولكن، ما تراهم يفعلون بشأني؟ يعذبونني؟ يعدمونني؟ في المرة الأخيرة التي سبقت مجيئي الى المنطقة الجنوبية ناقشتُ مع أحمد ما يمكن أن أصير إليه في حال توقيفي. وعلى ما ظننتُ، قد أودع في السجن. داخل المنطقة المحتلة، ما دامت أرضاً لا احتكام فيها الى قانون أو شرعة، بحيث يُسوّغ المحتلون لأنفسهم اعتقال الأشخاص لسنوات طويلة، من دون أن يقدموه للمحاكمة. أما أحمد فكان مقتنعاً بأنه إذا تسنى لي اغتيال أنطوان لحد، قائد جيش لبنان الجنوبي، فسوف أودع في سجن إسرائيل، على وجه السرعة. غير أن هذا القرار (بنقل المعتقلين) بدا له بعيد الاحتمال، ما دامت اتفاقيات جنيف في ما خص الأسرى تمنع على الدولة المحتلة نقل الموقوفين الى بلد آخر.

وفي خلال هذا النقاش، ذكرتُ له إمكانية التعذيب، فرد علي بالقول: "حدثي ولا حرج في هذا الشأن"، مطمئناً إياي. في الواقع، لم أكن أعرف الكثير بهذا الخصوص. وأنا الى اليوم، لا أعرف اسم "أحمد" الحقيقي، ولا شبكات المقاومة التي يرتبط بها في الجنوب. إنما اكتفى بتوصيتي بعدم الإيحاء بإمكانيات عملياتنا الأخرى التي كنا بصددها، اختطاف إسرائيلي، القيام بعملية ضد جهاز الأمن، اختطاف ابن أنطوان لحد، وهذا اختيار تصدّيتُ له بعنف شديد منذ بداية تعاوننا، وحتى قبل أن يألفني الصبي وآلفه.

إذاً، بينما كنت لا أزال جالسةً في مكاني فإذا "بسيزار" مدير إذاعة الشرق الأوسط في قاعة الجلوس فأدرك الوضع حالاً، وقفز الى جانبي واضعاً يديه على كتفي، وسألني بالفرنسية:

  "لماذا قمت بهذا الأمر؟ لم قتلته؟؟"
  "إنما هو الذي يقتلنا".
  "من أرسلك؟"
  "أنا عضو في المقاومة اللبنانية، وأنتميى الى الحزب الشيوعي اللبناني".

في هذه اللحظات، جعل سيزار يبعد مينرفا عني، وهي تسعى الى ضربي، وتندفع الى الهاتف طالبة النجدة. دخل جندي، عرفته من هيئته. كان يدعى إبراهيم. وحالما وصل إلي انتزعني عن مقعدي، وأحاطني بذراعيه مطوقاً إياي، واتجه بي الى الباب. وما أن بلغه، حتى سمعنا أوامر من الخارج بالاستسلام. فصاح برفاقه: "هذا أنا، هذا أنا، لا تطلقوا النار!"

في هذه الأثناء، ونحن نجتاز عتبة البيت، صودف مرور لبناني آخر، وهو تاجر مقرب من اللحديين، وقد اندفع الى المكان مع إبراهيم حين سمعا طلقتي النار. عرفته، بدوره، كان صديق الطفولة لامع، وهو من قرية دير ميماس أيضاً. كان والده قائد الحرس في معتقل الخيام. نظر إلي لامع والذهول يملأ عينيه. وبدوري، لم أخفِ دهشتي من اكتشافه ههنا. للحال، رأيته وقد أخذ رأسه بين يديه، ذليلاً، وتابعتُ سبيلي من دون أن تصدر مني أي كلمة.

ومن ثم ساقني الحراس الى مراكزهم في ذلك المكان. دفع بي أحدهم الى داخله، ثم رماني على الكرسي. وأمسك بسوط وراح يضربني به. توقف، لحظة، عن الضرب لينتزع حذائي ودبابيس شعري، وعاود الضرب. وكانت الجلدات على إيقاع الأسئلة. "من أرسلك؟ أين هم أصدقاؤك؟ ماذا يعرف عصام؟" أما أنا فبقيت بكماء.

كف الحارس عن الضرب ووضع الأصفاد حول معصمي. وتركني على الكرسي، ويداي مكبلتان. ولم تمض لحظات، حتى دخل فريق من الرجال. كانوا ستة أو ثمانية إسرائيليين. رمقوني بنظرة واحدة وأخلوا الغرفة من دون أن ينبسوا بكلمة واحدة. وعاد الحارس، وأخرج مسدسه من قرابه ووضع فوهته على صدغي.

"تكلمي، أو أقتلك".
"سبق أن قلتُ كل شيء".

بقيتُ هادئة، رغم كل الظروف. وقد تبين لي، فيما بعد أن سيزار حين أعد تقريره، أخذ هذا الأمر في اعتباره، مشدداً عليه. فهو حالما اكتشف حضوري في قاعة الجلوس، كنتُ لا أزال ساكنة الفؤاد، حتى أنني ابتسمتُ ابتسامة طفيفة. وهذا قد يبدو لسيزار عصياً على التصديق، إلا أن أمراً أساسياً للغاية قد جرى في داخلي. إذ رأيتني أنزع عني نهائياً قناع الطالبة السطحية، وغير المبالية. وكنت لطالما عشتُ في حال من انفصام الشخصية، من غير أن يتسنى لي التصريح بحقيقتي، أو البوح بما أشعر به حقيقة لأي مخلوق، ما عدا الشخصين "مازن" و "أحمد". لقد كذبت، لأشهر وأشهر، وأخفيت ما أضمره حتى عن أقرب الناس إلي، وخدعتهم، ولكنني، منذ أن أطلقتُ النار على أنطوان لحد، صار بإمكاني التصريح عن هويتي وعن أفكاري.

وإذا وجدتني أخيراً في مواجهة أعدائي، لم يعد لي من أدوار أخرى أؤديها.

رأيت الحارس يرسل تنهداته، سحب مسدسه من صدغي، وأخرج الطلقات من ماسورته، وأمسك بسوطه ثانية. ثم انهال علي ضرباً وبلا شفقة. فرحتُ أصيح من الألم.

مضى زمن حسبته دهراً، سمعنا إثره طرقاً على الباب. دخل رجلان. وضع الحارس غطاءً على رأسي. كبلوا قدمي ومضوا بي. وللتقدم، رحت أقفز وقدماي مضمومتان. فسمعتُ صوتاً: " لاتزال قادرة على القفز!". وعاد صاحب الصوت الى الكلام، مخاطباً إياي: "عمل جيد، برافو عليك قتلته!".
أمسكني هؤلاء بكتفي ورموني في صندوق سيارة، وسرعان ما أقلعت زاعقةً. وإذا ما بلغنا مكاناً بدا لي أنه معسكر تابع لجيش لبنان الجنبوبي، استبدل هؤلاء سيارة بأخرى. فتولاني انطباع بأننا صاعدون باتجاه الخيام، التي تبعد بضعة كيلومترات عن مرجعيون، نظراً لميلان السيارة صعوداً. وكان المعسكر القديم قد تحول في خلال السنوات الأخيرة، الى معتقل ذي صورة باعثة على الرعب. وفيما كنا نسير، ظل الراكب في المقعد الأمامي يشتمني، ويوجه إلي كلمات نابية وفظة، ذات دلالة جنسية بالأخص. كان يقول: "إذا كنتِ ضاجعتِ رجال حاصبيا، فسوف ترين كيف تضاجعيننا نحن". وجعل يمر يديه على جسمي بوقاحة تامة، ولكن تمكنتُ منه بعضة، رغم حالي. وبعد توقف ثان وتبديل آخر للسيارة، أُنزلتُ، وأُجلست على المقعد الخلفي. ولم يمض زمن قصير حتى تحققت من هوية أحد المرافقين الذين أتى بهم. وكان أحد قادة جهاز الأمن في مرجعيون، ويدعى "أبو سمير"، صديق قريبي عصام، وهو جندي سابق في الجيش اللبناني.

ولما كانت السيارة تجتاز كيلومترات أخرى أبعد من الخيام، أدركتُ للتو أنهم يأخذونني الى إسرائيل. فالمسألة هي أخطر بكثير من أن يعالجها اللبنانيون بمفردهم. اجتازت السيارة بنا الحدود ثم توقفت في ما يشبه الثكنة. تسمرت السيارة في مكانها. أُنزلت منها، سُمح لي أن أجول حرة العينين، بلا غطاء الرأس. أُدخلتُ الى أحد المكاتب. فاتجهتُ، مقيدة اليدين والقدمين الى كرسي، وجلست.

دخل رجل، عرفت فيما بعد أنه يدعى طومي، جلس قبالتي، وشرع في الاستجواب، ما إسمي؟ من أرسلني الى مرجعيون لقتل أنطوان لحد؟ ما هو دور عصام في المسألة؟ ورحت أجيب عن كل هذه الأسئلة بإيجاز كلي، ثم راح يعدد لي سلسلة من الأسماء للبنانيين، وسألني إن كان لدي صلات بعائلة خوري. فأنكرتُ معرفتي بأي شخص من هذه العائلة. فأمسكني ورماني بقسوة على كرسي أخرى وعاد الى مهمته. ومضى يصر على هذه الكنية بالتحديد. فكررتُ له إنكاري. للحال، تسلم رجل آخر المهمة عنه، ودفعني بقوة الى إحدى الغرف، وراح يصفعني صفعاً متواصلاً. ثم رماني أرضاً، وعاد على أعقابه. تحسست خدي، فعرفت أن حشوة إحدى أسناني سقطت في هذا المعترك. ولم أكد أقفز أربع قفزات حتى سقطت أرضاً، مما جعلني أبتسم رغم الظروف الآنفة. عاد الرجل وعادت معه معاملات القسوة. وجعل الإسرائيلي يهددني بألف تعذيب وتعذيب، وبالاغتصاب الدوري، ولا سيما بنقلي الى معتقل الخيام . وما زال يتقدم نحوي حتى تحسس أزرار ثيابي ليثبت عزمه على إنفاذ تهديده. غير أن الاستجواب توقف عند هذا الحد، أخيراً.

عُصبت عيناي ثانيةً وسيق بي الى خارج السجن. وعلى نحو ما كنت افرتضته، عزم الإسرائيليون على نقلي الى المنطقة المحتلة، فهم لا يرغبون في سجينة مزعجة، الى هذا الحد.

سارت بنا السيارة دقائق معدودة، حتى بلغنا المكان المقصود، حيث بات علي أن أستقر نهائياً. إذاً، وصلتُ لتوي الى داخل معتقل الخيام، الذي انقضى على مرورنا به لحظات، ليس إلا. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، بقليل. وكان لدي الانطباع بأني واقفة في خيمة كبيرة، وقد تبين لي فيما بعد أني في أمكنة التعذيب. دخل رجل لبناني. يدعى سمير، وهو ابن أبي سمير. أما اسمه الحركي في المعتقل، حيث كل فرد فيه لا يدعى باسمه، فهو سامر. وكان هذا الأخير مولجاً بالاستجوابات في هذا السجن الخاص ولسوف يكون له، منذ اللحظة، العناية بوضعي.

عُهد بي الى حارسة راحت تنزع عني ثيابي وتفتشني. وساقتني، بعد ذلك، الى احدى الغرف المخصصة للاستجوابات. وألفيتني إزاء رجل، وأنا ما زلت معصوبة العينين ومكبلة الأطراف. وراحت الأسئلة تتوالى علي.

"ما هو دور عصام الحقيقي؟"

فأكدت له أن قريبي عصام لا صلة له البتة بالعملية، غير أن مستجوبي لم تقنعه إجابتي على الإطلاق. فمضى يربط يدي بمسريين كهربائيين موصولين بمولد. وكان لي أن أعرف التعذيب بالكهرباء. وكان الألم الذي ازداد تركيزاً يدفعني الى الصراخ الحاد والمتتالي والمتصاعد. وجعل معذبي يدس في كمامة لأسكت. ولئن كنت، شأن كل الناس، تعرضتُ لشحنة كهربائية بصورة لا إرادية، كأن يمسني التيار من منشب كهربائي أو من شريط عار، فإني غدوت لأيام عرضة لشحنات كهربائية متواصلة وممتدة الى كل أطراف الجسم وخلاياه. وتابع الرجل عمله، من دون أن تثنيه توسلاتي وآلامي، وظل يطرح علي أسئلته:

"إن تكلمت، أوقفتُ ذلك".

ولما كنتُ لا أزال معاندة، قام الى دلو وسكب الماء، بغتة، كل يدي، فصار الألم لا يطاق. ورحت أصرخ وأصرخ:

"إرفع هذا أُجبك".

للحال، توقف وحل يدي. وسرعان ما رحتُ أحفهما بثيابي لتجفا.

وسأل:

"هل ينتمي عصام الى المقاومة؟"
"نعم".

ترددتُ لحظة قبل الإجابة.

تصرفت وحدي ولم يكن لعصام أي صلة على الإطلاق، بحركتنا. أعرف أني سوف أكدر له حياته أيما تكدير بادعائي صلته بهذه المسألة، وهو لطالما سعى وراء مصالحه، ولكن الخوف تملك كياني. والحق يقال، إنني لم أفكر إلا في كسب الوقت، وفي إيقاف هذا الاستجواب بالمقام الأول، لفرط ما أرهبتني جلسة التعذيب الأولى هذه. وبدا لي أن جوابي أقنع الرجل، غير أنه وعدني بجلسة أشد إيلاماً إن اتضح له كذبي.

ومنذ أن عم خبر العملية، لست ساعات خلتْ، شرع أفراد جيش لبنان الجنوبي وجهاز الأمن بحملات تفتيش واسعة في المنطقة الجنوبية المحتلة. كان عصام أول المعتقلين ما دمتُ مقيمة في منزله. وفيما بعد، اعتقلت زوجته وسجنت أربعة أيام لأنها حاولت تمرير رسالة بالروسية الى زوجها. فما كان "اعترافي" ليسهم في إطلاقهما، على وجه السرعة. وهذا أقل ما يمكنني قوله، بهذا الشأن.

وفي مرجعيون، دخل هؤلاء المفتشون الى غرفتي، وقلبوا كل ما فيها رأساً على عقب. غير أنهم لم يقعوا على مسدسي الأول، الذي كنت خبأته داخل جهاز التلفزيون. وكان علي ان أحدد لرجال جهاز الأمن مكان وجوده، فيما بعد، حتى يضعوا يدهم عليه.

كما أرسلت دفعات من الجنود الى دير ميماس ، فقبضوا على والدتي وعلى عمي، الذي كان ماضياً الى قطاف زيتونه، والذي صودف وجوده في منزلنا. كما سيقت والدتي، تحت حراسة مشددة، الى معتقل الخيام حيث اعتقلت لأكثر من شهر.

بلغ مجموع أقاربي والمقربين مني المعتقلين حوالي الستين، ومنهم من استجوب، وأغلبهم عُذبوا على أيدي رجال جيش لبنان الجنوبي. وكانت صديقتي حنان الخوبي أولى المعتقلات. وحين سألني الإسرائيليون إن كنت أعرف آل الخوري، أجبتهم صدقاً بأني لا أعرف أحداً منهم. ذلك أني لم أكن أدعو "حناناً" بغير اسمها الأول، حتى أني نسيت اسم عائلتها فغاب عن خاطري كلياً.

وعليه، فقد أُبلغت، فيما بعد، أن صديقة لي، أخرى، تدعى "شفيقة" نالها مجد الاعتقال ستة أشهر بلياليها، وكذلك الأمر، بالنسبة لصفاء، وهي سكرتيرة لدى مسؤول متعاون مع الإسرائيليين، والتي كنت مقربة منها، فنالت بدورها أربعين يوماً من الحفاوة الأليمة عينها. إلا أن أياً من هؤلاء الذين رموا في السجن لم يكن، بالتأكيد، على بينة من مخططي.

وانتهى الاستجواب الأول. كان الوقت في حدود الخامسة صباحاً. ساقني الحراس الى زنزانة تبلغ مساحتها ستة عشر متراً تقريباً، وأغلقوا البوابة ورائي بالأقفال. لم تكن الغرفة فارغة. إذ تميزتُ فراشين موضوعين أرضاً، وأحدهما الى الآخر. ورأيت امرأة شابة مستلقية على أحدهما. أيقظها دخولي الى الزنزانة، فاقتربت مني وسألتني عن اسمي وسبب اعتقالي، فأخبرتها بأني قتلتُ انطوان لحد. فأخذت تهلل للبشرى وهنأتني على عملي، ثم أردفت تقول: "لقد أتوا هذه الليلة في الثانية صباحاً، ليقولوا لي أني سوف أحظى برفقة".

بدت لي هذه الرفيقة البائسة لطيفة للغاية معي، إلا أني ظللت متحفظة حيالها. فقبل أن يغادرني أحمد حذرني من الصداقات المعقودة في السجن. وكان يعرف أن المعتقلات تعج بالجواسيس والجاسوسات. وما كان أيسر أن يتم اعتقال شخص في المنطقة المحتلة، وما أكثر الأشخاص الذين يرمون في السجون للفظهم عبارة نعم أو لا. حتى إذا وجد المرء نفسه داخل السجن، تسول له نفسه التعاون مع جلاديه، آملاً في أن تختصر المعلومات التي يحصل عليها من أحدهم، إقامته في السجن. ولا سيما إذا كان هذا السجن حلا من أي التزام أو قيمة.
وكان لجلسات الاستجواب أن تستمر أكثر من شهرين بأيامهما ولياليهما، ثلاث جلسات في اليوم الواحد. ولم يكن النهار أشفى حالاً من الليل، إذ كان يمكن أن تجري هذه الجلسات في عز الليل. وأول من استجوبني كان "عواد"، وهو من دير ميماس، بعيد وصولي الى المعتقل. ومن ثم أتى دور "وائل"، من بلدة العيشية. بعد ذلك، بات "سمير" مستجوبي الرئيس، يعاونه كل من "أبو فارس" و "رامبو"، الذي راح يبدل اسمه كلما تنبه الى أن احد الكلاب يحمل الاسم عينه. ووجدت نفسي مجبرةً، وللمرة المئة وللمرة الألف، على رواية انخراطي في المقاومة، وكيف تم اختيار أنطوان لحد هدفاً للعملية، وكيف أعددتُ هذه العملية. وجعلت تتخلل هذه الجلسات المنهكة عمليات تعذيب بالكهرباء. فغالباً ما كانت يداي أثناء الاستجواب، موصولتان بمسريين الى المولد الكهربائي.

وفي ما بعد، راح هؤلاء المستجوبون يرمون علي بدلاء مملوءة مياهاً مجلدة، ويتركونني لساعات طويلة، موثوقة مرتجفة، في عز الشتاء، وبرد هذه الجبال الجنوبية قارس للغاية.

وكلما تقدمت الاستجوابات، أدركتُ أنها تجري في صورة موازية مع العديد من الأشخاص المقربين مني، وأن أسئلة المستجوبين صارت أكثر دقة. وهكذا، سئلتُ عن الاضطراب الذي أخذ بكياني كله حين روى لي أحدهم أن أول عاشق لي، وهو شيوعي، كان أسره الإسرائيليون خلال عملية للمقاومة. صعقني هذا التفصيل الذي يعود الى سنتين أو ثلاث من اعتقالي. فأدركت أن عصاماً، الذي رافقني الى بيروت، ذلك اليوم، كان شاهداً على ذلك.

تفهمتُ الداعي الى نقله شهادته هذه. وما عدته ألومه على فعله، إذ تخيلت مقدار اضطرابه، وقد رمي به، رغماً عنه في هذه الحيلة، مع زوجته "جانيت" السجينة في مرجعيون، بدورها.

بادئ الأمر، جهدت في قول الأدنى الممكن، أو في تضليل مستجوبي عبر مسارات خاطئة. ورغم معرفتهم الدقيقة بتنقلاتي التي أمكنني القيام بها خلال الأسابيع الأخيرة في المنطقة المحتلة. فقد وسعني الكذب عليهم في ما خص المسدسين. إذ أكدت لهم أنهما سُلما إلي في المنطقة المحتلة نفسها. غير أني عدت، بعد جلسات من التعذيب، واعترفتُ بأني حملتهما معي من بيروت. وكان لهذا الاعتراف أن أطلق لعنات رهيبة. مع ذلك، فقد أجلت الأيام حدوث الأمر الرهيب، الى مناسبة أخرى.

ولما كنتُ رويتُ في أيام الاستجواب الأولى أني كنتُ على اتصال بشخص واحد، يدعى أحمد، ليس إلا، رأيتني متمسكة بهذه الصيغة لأسابيع عديدة. ثم إنني، لما ضقت ذرعاً بغطرسة، "سمير" الذي ما فتئ يؤكد لي أنه يعرف كل شيء عني، وعن برنامجي اليومي، وعن أدق خطواتي في بيروت، كشفتُ له الحقيقة وأخبرته عن اتصالاتي الأولى بـ "مازن". غير أن هذا المسلك، على جرأتي، لم يكن ليلائمني. فسرعان ما صُنفت بين ذوات الرأس الصلب، العنيدات.

في خلال الأيام الأولى من اعتقالي، حاولتُ أن أستعلم عن مصير أنطوان لحد. ومع أني كنتُ منقطعة عن العالم، في معتقل الخيام، فإن قرب المعتقل من مرجعيون، من شأنه تيسير مهمتي. وحاولت تقدير الروحات والجيئات للآليات من حول معتقل الخيام، ورحتُ في المقام الأول، أصيخ السمع لعلي أسمع دقات الحزن تصدر من أجراس مرجعيون البعيدة. ولم أفلح. إذ لم أتوصل الى التقاط أي معلومة ملموسة في هذا الشأن. بالنسبة لي، كانت العملية ناجحة. لقد تمكنتُ من قائد الميليشيا، وكان أحمد حاسماً في فاعلية السم في طلقات المسدس. لكني سرعان ما أجريت نقداً ذاتياً في ما يتعلق بالرصاصتين، ذلك إن إصراري على إطلاق رصاصتين ليس أكثر كان مثاراً للهزء، إن أمعنت النظر إليه الآن، وبعد انقضاء زمن على العملية. وكان ينبغي لي أن أمضي الى ختام هذه العملية، تاركةً أمر الحكم والجزم فيها الى الاختصاصيين، ولم يجدر بين أن أفرض خياراتي الخاصة.

ثم، وخلال الاستجوابات الجارية معي، ألفيتُ جلاديّ يصححون قولي بأني قتلتُ أنطوان لحد، بعبارات من مثل "أنتِ حاولت قتله، فحسب". في البدء، لم أحسب لهذه الردود حساباً، ظانة أن في الأمر حيلة لبث الاضطراب في نفسي. ذات يوم، عمد مستجوب ذلك اليوم الى رفع العصابة عن عيني لأقرأ سريعاً مقطعاً من مقالة منشورة في جريدة "السفير". فقرأتُ، بوضوح، الجملة التالية: "بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها أنطوان لحد..". لقد كسب الشخص المقابل لي: "أرأيت، لم تقتليه!". فلما كان قد أُخلي، على وجه السرعة، الى إسرائيل، نجا قائد الميليشيا من الموت. واجترح الأطباء الإسرائيليون العجائب لإنقاذه. إصاباته كانت بالغة، وظل يحمل آثارها الى اليوم ، في شلل جزئي بذراعه اليسرى.

وفيما بعد، حين تسنى لي أن أشرح لمستجوبي أنه كان بمقدوري أن أطلق النار بمسدس من عيار ثقيل، فتعجب الأمر وصاح: "بالتأكيد، كان يسعك أن تقتليه على الفور، إن استخدمت الـ 5ر5 مليمتراً". إذاً، لم أقتل قائد جيش لبنان الجنوبي، مع ذلك، لم أشعر بالخيبة، ما دمنا حققنا غايتنا، وهي إظهار هشاشة النظام الذي أرساه الإسرائيليون، وإعطاء الشواهد الحية على أنهم، وحلفاؤهم لن يجدوا السكينة والأمان أنى تواجدوا في المنطقة المحتلة.

والآن، يجدر بي أن أكرس جهودي للجوهري، للبقاء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى