الثلاثاء ١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٢
مذكرات الاسيرة اللبنانية المحررة سهى بشارة
بقلم سهى بشارة

الحلقة الثامنة - العملية

لقاء آخر مع رابط التواصل جرى لي، في قلب المقاومة. راح أحمد يصغي إلي وأنا أروي له لقائي الأول، وجهاً لوجه، مع أنطوان لحد. وللحال أشار إلي بضرورة أن يحل شخص آخر بديلاً عني لاغتيال قائد الميليشيا. فرفضتُ اقتراحه، ورددتُ عليه بالقول إني مؤهلة أكثر من أي شخص آخر للقيام بهذا الأمر، نظراً للظروف المحيطة بالعملية. لم تلق هذه الفكرة قبولاً لدى أحمد، إذ مضى يقيس فعاليتها، غير أنه كان يشك، في صميم نفسه، بقدراتي العملانية

وإزاء إصراري، رضخ للأمر، وقبل بالمضي في تلك المخاطرة. وعليه فقد طرحت مسألة السلاح. عندئذ أشار إلي بضرورة الاتصال بالمقاومة في الجنوب، التي يسعها أن توفر لي السلاح، فرفضتُ الأمر. لأني اعتقدتُ بأني مُلاحقة أينما توجهت، حتى داخل بيروت حيث بات علي أن أستخدم ألف حيلة وحيلة لئلا أعتقل. وكنت كلما أردت الاتصال برؤسائي وجدت نفسي مراقبة عن كثب، وأيقنت بأنه يستحيل علي أن أتوارى عن أنظار ملائكتي الحراس، فأعود وأعدل عن اللقاء. وبالمقابل، ألفت أن أقصد شقة لأحد الأصدقاء حيث يسعني أن أبدل ثيابي وأحتجب عن العيون سالكة رصيف الشارع، حذراً واتقاءً.

ولما كان الوقت يضيق علينا خناقه، قررنا أن نلتقي في مكان منعزل، في مقهى حيث اعتاد العشاق على اللقاء. وفي اليوم الموعود، حمل صديقي معه مسدساً، عيار 5ر5 مليمتراً. وشرح لي باختصار كيفية استخدامه، والعناية بصمام الأمان فيه. وتمت رحلة عودتي من دون ما يعكرها. إذ جعلت ألصق السلاح بجلدي، ومررتُ بكل نقاط التفتيش بطمأنينة كلية. كنت برفقة عصام، الذي صودف وجوده في بيروت، وأدركت أنه بفضله وبفضل علاقاته الكثيرة، غُض النظر عني فلم أُفتش. وما أن بلغت القرية حتى واريت المسدس تحت شرشفي. ثم نقلته الى داخل جهاز للتلفزيون متربع في غرفتي.

ولم يمض زمن حتى أُخذ دوري كمعلمة للتمارين الرياضية الحيوية على محمل الجد. وصرتُ، شيئاً فشيئاً، مقربة من مينرفا. وكانت هذه الأخيرة تعشق الثياب، ذات الطابع الأنثوي، والتي كانت تجهزها لي أمي. وصرت ألبسها أكثر من أي وقت مضى. حتى أنها سألتني إذا كانت الخياطة التي كانت تحيط لي الثياب تقبل بإعداد الثياب لها. فأفلحت، هذه المرة، بالتملص من الإجابة. فضلاً عن ذلك، فقد لاقت دروس الرياضة التي باشرنا فيها رواجاً ظاهراً، وبلغ الحماس بزوجة قائد الميليشيا أن اقترحت، ذات يوم، إجراء سباق مع زميلاتنا المدربات الإسرائيليات. فجرى السباق وتناقلت أخباره وسائل الإعلام لديهن. وهكذا، وجدتني في منزلها، لدى مناسبات عديدة، إما لحمل شرائط الفيديو إليها، أو لحل بعض المسائل المرتبطة بالدروس. وحين تكون منشغلة أو ضجرة، يحدث لي أن ألعب مع إبنها الفتى، الذي سرعان ما كسبت وده.

وكنتُ كلما مضيتُ في حبك مغامرتي، تملكني الشعور بأن كل أنواع المخاطر أخذت تضيق علي الخناق. ففي بيروت، رأيت أصدقائي الذين يعرفون أني أقمتُ في الجنوب إقامة دائمة، وقد أخذوا ينظرون إلي نظرة ملؤها الانزعاج. لهو أمر مثير للريبة، أن تظل فتاة مسيحية تقوم برحلات مكوكية بين بيروت والمنطقة المحتلة. حتى أن أحد شرائط الفيديو، حيث أظهرُ راقصةً في حضرة إسرائيليين وأفراد من الميليشيا، راح يدور على كثيرين من معارفي، في مدينة حاصبيا. لا يخفى شيء على أحد في لبنان. ولما كان هؤلاء لا يريدون أن أصير متعاونة مع الإسرائيليين أو جاسوسة، أرسلوا أحدهم ليراني محاولاً حمايتي ممن يحيطون بي. وجعل يحذرني في كلام عام، كثير العمومية، من السهولة التي ينجر فيها المرء وراء المال، مما يميز المنطقة المحتلة. أما أقربائي الآخرون، فكانوا يظنون أني بتُ أعيش في بيروت الشرقية، لاقتناعهم بما راحت تشيعه أمي عين، تجنيباً لي من شرور السمعة السيئة. وهذه حال ابن عمي "إميل"، الذي أخذ يحضني بجدية لافتة على عدم التردد الى الكتائبيين، المتحالفين مع إسرائيل، لا لشيء إلا وفاءً لذكري قريبتنا "لولا". فرحتُ أطمئنه بأن ليس في نفسي أي نية من هذا القبيل على الإطلاق.

واهتمت حركة "أمل" لأمري، أيضاً، حتى أنها أبلغتني رسالة مؤداها منعي من الدخول الى الحي الذي يقيم فيه نبيه بري. وفي النبطية، أمكنني التملص من قبضة أفراد من الحركة أمروا بالسعي ورائي، بفارق من الزمن ضئيل. ثم إن الاستجوابات التي صرتُ موضوعاً لها في المنطقة المحتلة، أخذت تطول وتتسع. وفي مرجعيون، راح أنطوان لحد ومحيطه يطرحان أسئلة متزايدة عني، ولا سيما فيما خص ذهابي الى دير ميماس وجيئتي منها، وترددي الى بيت عصام. وههنا، لا بد أن أشير الى الاستجواب السري الذي جرى لي، إثر رحلة قمت بها الى حاصبيا، على يد أعضاء في الأمن المحلي. وكنت مزمعةً على الذهاب برفقة مينرفا لنشتري آلات الجوق الصوتية لأجل دروسي، غير أن الأيدي الغليظة انتهت الى مرافقتي في مشواري. وخلال الطريق راح هؤلاء يستجوبونني حول عائلتي وأفكاري. ولما كنتُ مدربة على هذا النوع من الاستجواب، بدوت ذلقة اللسان، فأوحيت إليهم بأن ليس لدي أي شيء أخفيه.

فخرجتُ بانطباع مفاده أن اطوان لحد لم يكن من السذاجة بحيث يصدر الدور الذي أؤديه كمعلمة للتمارين الرياضية الحيوية. إنما اعتبرني، بلا شك، جاسوسة صغيرة مكلفة بجمع أكبر قدر ممكن من التفاصيل عنه، ولهذا أخطر رجاله المقربين بشأني لتشديد المراقبة علي. مع ذلك ، لم يخطر في ذهني أني أرقى في نظره الى درجة المناضلة التي لا تستهين بشيء في سبيل القضية. وكان من حظي أيضاً، أن أعزف على وتر المنافسة بين جهاز المخابرات التابع لمركز حاصبيا، وبين المسؤولين العسكريين لجيش لبنان الجنوبي في مرجعيون، لعلمي أن أفراد مخابرات حاصبيا معظمهم من الدروز والشيعة، في أن الآخرين مسيحيون. ومما لا شك فيه أن جماعة حاصبيا، التي تملك عني معلومات وافية، بدت أكثر ميلاً الى الاتياب بي، أكثر من جماعة مرجعيون.

ومنذ أن سُلمتُ المسدس، قررت أن أبقيه في حوزتي، كلما شئتُ الدخول الى بيت لحد. وكانت المخاطرة كبيرة للغاية، حتى أنني بت تحت رحمة أحد أعضاء الحرس الشخصي لقائد جيش لبنان الجنوبي، والذي بدا أكثر فطنةً من زملائه، فارتأى أن يفتشني. مرة، اثنتين، أمكنني الدخول الى منزل لحد وفي حوزتي المسدس المخبأ في حقيبتي.

ذات يوم، حدث ما لا يعقل.

فبينما كنت أتحدث مع مينرفا، إذ بزوجها يدخل الى المنزل، فوافانا وتبادلنا بعض الكلمات حول الدروس. واقترحت عليه امرأته أن يتناول شيئاً. ولما كان الجوع هده، قبل عن طيب خاطره.

للحال، اعتذرت مينرفا مني، فتركتني وحدي برفقة زوجها. واصلنا أحاديثنا، الى أن أتت بالطعام، ثم غابت عنا، من جديد. أدار لي قائد الميليشيا ظهره وأخذ يلتهم طعامه. تولاني الذهول، واحترتُ في أمري. الفرصة سانحة ومثالية. في حوزتي سلاح، وهو يدير لي ظهره. أدخلت يدي في المحفظة التي أحملها الى جانبي وأخرجتُ.. منديلاً. تحسستُ حجم المسدس الثقيل لصق خاصرتي، غير أني ألفيتني عاجزة عن التماسك. ليس هكذا، ليس وهو يتناول الطعام، أياً يكن، ليس من الخلف، من الظهر.

وكنت عاجزة عن قتل عدوي في ظروف مماثلة.

وفي لحظات، غادرتُ المنزل والارتباك يهز كياني، بعد أن استأذنت ضيفي الذي بدا أنه لم يشك في شيء. وعلى الرغم من أني بقيت عازمةً على إتمام عملي، فقد تبين لي، وللمرة الأولى ، مقدار الصعوبة في هذه المهمة. إذ يقتضي الاغتيال، أياً تكن شرعيته في نظري، جرأة على تجاوز نفسي. وفي هذا الصيف من العام 1988، وبعد ثلاثة عشرة عاماً على اندلاع الحرب الأهلية، والفظائع من كل الأنواع التي ارتكبت فيها، أدركتُ آخر المطاف أنني ما زلتُ أنفر من اللجوء الى القوة والفظاظة، ما دمتُ آنف من رؤية مشاهد العنف على شاشة التلفزيون. وحتى لو كان ما أراه محض اختلاق وتخيل، شأن عمليات تفجير السيارات، فإنه سرعان ما يذكرني بالجرحى الذين اهتممت بهم، وبصور القتى الذين لم تُقس أطيافهم طباعي ولا مشاعري.

فاتضح لي في اللحظة الحاضرة، ضرورة أن أتجاوز هذا النفور.

في أيلول/سبتمبر، قصدت والدتي دير ميماس لتحضير مونة الشتاء، على جاري عادتها كل سنة. وكنت تنوي الإقامة فيها لأسابيع معدودة. والحال أن والدتي ما كانت لتعلم أنها تقوم يزيارتها الأخيرة الى دير ميماس. وفي بيروت جعل عمي "نايف" يحذر أمي من أمر ما. فمن خلال خبرته الشخصية في الحزب الشيوعي الذي انفصل عنه، أنبأها بأنه يشتمُّ شيئاً ما. وكان على يقين بأني في الجنوب بمهمة معينة. فأخطر كنته بضرورة ألا أمرّ بدير ميماس ولا بمرجعيون.

غير أن هذه المخاوف سرعان ما تبددت في ذهنها. إذ رأت الناس جميعهم، أو يكاد، يكيلون المديح تلو الآخر لابنتها. فجعلوا يكبرون فيّ عفويتي، وحيويتي ودماثة خلقي. فسرت والدتي بالإطراء. الى ذلك، فقد كان من خير الصدف أن يحضر عاشقي الزعوم الى منزلنا. وإذا بالشاب، ذي الخطو الواثق، يرجوني أن أقبل دعوته لحضور أحد الأعياد؛ حتى لكأن فصولاً من رواية غرامية كانت تجري تحت بصر والدتي وفي حضورها. فضلاً عن ذلك، فقد خطت لي رسالة، حددت لي فهيا موعاً لقطاف الزيتون، في مدى ايام قليلة!

وبعد أن اطمأننتُ الى هذه الناحية، سارعتُ الى بيروت لألاقي أحمد ثانية. وكنت أشَعْتُ في المنطقة المحتلة، أني ماضية الى بيروت لإجراء امتحاناتي التي ينبغي أن تحصل في المدة التي حددتها. وحالما بلغتُ مكتب أحمد في صيدا، باشرت بقراءة مقرراتي ريثنما يفرغ من انشغاله. فأصابه الذهول اهتمامي بدروسي على هذا النحو. فقد بدا له انصرافي الى مراجعة دروسي التي لم يتسن لي الاطلاع عليها، قبل أيام قليلة من العملية المزمع تنفيذها، بدا له هذا التصرف غاية في العبث.

ومن جديد رأيته يطرح السؤال نفسه علي: أتراني الأكثر أهليةً، من الناحية النفسانية، للقيام بهذا العمل؟ فأجبتُ، بالإصرار عينه، بأني قادرة على ذلك، وعازمة عليه. فكان لمرافعتي هذه أن تنتهي الى ما تمنيتُ، أي النجاح. وإذا استبعدنا الحل المتمثل في عبوة ناسفة، أشرنا الى فرضية الرصاصات المسمومة حرصاً منا على المزيد من فرص إصابة قائد الميليشيا وإيذائه. وكان أحمد يعرف، على أي حال، مدى نفوري من العنف. وخطر له أن استخدام المسدس من العيار 5ر5 مليمتراً ذي المفاعيل المدمرة، ليس بالأمر العملي. وبالمقابل، فإن مسدساً من العيار الصغير يسعه أن يقوم مقامه.

وما أن اتخذنا قرارنا حتى مضينا الى أرض بور، معزولين عن الناس، للقيام ببعض التدريبات على الرماية. وكنا نعلم أنه ينبغي لنا تنفيذ مخططنا على وجه السرعة، ذلك أننا بتنا في سباق مع الزمن. وشرحت لأحمد رؤيتي للأمور. فأنا لن أطلق الرصاص على رأس الرجل المستهدف، على ما نصحني به، كما أني لن أفرغ كل طلقات مسدسي في جسم عدوي. إنما سوف أكتفي بطلقتين اثنتين أوجههما الى القلب مباشرةً، على نحو ما قررتُ منذ أن عزمتُ على الأمر.

وأخذت الأيام الأخيرة من إقامتي في بيروت تمضي سراعاً كالبرق.

ورحت أعدُ النفس إعداداً يصير من المحال فيه أن يوحي كلامي بظل من خوف أو ارتعاش أو ما شابه. وأشرتُ الى أصدقاء لي بأن يوصوا على قالب من الحلوى للاحتفال بعيد قريب، ومضيت أحدّثْ أختي بأحاديث المشاعر والقلوب، واستأذنت والدي، من دون أن أتفوه بشيء مما في صدري. ولدى إصرار أحمد الذي قضيتُ لديه آخر ليلة من ليالي الحرة خصصتها لتلقي النصائح والتشجيع، أعددتُ رسالة أشرح فيها دوافعي الى العمل. فذكرتُ، في ما ذكرتُ، الحرب الأهلية، والاجتياح الإسرائيلي ومصرع أبطالنا، والإعجاب الذي أبديه، في هذه الأثناء، للانتفاضة التي انطلقت لتوها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي أعتبرها خير مثال على المقاومة والثورة المثالية. ولما كانت هذه آخر لياليّ في منزلنا، عمدتُ سراً الى إحراق صوري الأعز على قلبي والتي أخشى استخدامها من قبل الحزب في الدعاية لصالح شهداء المقاومة. مع ذلك، أعطيت رئيس بعض الصور الكبيرة لي. جعل مظهر هذه الأمور يغيظني، وحين أعلمني أحمد بالإسم الحركي الذي اختاره الحزب لهذه العملية: "زهرة الجنوب"، وضعت حداً للأمر ومضيتُ.

في صبيحة ذلك اليوم المقدر لرحيلي، ودعت أبي من دون أن أعرف إذا كنتُ سأراه يوماً.

بتُ لا أعرف ماذا ينتظرني. ورحت أتخيل أن الأمور توشك منطقياً، أن تسير بخلاف ما أتمناه، وأن العملية يكمن أن تنجح أو تبوء بالفشل، غير أني ما كنت لأستوعب أن يتوقف كل شيء من حولي. ومن ثم توجهت الى الجامعة لإجراء امتحاناتي، على النحو المرسوم. إلا أني وضعت القلم جانباً، قبل الوقت بكثير. وكان أحمد قد وعدني بمرافقتي حتى حدود المنطقة الجنوبية. رأيته في انتظاري خارجاً، فمضينا.

لم تستغرق الرحلة وقتاً طويلاً، ولكن أحمد بدا متوتراً للغاية. كان يخشى من أن ينكشف أمر المسدس في إحدى نقاط التفتيش. وحالما بلغنا المكان، وتبادلنا كلمات قليلة، سار كل منا في وجهته.

ولما بلغتُ الحاجز، وجدتُ أن الجندية المكلفة بتفتيش النساء لم تكن موجودة. ولم يكن بحوزتي إذن بالمرور. وهم جندي بالحلول مكان هذه الأخيرة. أما الجندي هذا فلم أكن أعرفه. وراحت يداه تمعنان تفتيشاً في ثناياي، واستغرقتا زمناً طويلاً. وشعرت أنه لامس، على نحو غير إرادي، المسدس الذي كنت دسسته تحت ثيابي، وكان أحمد قد أحكم وضعه، غير أني وجدته لا يبدي انفعالاً، ما دام خاطره منشغلاً في أمر آخر. ثم خطر لي أن أشير إليه بالكف عن التفتيش طالبةً منه أن أرى "السيد ريمون"، مدعية بأنه في انتظاري، هاله الأمر، فكف للحال عن جسي، وأعفاني من البوابة الإلكترونية. كان رئيسه هنا، غير أني أفلحتُ في التواري بلا عائق يُذكر، بعد أن تبادلنا، أنا ومرؤوسيه، عبارات المجاملة المألوفة.

ولما نظرتُ من حولي، وأنا في منطقة الجنوب المحتلة، وجدتُ أن حالاً من التوتر، أكبر مما كان إبان إقامتي الأولى، تحيط بي من كل ناح. فمن جهة، كانت أجهزة الأمن والمخابرات التابعة لحاصبيا، تسعى، ومنذ زمن بعيد، الى إقناعي بالعمل الى جانبهم. ذلك أني كنت، بنظرهم، مثال المنضوية والمتعاملة، مسيحية وتسكن في بيروت الغربية، وهي حرة التصرف، فوق ذلك. وخيل إلي أن التزامي في صفوفهم سوف يكون مناسبةً جيدة لإبعاد الشبهات عني.

فما أن عدتُ الى مرجعيون حتى أُنبئتُ بأن قائد الأمن، في جيش لبنان الجنوبي، علم الدين، يرغب في رؤيتي. لم تكن تلك المرة الأولى التي أجد نفسي فيها على هذا القدر من القرب. ففي شهر تموز / يوليو، كنت التقيتُ بهذا الرجل في ثكنة حاصبيا. كان سكراناً وراح يرغي ويزبد حيال "الإرهابيين الذين يقتلون رجال جيش لبنان الجنوبي"، وقد بدت رزمات من الدولارات مرمية على مكتبه. وبعد محاولته إرهابي واستخلاص المعلومات مني، من دون أن يفلح في ذلك، اقترح علي أن أمرر لصالحه رسائل الىخارج المنطقة المحتلة، بيد أني آثرتُ ألا أخفي درجة القرابة بين عائلتي والحزب الشيوعي، من دون أن أفصّل في الأمر، ثم عدتُ لأؤكد له إيثاري الاختلاط الطائفي على ما عداه. وانتهيتُ، آخر الأمر، الى القول بأن السياسة لم تكن شاغلي على الإطلاق، وبقيت الأمور عند هذا الحد.

وفي هذه الأثناء، بتُ على يقين أن جهاز الأمن لم يعد يطيق أن يراني أجخل من نقاط تفتيش مختلفة، وهو يسعى الآن لضبط تحركاتي وحصرها. وإذ بدوت قلقة، أخذ عصام يطرح علي الأسئلة. فحاولت أن أفهمه بأني لا أطيق أن أكون موضع مراقبة، وأني لا أدين بشيء لجماعة حاصبيا، ما دمتُ حرة النفس والشخصية. فما كان من زوجته جانيت إلا أن أيدتني في شكواي. فقرر عصام أن يتوسط لصالحي، من دون أن يعلمني بذلك. حتى أنه، وخلال أحد الأعراس في دير ميماس، تصدى للمدعو "كميل" وهو بمثابة اليد اليمنى لعلم الدين، وحال دون إزعاجي.

وانقضت الأسابيع، من دون أن تتراجع حدة التوتر من حولي. تابعتُ إعطاء دروسي في الرياضة الحيوية منتظرة أية فرصة سانحة لزيارة بيت أنطوان لحد.

حتى كان يوم الأحد في أوائل تشرين الثاني / نوفمبر، إذ حضر الى منزلنا في دير ميماس رجال الأمن، والساعة لم تبلغ بعد الخامسة صباحاً. كان هؤلاء يسعون في إثري، ولحسن حظي، كنت قد خرجتُ لقطاف الزيتون، دقائق قليلة سبقت وصولهم. حتى إذا سألتهم والدتي عن الداعي الى السؤال عني، أجابوا بكلام غامض، ومضوا خاليي الوفاض، من دون أن يفصحوا لها عن مقاصدهم الحقيقية. ولما أقلق هذا الأمر والدتي، راحت تخبرني، في وقت متأخر من ذلك النهار، عن تلك الزيارة الصباحية وغير المتوقعة.

وحين عدت الى مرجعيون، مساءً ذلك اليوم الأحد، وجدتُ أن أحدهم عبث بغرفتي وقلب الأغراض فيها رأساً على عقب. والحال أني كنتُ أحتاط للأمر، وأضع ثوباً من أثوابي في وضعية معينة، في خزانتي، حتى إذا تعرضت الأخيرة للتفتيش، أنبأتني تلك الوضعية بالأمر. وحين وصلتُ الى مخبئي، أدركتُ أنه تعرض للنبش. الأمن أيضاً وأيضاً. ولحسن حظي أنهم لم يكتشفوا سلاحي. وكنتُ خبأتُ المسدس الثاني في قرارة جارور طويل جداً وثقيل. فتبين لي أنهم لم يسحبوا الجارور كله، على ما توقعت تماماً.

غير أن الرسالة بدت واضحةً للغاية. لقد صرتُ في مدى نظرهم القريب. وإن هي إلا بضعة أيام حتى ينكشف لهم أمري. وكنتُ على يقين بأن رجال الأمن لم يطلبوا الإذن من أنطوان لحد لنزولهم ذلك الصباح الى منزلنا، بسبب تنامي حس التنافس بين هؤلاء ومرافقي قائد الميليشيا ذاك. ولما كان الناس في المنطقة المحتلة يعرفون كل شيء، فقد تناهى لي أنهم سوف يمهلونني قليلاً قبل معاودة هجومهم. وكنتُ على يقين، أكثر من أي يوم مضى، أن مجرد اعتقالي أو سوقي الى الاستجواب المألوف، من شأنه أن يحطم كل ما بنيته من خيوط الثقة بيني وبين مينرفا لحد.

وأدركت أن الوقت سينفد مني.

ما أصعب اصطناع الفرص. لأيام قليلة خلت وجدتني عائدةً الى مكتب قائد جيش لبنان الجنوبي، ولكنه كان لا يزال يتكلم مع ضابط إسرائيلي. ولكن العد العكسي آخذ في الجريان. وجدتني أطلب مينرفا، للمرة الأخيرة، لأشير لها بأني مضطرة للذهاب الى بيروت، بسبب امتحاناتي بالتأكيد. وأعلمتها بقصدي المرور عليها في يوم غد، الإثنين، لأترك عندها مفاتيح قاعة الرياضة، بالإضافة الى شرائط الفيديو الخاصة بالتمارين الرياضية الحيوية التي طلبتها مني.

فوافقت.

صباح الإثنين، ارتديتُ بنطلوناً أزرق، وقميصاً أبيض، وانتعلتُ باليرين سوداء، وأمكنني الدخول الى ذلك البيت الجميل الذي يقيم فيه الزوجان، من دون أن أثير ريبة أحدهم أو شكه.

وكان عصام قد أقلني بسيارته الى مدخل ذلك البيت، وهو اعتاد الاشتراك في ما يشبه كرنفال السيارات الجاري في شوارع مرجعيون، تزجية للوقت وقتلاً له. وكنت استللتُ، قبل انطلاقي، المسدس من مخبئه بعد أن أخفيته في حقيبتي، وجعلته وسط أغراض صغيرة غيره. أما الرجال المولجون بحراسة قائد جيش لبنان الجنوبي فتركوني وشأني ودعوني أدخل الى البيت.

إنها الرتابة.

هناك وافيتُ مينرفا وصديقة لها إسبانية، وكانتا في الحديقة، ثم عدنا والتقينا بزوج هذه الأخيرة في قاعة الاستقبال.

وفيما بعد، وافانا أنطوان لحد. كان الجو بهجاً. كنا نتكلم الفرنسية، وجعلت مينرفا ترثي، مرة ثانية، لعقليات الناس الضيقة في المنطقة المحتلة. ومن ثم انتقلنا الى قاعة الجلوس. وكان قائد الميليشيا جالساً قرب الهاتف، وكنت على يمينه، تماماً كما تخيلت المشهد. وأخذت الأحاديث تصير عابثة. أمسكتُ عن الكلام، ونأيتُ بنفسي عن الحوارات الجارية.

كنتُ أصغي.

وبعد نصف ساعة أتت الخادمة وسألتنا عما نرغب في شربه. تمتمت ببعض الكلمات شاكرة .. وقلت إن الوقت بات متأخراً وينبغي لي العودة. وأصر مضيفي على البقاء فاصطنعت البقاء لياقةً. أشعل قائد الميليشيا التلفزيون. كانت ساعة الأخبار على قناة المنطقة المحتلة. مر تحقيق عن الانتفاضة. وأتيح لي أن ألمح فتىً فلسطينياً وهو يرمي بالحجر. وكان أنطوان لحد يلهو باللاقط ويستمع من غير انتباه. في هذه اللحظة رن الهاتف. رفع السماعة وللحال تقطب وجهه. كان محدثه في الطرف الآخر من الخط، يعالج مواضيع لا تروقه، في الظاهر.

وجهتُ نظري صوب ساعة الجدار.

كانت الساعة لم تبلغ الثامنة مساءً بعد. وبدا أنطوان لحد، الجالس عن يمين، يواصل كلامه. وللحظة وقع نظره علي وأخذ يرمقني بشيء من الفضول، جذبتُ نحوي الحقيبة الموضوعة لدى قدمي. وكنتُ هادئة هدوءاً غريباً. دسستُ يدي في الفتحة مشيرة الى مينرفا بأني جلبتُ لها المفاتيح والشرائط المسجلة التي طلبتها مني. وفي خفية عن الأنظار، قبضت يمناي بشدة على أخمص المسدس. وفيما أنا جالسة، أخرجتُ قبضتي المسلحة بالمسدس من الحقيبة، وببرودة أعصاب، وللحال صوبت، بذراعي اليمنى، نحو قائد الميليشيا، وأسندتُ معصمي بيسراي.

وعلى التخمين، صوبتُ نحو القلب.

وضغطتُ على الزناد للمرة الأولى، وظننتُ نفسي أرى الطلقة وهي تخترق سترة الثياب الكاكية لقائد الحرب هذا. فما كان من أنطوان لحد إلا أن قفز على قدميه، مذهولاً، تماماً كما توقع أحمد. وسمعتُ شتيمة تخرج من بين شفتيه: "بنت الكلب!". فأطلقت ثانيةً، على ما توقعنا.

سقط أرضاً.

توقفت الحياة لثانية في قاعة الجلوس. وما هي إلا لحظة، حتى شق الصمت عويل مينرفا وقد أصابها الإنهيار، وراحت تملأ الفضاء صراخاً طالبة سلاحاً لتقتص مني، وطوافة عسكرية لإخلاء زوجها. ورميت من حولي بنظرة دائرية، فوجدت الصديقة الإسبانية باهتة، تحدق بي وفي عينيها ما ينم عن اختلال. أما زوجها الذي شله الرعب، فراح يرمقني وكأن دوره آتٍ لا محالة، فاغتنمت فرصة الذهول هذه ورميتُ بالمسدس في غرفة النوم المتفرعة عن قاعة الجلوس، وأردت أن أكسب بعض الوقت. ولسوف يبحث الحراس عن السلاح، وحين يفتشون الغرفة يجدونه، وهذا ما لن يتأخر حصوله.

وعلى بعد مترين مني، رأيتُ جسد الميليشيويّ يدور على نفسه أرضاً، ويتوقف بلا حراك.

تم لي ما أردت، ونجحتُ في القيام بعمليتي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى