الأحد ١٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم فؤاد وجاني

فلسفة فَطور

قبل صياح الديك في فجر الصباح، جلست أحتسي القهوة العربية الحزينة السوداء سواد حال أمتها، وأمضغ خبزا مجمرا محمرا، وأخضم هلالية ساخنة ناعمة، وأتلذذ بزيت زيتون فلسطيني أسررت في سريرتي:

ما أسعدني!! وكنت الليلة الحالكة السابقة لصباحي المنور المشرق هذا، قد شاهدت برنامجا استثنائيا من إخراج القناة البريطانية، تصور فيه أحد مجاهدي الطالبان وفي جيب سرواله القصير الذي لايتعدى الكعبين نصف خبزة صلبة هرمة يزيد عمرها عن الأسبوعين.... سأله الصحافي البريطاني، الذي استغرق في قطعه الوادي وصعود الجبل ثلاث ساعات من الزمن الأفغاني لمقابلة المجاهد المغوار، ساخرا من نصف الخبزة: هل تتخذها درعا واقيا من الرصاص، مالذي يجعلك تصبر على الجوع....لمَ لاتلق سلاحك وتقصد البلدة لتصيب من العيش رخاء وسعة ؟، فأجاب الطالباني والسعادة تغمر عينيه والشكر يكاد يتفطر من محياه: لا.... لاأجاهد من أجل معدتي بل من أجل الله....فكلما غرغرت معدتي وأذنت بموعد الطعام، نزلت الجبل إلى الوادي الأزرق الذي بلل ساقيك هاتين لأبلل هذا الخبز الذي تحدق فيه بعينيك الزرقاوتين، فأقضم منه لأرم عظمي وأشد عودي ماشاء الله أن أقضم، وأحفظ الباقي إلى حين، ثم أعود إلى مركزي هذا لأتربص بالمحتلين....

وتذكرت كلمة القهوة التي لاتصل لهذا الشراب الأسود الحالك المظلم الذي بين يدي بصلة لامن قريب ولامن بعيد، وكيف كانت حبوب القهوة الطعام المفضل للماعز في سهول إثيوبيا لأنها تزرع المرح والحيوية في سيقانها النحيفة قبل أن يحاول عرب الجاهلية المدمنون استخراج خمر معتقة منها كما فعلوا بالتمر والقمح والزبيب فنجحوا، لكنهم مع البن في مسعاهم فشلوا، فاحتفظ البن في لغة الأعراب بمصطلح القهوة التي تعني خمرا، وسميت بذلك الخمر قهوة لأنها تُقْهِي شاربها عن الأكل وتسد منافذ شهوته، فأصبحت ذلك الشراب الغني النكهة العديم الذكر لغة....ولولا ثغاء الماعز لما شممنا ريح القهوة اليوم....

أما زيت الزيتون، فصنع في نابلس وجنين، وأشجاره رويت بدماء غزيرة إبان المذابح الإسرائيلية، هذا الزيتون المبارك يستمد عطره من عظام الشهداء المدفونين بجرافات إسرائيلية في مقابر جماعية، وأوراقه دونت دون كلل أو ملل صفحات طويلة من تاريخ أسراب الجراد الصهيوني الملتهم للأرض والزرع والإنسان والنبات والحيوان منذ الإحتلال وحتى يومنا هذا الذي تكتب فيه هذه السطور، وتذكرت قوله تعالى "وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ".

ونظرت إلى الهلالية الناعمة المسكينة التي أصبحت كهلال المآذن السويسرية المحظورة لاتملك لنفسها حولا ولاقوة، ورجعت بي الذاكرة إلى أصل التسمية إبان فتوحات الخلافة العثمانية على مشارف قلاع فيينا النمساوية، حيث حفر المسلمون نفقا طويلا يوصلهم إلى قلب المدينة ويجنبهم عناء تسلق الأسوار العالية، وكادوا ليلا يفعلون لولا يقظة خباز نمساوي وسماعه لاهتزاز في جوف الأرض، فهرع لإخبار حاكم المدينة وجيوشه الذين أجهزوا على المسلمين الواحد تلو الآخر، واحتفل النمساويون بقضم وخضم الهلاليات رمز الخلافة الإسلامية من يد الخباز الذي لاينام.

حزنت للفطور المتخم بهموم أمتي وحضارتها وتاريخها ولغتها وحتى حيواناتها، لذلك قررت مستقبلا أن أشكر أول معزة ألمحها على اكتشاف أجدادها لبن ذلك الشراب الأسود الطيب النكهة وأخبرها أننا عجزنا حتى عن تسميته، وأن أعتذر بالنيابة عن المناضلين المدافعين عن قضاياهم قبل معداتهم للخبز اليابس الملقى في قمامات الشبعانين، وأن أترحم على شهداء فلسطين مع كل قطرة زيت زيتون تدخل جوفي، وأن أخبر كل خباز في المدينة عن سر الهلالية فقد يأتي يوم يصنعون فيه صليبية وربما نجمة أيضا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى