الجمعة ١١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم زاهية بنت البحر

بوران

عندما رأيتها لأول مرة أدهشني جمال وجهها وابتسامتها العذبة، فصرت كل يوم أقف على الشرفة المقابلة لشرفتهم في المدينة التي انتقلنا إليها قبل أيام من جزيرتنا المتكئة منذ ولادتها على ظهر الأمواج في حضن البحر، متحدية جنونه الذي لايرحم ، سعيدة بابتساماته الساحرة في أوقات هدوئه الجميل، ولم نكن بعد قد تعرفنا على أهل الحارة الجديدة. كانت عندما تراني تبتسم لي ملوحة بيدها بالتحية، فأستحيي منها وأدخل الغرفة وفي نفسي مايؤنبني لعدم محادثتها ولو برد التحية. الشرفتان قريبتان ويمكن لنا أن نتحدث بهدوء دون رفع صوتينا، ولكن الحياء كان يمنعني من ذلك. كم تمنيت أن أعرف اسم هذا القمر الساحر بل البدر المنير بأجمل صورة وضياء. حدثت أمي عنها، فوعدتني بمصاحبتها لزيارتهم يوما ما بعد أن تاتي والدتها وترحب بنا كقادمين للعيش في حارتهم. مرت الأيام وأنا أنتظر بفارغ الصبر تلك الزيارة التي ستفتح لي باب التعرف عليها.

ذات يوم وأنا أداعب أخي الصغير خالد بينما كانت أمي تحضر طعام الغداء، سمعتُ نقرات على باب البيت، لم أعطِ الأمر اهتماما لاتكالي على أمي بفتح الباب. عادت النقرات مرة أخرى ولكن بصوت أقوى من الأول، تركت أخي واتجهت صوب الباب، فسمعت أمي تقول: سأفتح أنا الباب. وقفت في مكاني بانتظار أمي التي وصلت وهي تنشِّف يديها بمنديل أبيض وضعته فوق كتفها الأيسر. اقتربت من الباب وهي تنظر إلي، وابتسامتها تزهو فوق ثغرها فتضيء وجهها بالسعادة.. سألتْ قبل فتح الباب: من الطارق؟

لم تسمع جوابا، بينما يزداد صوت النقرات على الباب قوة وتكرارا. أعادت أمي السؤال فلم تتلقَ جوابا. أمسكتْ بمقبض الباب وفتحتْه قليلا، نظرت من خلاله لمعرفة القادم إلينا. كانت عيناي تراقب وجه أمي باهتمام، رأيتها تبتسم وتفتح الباب مرحبة بالقادمة التي فوجئتُ بها. اقتربتُ من أمي وابتسامة عريضة تملأ وجهي بشرا وفرحا، كانت هي تلك التي شدَّتني إليها منذ اليوم الأول لقدومنا إلى تلك المدينة، دارت بي الدار، أحسست بأنني أطير بجناحي فرحة نبتا فجأة فوق كتفي عندما رأيتها أمامي، نظرت إلي وابتسمت، دعتها أمي للدخول، فهزت برأسها اعتذارًا، كررت أمي دعوتها لها لدخول المنزل، وعندما أجابت هذه المرة بإشارة من يدها بالنفي، وبعض حروف تكسرت فوق شفتيها لتجرح قلبي وإحساسي، وهي تخبرني بأن هذا البدر لايستطيع الكلام، فهي خرساء بكماء. أحسست بالدوار.. جلست فوق الأرض متهالكة، مغمضة عيني ورأسي تدور من هول المفاجأة. ربما كانت لحظات تلك التي مرت بي وأنا بين اليقظة والدوار أحسستها سنوات طويلة أنقذني منها صوت الفتاة المبهم وهي تمسك بي برفق، وترفعني عن الأرض بمساعدة أمي التي أذهلتها المفاجأة.

بوران، اسم الجميلة لابنة الرابعة عشرة ربيعا، أصبحت صديقتي المحببة لنفسي، رغم أن أختها الأصغر كانت في مثل سني في الثانية عشرة، لكن بوران كانت الأذكى والأجمل والأكثر لباقة، وانطلاقا. تعلمت منها أشياء كثيرة مازلت أحتفظ بها في ذاكرتي، كانت تحب الحياة ولاتشعر بالنقص أبدا، وعندما بلغت الثامنة عشرة من العمر أصبحت أشهر خياطة في المدينة، ساعدت والديها بتربية إخوتها وأخواتها، وكانت محط اهتمام صبايا المدينة، لما تتمتع به من ذوق وأدب ومكارم أخلاق. تقدم لخطبتها الكثير من الشبان، لكنها رفضت الجميع لإحساسها بالمسؤولية تجاه أسرتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى