الأحد ٢٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٩
بقلم موسى إبراهيم

آخر الحبّ

خرج من عزلته أخيراً، بخطواتٍ بطيئة وشحوبٍ واضحٍ على ملامح وجهه، عينانِ يحيط بهما السواد من شدّة الإرهاق والأرق. لم يكن متعباً بقدر ما كان قلبه يحتضر، أنهى كتابة قصته، وبينما يجرّ جسده نحو الأريكة دخلت أخته زينب إلى غرفته والفضول يدفعها لتتعرّف على سبب عزلته كلّ هذه الأيام، وقع نظرها على دفتر مذكراته الصغير، تتلاعب بصفحاته نسمات الهواء القادمة من نافذته الصغيرة المطلة على الشارع، في هذه الأثناء استلقى صاحبنا على الأريكة، أشعل سيكارة وأخذ ينفث في الهواء حلقات الدخان، ويبتع ذلك تناهيدٌ تظهر مدى وجعه وحزنه، زينب التي تراقب المكان وتحدّق بشغفٍ في دفتر مذكرات أخيها، تجولُ عيناها في غرفته، جلست على المقعد وأخذت تقلّب الأوراق يمنة ويسرةً، وصلت لأولى الصفحات، صعقت حين رأت عنوان القصة مكتوب بالدم، كان العنوان يقول: (آخر الحبّ).

(بعد أن أحبّها حدّ التعب، غامر القدرُ بمشاعره فأرداهُ حبيباً على عتباتِ عينيها)

بدا لزينب أن الحديث عن فتاة أحبها جداً، بل واعتقد أن في حبها الحياة، استفزها الأسلوب، قررت أن تتابع القراءة مع أنها ليست مهتمة بقراءة القصص، ولا تستهويها مشاعر الحزن هذه، شيء ما دفعها لتكمل القراءة ولتتعرف على عالم أخيها العاشق الغامض.

أحداث كثيرة مرّت عليها أثناء القراءة، شعرت أنه يتحدث عن واقعهم، فقد بدأ بوصف بيتهم الصغير وحيهم الهادئ، ويبدو أن صاحبنا قد بدأ قصته منذ دخوله الجامعة، خطواته الأولى نحو نافذة العالم، يحمل حقيبته بابتسامته الساحرة، وثقته العالية بقدرته على النجاح واثبات نفسه في عالمٍ غريب متشابك، بدأت أيام الدراسة بكل سلاسة وهدوء، أنهى سنتين من دراسته وتعرف على الكثير من الأصدقاء، حبه للدراسة والنجاح والتقدم بأسرع ما يمكن أبعده عن العلاقات العاطفية ومجارات جيله في مصاحبة الفتيات والخروج والسهر، لذا كان مساره اليومي يقتصر على البيت فالجامعه فالمكتبة.

لم يكن يشعر بحاجته الماسة لعاطفة أنثى لأنّ هدفه الواضح نحو النجاح كان يشغل تفكيره، صحيح أنه يمتلك مهارة عالية في الكتابة ويقرأ للكثيرين من الأدباء العمالقة ويتعلم من خلال كنوزهم الأدبية والشعرية الكثير عن الحياة والحب والوطن وويتعرف من خلالها أيضاً على هموم الناس في عالمه، لكن رغم كل هذا لم يفكر يوماً بأن يكون نزار قياني عصره أو جبران خليل العصري، إلى أن جاءه القدر بمن تملأ فؤاده بالحب الحقيقي، حين أعلنت ادارة الجامعة عن احتفالها السنوي للترحيب بالطلاب المستجدين، واقترحت أن تلقى القصائد الشعرية أثناء الحفل، راقت له الفكرة، وشجعه أصدقاؤه على المشاركة فلربما كانت بدايته نحو عالم الكتابة.

صخب يملأ قاعة الإحتفالات، موسيقى تختلط، شعر بالغربة أو بالتوهان، إنه المكان ذاته الذي كان دائماً يحضره ليتابع بروفات صديقه شادي وهو يتدرب على الغناء، لكن المكان اليوم مختلف، جلس في مقعدٍ حجزه أصدقاؤه له، يراجع قصيدته الجديدة التي سيلقيها على مسامع أكثر من ألف مستمع، شعر بالاربتاك والضجر والخوف معاً.

وبينما تتوارد الأفكار والمخيلات في رأسه، قاطعها صوت رئيس مجلس الطلبة وهو يعلن أن الفقرة التالية ستكون قصيدة يلقيها مروان. عندما سمع باسمه ينطبق عبر شفاه رئيس المجلس ويتوزّع في المكان بصدىً جميل رهيب، أيقن أنه ليس حلماً وأن دوره قد حان ليقرأ على مسامع الحضور حرفه الغائب دائماً إلا عن مسامع أصدقائه المقربين.

ألقى القصيدة بكلّ ثقة وبصوتٍ جميل جذّاب، جعل من القاعة الصاخبة مكاناً هادئاً لا يُسمَعُ فيهِ إلا صدى صوته. وكلما أنهى مقطعاً جميلاً من قصيدته تضج القاعة بالتصفيق والهتاف.

انتهت الحفلة على خير، سعادة مروان لا توصف حينها، وأصدقاؤه والمعجبين يحيطونه من كل جانب، وأسئلة تندفع إليه بكثافة وفضول مرهق أتعبه، عيون تتفحصه من بعيدٍ ومن قريب.

في اليوم التالي دخل مروان بوابة الكلية فلفت انتباهه تجمع الطلبة أمام لوحة الإعلانات، وهي لوحة يعلق عليها الطلبة ابداعاتهم وكتاباتهم، توجه إلى الجمع، همساتهم يتخللها اسمه.

(هذه الراسلة له؟ أمر جميل)

(ماذا تقصد برسالتها؟)

(محظوظٌ هذا المروان ...)

استطاع أن يخترق الجمع نحو اللوحة، وكانت المفاجأة حينَ قرأ عنوان الخاطرة التي تشغل الكثيرين من زملائه: "أول حب" وكُتِبَ أسفل العنوان "إلى مروان".

( إلى الذي لم يسعفني كبريائي في تجاهل سحر عينيه ودفء صوته، إليك مروان حبي الأوّل والذي لن يتكرر، إليك يا كلّ المشاعر والأمل، أيها الإنسان بكلّ تفاصيلك وأجمل حروفك، هل تعلم ماذا فعلت بي في حفلة الإستقبال أمس؟ هل تدري بماذا تشعر فتاة مثلي حين تجد فارس أحلامها؟ هل تعلم كيف يتحقق الحلم ونحن في أوّل الطريق إلى متاعب الوصول؟! لا تعلم لأنك لا تعرفني ولم تدرك بعد من أنا، أنا يا حبيبي فتاةٌ من عالمٍ يعشقك، قلبها خلق لك.

حبيبتك .. مي)

تمسمر في مكانه، استند بذراعه الأيمن على زجاج لوحة الإعلانات، وحدّق حدّق في الخاطرة من جديد، تساءل في نفسه "مي ..؟! من هي هذه الفتاة؟".

سأل عنها الزملاء، الأصدقاء، الفتيات، لا أحد يعرف من هي، لا يوجد في الكلية فتاة بهذا الإسم حتى، جاب بعينيه وجوه الجميع، لم يلحظ ما قد يدلّ على هويتها، "مي! من مي؟ ولماذا أنا .. ولماذا لم تظهر الآن؟!"

جاب الجامعة وبحث في جميع الكليات لم يجد من ينقذه من تساؤلاته الكثيرة، لا يوجد في كلّ الجامعة فتاة تدعى مي، إلا موظفة التسجيل في الجامعة! لكنها امرأة عجوز لا يمكن أن تكون صاحبة هذا الإبداع وهذه الروح الفتية في الكتابة.

مرت أيام وأسابيع على مروان وهو على هذه الحال، لم يجد مي ولم يستطع حتى أن يفهم سبب حبها العاصف المفاجئ له، أيقن أنها لم تنشر اسمها الحقيقي، وأنها لا بد تعرفه عن قرب وليست مجرد معرفة أدبية من خلال ذاك الإحتفال.

قرر صاحبنا أن يرد على مي بطريقتها كي يوصل رسالته من خلال حرفه الذي تعشقه تلك الفتاة الغامضة الحاضرة الغائبة. بعد أيام نشر مروان قصيدة شعرية على شكل رسالة كتب في أولها:

(إلى الغائبة الحاضرة .. مي)

(سيّدتي فتاة الحبّ

ملامح قلبكِ ظاهرةٌ

تتلاشى فيها غربة ألفَ قلب

إن كنتِ وهماً يحاولُ تقييدي

فإنَّكِ أجملُ وهمٍ صادفته

وإنّكِ أعذب لهب

... إلخ)

وكتب في نهاية القصيدة

(سيّدتي مي، أرجوكِ أزيلي غبارَ الخجلِ عن مراتب قلبك)

بعد أيامٍ من نشر قصيدته، جاء ردّ مي الذي ألجم مروان وزاد حيرته، جاء الردّ ليعلن أنه لا مفرّ لمروان من حبٍ قادمٍ بقوة عاصفة، حبٍ يصرّ على السكن بقلبه الأعزب الخاوي، قالت رسالتها:

(سيّدي الحبيب مروان، كلّ ما يعنيني من هذه الحياة أن أقرأ حرفك مع كل اشراقة شمسْ، فلا تجبرني على البوح، كي لا يفقد قلبي عطر شوقك إليّ، ثق بالله وبحبّي هذا الذي يكادُ ينطق الآن:أحبُّكَ جداً، إنني فتاة عادية، مدللة منذ نعومة أضافري، لكنني واعية أجيد فهم الأمور وأحسن التعامل مع عمالقةِ الفكر أمثالك، أحترف التمنُّعَ رغم حبي المتفجّر داخل أعماقي، كلّ ما أرجوه هو أن تكونَ قد شعرت بي

مي)

صعق مروان من ردها، لا تزال تسير الأمور نحو الغموض، (من تكون مي؟ وكيف سأجدها وأعرف من هي؟) كلها أسئلة ضاق بها صدر صاحبنا مروان.

أمسى مروان أكثر حزناً رغم كلّ هذا الحب الذي منحته إياه مي، صارَ كثير السرحان والتأمل، أتعبه التفكير وأنهكته الأسئلة حول شخصية مي، عقله يقول:"دعك منها والتفت لمستقبلك ودراستك" وقلبه يصرخ:"من هي مي؟ وكيف استطاعت أن تشغلني هكذا؟"

حيرة كبيرة وقع فيها مروان، الشاب الملتزم بدروسة وواجباته، الطالب النجيب والشاعر الذي خطف الأضواء، هل هو قدره القادم بالحب؟ أم أنه عذابه المكتوب؟

لم يشأ مروان أن يكتب رداً على رسالة مي في الوقت الحالي، لأنها فترة الإمتحانات النهائية قبل أن ينتقل إلى السنة الرابعة في مرحلة الدراسة الجامعية، كان مشغولاً مع أصدقائه بالدراسة والتحضير للإمتحانات. ولكن مي لم تدعه يقاوم أكثر، لتنشر من جديدٍ وبجرأةٍ أكثر رسالة يبدو أنها حاولت فيها منحه الأمل:

(مروان، وغيابك الذي يخنقني، أنا على يقينٍ بأنّك الآن تفكّر بمي، مي التي تحبّك ويبدو واضحاً من خلال رسائلها إليك هذا العشق! لماذا تغيب عني يا حبيبي؟ بماذا أخطأت ؟ هل امتناعي عن الإعلان لك عن شخصيتي يتعبك؟ ماذا لو كنتُ خائفةً من نفسي؟ من لهفتي؟ من تهوّري؟ ماذا لو كنتُ خائفةً من أنك قد لا تحبّ عينيَّ؟ هل تريد رؤتهن!؟ أجبني ..

عاشقتك مي)

أعادت رسالة مي الأخيرة الحياة في قصّتهما، جعلت مروان يسرع بكتابة رده على الرسالة، بلهفة المحبّ حقاً، اعترف لصديقه بأنّه أحبّ مي، أحبّها رغم كل شيء، رغم الغموض رغم أسلوبها الغريب، رغم كل شيء أحبها ويشتاق بالفعل لرؤية عينيّها.

جاء في رسالة مروان:

(كيفَ يخافُ البحرُ شاعر؟

أنتِ يا ميّ بحرُ مشاعر

أغرقيني بعينيكِ

واستجيبي للمشاعر

كلّ ما قد يربكني

أن يجيء اللونُ في عينيكِ

لونَ شِعري في الدفاتر!

فتكونُ معجزتي

هل الشِعرُ على التنبُّئِ قادر؟)

مرت أيام على رسالة مروان لمي، ولم يأتِ ردها، لا بالإجابة ولا بالصورة ولم يقرأ لها شيئاً حتى على لوحة الإعلانات، كان يمرّ كل صباحٍ يراقب ما نُشر، يسأل عن جديدها، لا شيء وصل من مي، لا شيء، عاد الحزن لمروان وبقوة هذه المره، مرّت فترة الإختبارات بصعوبة كبيرة على صاحبنا، كانت النتائج جيدة جداً لا غير، وليس هذا بمستوىً يقبل به مروان. قرر أخيراً أن ينساها ويلتفت لحياته الجامعية، قرر أن لا يصدق حبها وحرفها بعد اليوم، لكن.. ! ماذا لو كانت تمرّ بظروف صعبة؟ ماذا لو كانت مي مريضة؟ هل يعقل أن تعده بعينيها وتختفي هكذا بهذا الشكل الغريب؟ لا يعقل أن تكون كل تلك المشاعر كاذبة لا يعقل ذلك.

جاءت رسالتها أخيراً بعد مرور شهور عدة:

(مروان .. سأبتعد، لا تلمني حبيبي، ليس ذنبي أنّنا بلا وطنٍ نسير دائماً إلى وطنٍ رسمناه في قصائدنا وأدبنا، مروان أيها الملك المحبّ والشاعر الراقي، أنا أسفي لن يكفي ليعبّر عن بؤسي، دموعي التي تتساقط الآن على رسالتي هذه، لن تكفي لتعبّر عن حبي العنيف لشخصك سيّدي، حبيبي لم أغدعك يوماً ولم أكذب أبداً، لكنها الحياة التي تجبرنا على أشياء لا نريدها، الحياة التي تسرق منّا اجمل لحظات العمر، مروان انا لا أستطيع أن أراك الآن، لكنني سأفي بوعدني الأخير للأبد، ستجد صورة لعيوني في كتابٍ كنتَ تقرأ فيه منذ يومين في المكتبة، كتاب لا يقرأ فيهِ إلاك أنت، قد تكون الوحيد الذي قرأه في عصرنا هذا، ستجد الصورة الآن بين صفحاته، حبيبي مروان من حقك عليّ ان تعرف سبب قراري هذا، من حقك أن تغضب أن تصرخ أن تبكي . .لكني أرجوك لا تبكي، مروان حبيبي، أنا أصبت بحادثِ سيرٍ أفقدني جمالي الذي ستحب، قوامي وساقيّ، لا أصلح لك حبيب عمري، أرجوك سامح القدر وسامحني، كنت أراقبك كل يوم وكل دقيقة دون ان تدري، كنتَ دائماً أجمل رجلٍ في حياتي، حبيبي مروان، قبلاتي تغمرك لآخر العمر.

بكلّ الحزن أحبُّكَ

مي)

فقد صوابه، تعثّر بخطواته، انطلق بسرعة كبيرة يلهث وراء عينيها، كلّ ما يشعر به الآن الخوف والبرد والغربة، يريد الكتابة، يريد البكاء، يريد الصراخ، ويمضي في طريقه إلى المكتبة، يمضي ودموعه تنسال يسبقها وتعود للخلف، الهواء يبتعد عن طريقه، الزملاء مستغربون جداً، ما الذي حدث لهذا الشاب؟ وصل المكتبة توجه بسرعه البرق إلى الطابق العلوي، بحث باندفاع عن ديوان مديح الظل العالي لمحود درويش، فتّش فتّش بارتباك وبكاء وحزن، وجدها .. إنهنّ عيناها "يا الله يا مي ..!!! ما أجملك .." ويبكي ويبكي بحزن بألم بخيبة أمل. يجرّجر خطواته عائداً إلى بيته، يدخل المنزل، شاحب الوجه حزين، موجوع، متعب.. يصاب بنوبة جنون، يبحث عن قلمه الأسود، وبلون عينيها يكتب في أول السطر "آخر الحبّ"

خرجت زينب من غرفة مروان تبكي بحرقة، جلست إلى جانب أخيها احتضنته بحبّ وحنان، لم تنبس ببنت شفه، فقط كانت تغرق بدموعها، وتئنّ وجعاً وحزناً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى